خمس سنوات على "نبع السلام": مخاوف أنقرة وخصومها لا تتبدد

08 أكتوبر 2024
قوات من المعارضة الموالية لأنقرة في تل أبيض، 18 أكتوبر 2019 (بكر القاسم/فرانس برس)
+ الخط -

لم تبدد عملية "نبع السلام" التي قام بها الجيش التركي قبل خمس سنوات في شمال شرق سورية، مخاوف أنقرة من فرض إقليم ذي صبغة كردية على حدودها الجنوبية، إذ لم يسمح الجانبان الروسي والأميركي للأتراك التوغل في العمق السوري أكثر من 30 كيلومتراً وعلى طول 100 كيلومتر. وفي التاسع من أكتوبر/تشرين الأول 2019، بدأ الجيش التركي عملية عسكرية واسعة النطاق أطلق عليها اسم "نبع السلام" ضد "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) في شمال شرق سورية أو ما بات يُعرف اصطلاحاً بشرق الفرات، بمشاركة فصائل سورية معارضة موالية لأنقرة. لم تطل العملية العسكرية طويلاً حيث تدخّل الجانبان الأميركي والروسي لوضع حد للتوغّل التركي في عمق الأرض السورية والذي كان من شأنه توسيع النطاق الجغرافي للنفوذ التركي على امتداد الشمال السوري، وهو ما لم تقبل به موسكو وواشنطن. وسيطر الجيش التركي نتيجة هذه العملية على شريط حدودي يمتد بطول أكثر من 100 كيلومتر، ويضم مدينتي تل أبيض في ريف الرقة الشمالي، ورأس العين في ريف الحسكة الشمالي الغربي، والقسم الأكبر من ريفهما في شرق الفرات. واستطاعت فصائل المعارضة السورية المدعومة من الجيش التركي التوغّل جنوباً، حتى وصلت إلى الطريق الدولي "ام 4" الذي يبعد نحو 30 كيلومتراً عن الحدود السورية ـ التركية، ويربط محافظة حلب بمحافظة الحسكة ويعد من الشرايين الحيوية في المنطقة.

تدخّل روسيا لوقف عملية "نبع السلام"

ودفعت العملية التركية في ظل تراخٍ أميركي، "قسد" التي تشكل الوحدات الكردية ثقلها الرئيسي، للتوجه إلى الجانب الروسي للتدخّل لوضع حد للعملية التركية والتي شكلت تهديداً وجودياً مباشراً لهذه القوات في شمال شرق سورية. وفي 22 أكتوبر 2019، اتفق الجانبان التركي والروسي في قمة رئاسية في مدينة سوتشي الروسية، على انسحاب "قسد" إلى عمق 33 كيلومتراً داخل الأراضي السورية، بعيداً عن الحدود التركية، مع تسيير دوريات عسكرية تركية ـ روسية مشتركة بعمق 5 كيلومترات على طول الحدود، باستثناء المنطقة التي سيطر عليها الأتراك ما بين مدينتي تل أبيض ورأس العين. في المقابل، حصل الروس على امتيازات في شرق الفرات من قبيل إقامة قواعد عسكرية في مناطق سيطرة "قسد" خصوصاً في القامشلي، ما جعلهم لاعباً مهماً في المنطقة الأكثر أهمية وغنى بالثروات، والتي تعد اليوم محط تنافس كبير بينهم وبين الأميركيين والأتراك.

وجاءت "نبع السلام" بعد أقل من مرور عامين على عملية "غصن الزيتون" في منطقة عفرين غربي نهر الفرات، والتي انتهت بخروج الوحدات الكردية من هذه المنطقة التي يشكل الأكراد غالبية سكانها. وعلى الرغم من ذلك، يبدو أن مخاوف أنقرة من خطر "قسد" لم تتبدد، إذ ما تزال تلوّح بعملية ثالثة ترفضها حتى اللحظة موسكو وواشنطن ما يدفع الجيش التركي إلى شن حرب مسيّرات ضد مرافق حيوية ومنشآت نفطية في محافظة الحسكة أقصى الشمال الشرقي من سورية، واستهداف قياديين في "قسد" التي تُعد بنظر الأتراك جناحاً سورياً لحزب العمال الكردستاني. ولوّح الأتراك كثيراً بعمليات مماثلة ضد "قسد" التي يثير تقارب أنقرة مع دمشق خلال العام الحالي مخاوفها من عملية جديدة ضدها، قد لا تتوقف هذه المرة عند حدود جغرافية محددة.

هشام جوناي: ما دامت القوات الكردية موجودة في شرق الفرات فالمخاوف التركية مستمرة ولم تتبدد بعد

وتضع أنقرة في رأس أولوياتها القضاء تماماً على "قسد" من خلال التنسيق العسكري مع النظام السوري، إلا أن الخطط تبدو غير ذات أهمية في ظل حماية الولايات المتحدة لـ"قسد" باعتبارها الذراع البري لمواجهة تنظيم داعش في شرق وشمال شرق سورية. وقال المحلل السياسي التركي هشام جوناي، في حديث مع "العربي الجديد"، إنه "ما دامت القوات الكردية موجودة في شرق الفرات فالمخاوف التركية مستمرة ولم تتبدد بعد". وتابع: "نعم، دخلت القوات التركية إلى عمق الأراضي السورية لحماية أمنها القومي، إلا أن الولايات المتحدة مستمرة في دعم "قسد" لإنشاء كيان كردي في المنطقة، نرى أنه يتطور لدرجة أنه أصبح يشبه الحكم الذاتي". ورأى جوناي أن "تركيا حمت حدودها من خلال عملية نبع السلام"، مضيفاً: "لكن الخطر الذي يهدد أمنها الآن وفي المستقبل ما يزال موجوداّ، وهو وحدات الحماية الكردية".

مشاكل قائمة

وبعد مرور خمس سنوات على عملية "نبع السلام"، ما تزال المنطقة التي باتت اليوم تحت سيطرة فصائل المعارضة السورية، تعاني من ذات المشاكل التي تعاني منها كل المناطق التي تخضع لهذه الفصائل، خصوصاً لجهة الفوضى الأمنية وعدم وجود جهات فاعلة تطبّق القوانين بحق المتجاوزين على حقوق السكان.

وفي هذا الصدد، أوضح الصحافي نوار الرهاوي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن الخدمات في المنطقة "تحسنّت بشكل ملحوظ، حيث أصبحت المياه والكهرباء متوفرة لمعظم القرى وهو ما لم يكن متاحاً حتى قبل الثورة أو خلال فترة سيطرة قسد". لكنه أشار إلى أن "قطاع التعليم يعاني من نقص في الكوادر التعليمية المؤهلة، كما يواجه الطلاب الذين يكملون التعليم الأساسي والثانوي صعوبة في استكمال تعليمهم الجامعي"، مؤكداً أن "قطاع الصحة يعاني من نقص حاد في الأطباء المتخصصين والكوادر الطبية، لعدم وجود رواتب كافية توفر لهم مستوى معيشيا جيدا".

نوار الرهاوي: خروج قسد من المنطقة أوقف عمليات التجنيد الإجباري للأطفال والكبار تحت تهديد السلاح

وحول الوضع الأمني، أكد الرهاوي، الموجود في المنطقة، أنه "شهد تحسناً ملحوظاً بعد ثلاث سنوات من السيطرة على المنطقة، وتم ضبط الحدود بشكل أفضل كما توقفت الانتهاكات التي كان يتعرض لها السكان من اعتقالات تعسفية وسرقة وابتزاز". وتابع: "أصبحت المسؤولية الآن تقع على عاتق الشرطة المدنية والعسكرية والقضاء، ما ساهم في تحسين الأمن ومحاسبة جزء كبير من المخالفين سواء كانوا عسكريين أو مدنيين". وبيّن أن "خروج قسد من المنطقة أوقف عمليات التجنيد الإجباري للأطفال والكبار تحت تهديد السلاح"، مضيفاً: "لا تزال المنطقة تعاني من وضع اقتصادي صعب، فهي تعتمد بشكل كبير على الزراعة، إلا أن الفلاحين يواجهون صعوبات في التسويق وتوفير البذور باهظة الثمن، مع غياب الدعم من المنظمات أو الحكومة المؤقتة والمجالس المحلية، إضافة إلى ذلك فإن قلة وجود مصانع ومعامل إنتاجية تقلل فرص العمل المتاحة، مما يدفع الكثيرين للاعتماد على التحويلات المالية من أقاربهم في أوروبا أو تركيا لتلبية احتياجاتهم اليومية".

في المقابل، تتحدث منظمات حقوقية كردية عن تجاوزات كبيرة من قبل الفصائل بحق المكوّن الكردي في المنطقة. وقالت 126 منظمة كردية في بيان صدر أمس الثلاثاء إنها أحصت خلال خمس سنوات من الوجود التركي في منطقتي تل أبيض ورأس العين عشرات حالات الاعتقال بحق مدنيين من بينهم نساء، فضلاً عن اختفاء واحتجاز المئات، مشيرة إلى أن نحو 150 ألف شخص من سكان المنطقة مهجرون اليوم في عدة مناطق شمال شرقي سورية. وأكدت أن أغلب سكان رأس العين من الأكراد مهجرون عنها، زاعمة أن الفصائل استولت على منازل المهجرين قسراً وأسكنت فيها عائلات سورية أخرى نازحة من عدة مناطق. وقالت هذه المنظمات في بيانها أمس إن المنطقة "فقدت الأمن والاستقرار ولا تزال تعيش تحت وطأة الانتهاكات وانعدام سيادة القانون"، على الرغم من مرور خمس سنوات على العملية التركية. واتهمت أنقرة بالسعي إلى "تغيير البنية الديمغرافية والثقافية للمناطق التي تسيطر عليها في شرق الفرات من خلال التهجير القسري، وممارسة التتريك العلني"، مشيرة إلى أن أنقرة "غضت الطرف عن انتهاكات فصائل الجيش الوطني ما أدى إلى تفشي الجرائم".

المساهمون