12 عاماً من الفراغ النقابي بمصر: صورة للتصحر السياسي

15 ابريل 2018
تقلّصت الاحتجاجات العمالية نتيجة القبضة الأمنية (جون مور/Getty)
+ الخط -
قبل نحو 12 عاماً، أُجريت آخر انتخابات عمالية في مصر، سيطرت عليها آنذاك القيادات العمالية التابعة لـ"الحزب الوطني" المنحل في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك. ومنذ ذلك الحين، لم تجرِ انتخابات على مستوى النقابات العمالية، بل تم تمديد الدورات النقابية منذ انتهاء آخر دورة نقابية عام 2011. وعلى أعتاب انتخابات مقررة في مايو/أيار المقبل، يبدو أن الأمر لم يختلف كثيراً عن عهد "الحزب الوطني" وقياداته الحاكمة، بل إن مراقبين يعتبرون الوضع "أكثر سوءاً عما قبل"، على الرغم من المحطات المهمة والفارقة التي شهدتها الساحة النقابية والعمالية على مدار السنوات الماضية، والتي كان من المفترض أن تقلب موازين القوى تماماً.

لكن المشهد العمالي اليوم، جزءٌ مصغر من المشهد السياسي في مصر، أصابه ما أصابه من تقلبات وانقلابات، من شأنها أن تؤدي إلى مشهد انتخابات نقابية عمالية ستتشابه كثيراً مع الأجواء السياسية التي أحاطت بالانتخابات الرئاسية المنتهية منذ أسابيع. فكيف كانت محطات المشهد النقابي العمالي على مدى 12 عاماً؟

تزوير قبل النقابات المستقلة
في منتصف العام 2006، أجرى الاتحاد العام لنقابات عمال مصر "الرسمي" الانتخابات النقابية، وكان مجلس إدارته حينها يضم 23 عضواً، منهم 21 عضواً في "الحزب الوطني"، وهي انتخابات طُعن فيها لاحقاً، ولكنها استمرت حتى انتهاء الدورة النقابية كاملة لعام 2011.

أولى المراحل المهمة في مسار النقابات، كانت في العام 2008 مع بدء ظهور نواة تشكيل النقابات المستقلة. ففي 20 ديسمبر/كانون الأول 2008 عُقد المؤتمر التأسيسي للنقابة المستقلة للعاملين في الضرائب العقارية، بقيادة المناضل العمالي كمال أبو عيطة، في نقابة الصحافيين المصرية، بحضور حوالي خمسة آلاف عضو.

كان هذا المؤتمر بمثابة الخطوة الأولى في سعي الحركة العمالية المصرية المستقلة إلى إنشاء أول نقابة مستقلة بعيداً عن الاتحاد العام لنقابات عمال مصر "الرسمي" الذي كان بمثابة الذراع العمالي لـ"الحزب الوطني" المنحل، بتأسيس النقابة العامة للعاملين بالضرائب العقارية، لتصبح النقابة رقم 24، في جدول النقابات العمالية العامة، والأولى في جدول النقابات العمالية المستقلة. وعلى نهج النقابة المستقلة للضرائب العقارية، سارت ثلاث نقابات عمالية مستقلة أخرى، قبل الثورة، على الرغم من التضييق الشديد عليها من قبل الجهات الأمنية ووزارة القوى العاملة والهجرة المصرية.

أما التطور الأبرز، فكان في 30 يناير/كانون الثاني 2011، حين دشّن نقابيون مصريون في خيمة صغيرة في قلب ميدان التحرير، الاتحاد المصري للنقابات المستقلة، برئاسة كمال أبو عيطة، للمرة الأولى في مصر، ليعمل في مواجهة الاتحاد العام لنقابات عمال مصر الرسمي، ويرفع شعار "الحريات النقابية" في وجه الاتحاد الحكومي.

إعلان الحريات النقابية
استمدت النقابات المستقلة في مصر، قوتها من المؤتمر الصحافي الذي حضره المدير العام لمنظمة العمل الدولية حينها، خوان سومافيا، في 12 مارس/آذار 2011، والذي أعلن فيه وزير القوى العاملة والهجرة المصري السابق، أحمد حسن البرعي، إصدار إعلان الحريات النقابية للمرة الأولى في مصر. وبناء عليه تم رفع اسم مصر للمرة الأولى في تاريخها، من قائمة الملاحظات القصيرة لمنظمة العمل الدولية، المعروفة إعلامياً بـ"القائمة السوداء" والتي تضم الدول المنتهكة للحقوق والحريات العمالية والنقابية، قبل أن تعود مصر للقائمة من جديد في العام التالي وحتى اليوم. إلا أن تلك الخطوات المتسارعة نحو الحريات النقابية في مصر، تعطّلت كثيراً نتيجة التباطؤ في إصدار قانون جديد للنقابات العمالية، يؤكد شرعية ما بنته ثورة يناير/كانون الثاني، ويمحي أطلال الماضي.

وبعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، وتحديداً في الرابع من أغسطس/آب 2011، أعلنت الحكومة المصرية، ممثلة في وزير القوى العاملة والهجرة، آنذاك، أحمد البرعي، تنفيذ أحكام القضاء ببطلان الانتخابات النقابية للاتحاد عن دورة 2006 -2011 وحل مجلس إدارة الاتحاد، وتشكيل لجنة إدارية مشرفة عليه حتى فترة الانتخابات المقبلة، والتي لم تتم حتى اليوم. وفي مساء ذلك اليوم، كانت مدرعات الشرطة تحاصر مبنى الاتحاد العام لنقابات عمال مصر الرسمي، لتنفيذ قرار البرعي بحل مجلس إدارة الاتحاد العام لنقابات عمال مصر، تنفيذاً للأحكام القضائية.

وبعد القرار "الثوري" بتنفيذ أحكام القضاء وحل مجلس إدارة الاتحاد الرسمي، طرحت الحكومات المتعاقبة مسودات لقانون النقابات العمالية الذي يقنّن أوضاع النقابات المستقلة، والذي ستُجرى على أساسه الانتخابات في الاتحادات العمالية، الحكومية منها والمستقلة، إلا أن تلك المسودات ظلت حبيسة الأدراج، على الرغم من الحوارات المجتمعية والمناقشات التي تمت مع كل مسودة.

تمديد متواصل

نتيجة عدم صدور قانون جديد للنقابات العمالية المصرية حتى الآن، قامت الحكومات المتعاقبة بتمديد فترة الدورة النقابية لمدة ستة أشهر من تاريخ انتهاء كل دورة نقابية. وانتهت أول دورة نقابية للاتحاد الرسمي، في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، ومدّد المجلس العسكري فترتها بموجب المرسوم بقانون رقم 3 لسنة 2012 في 2 يناير/كانون الثاني 2012 لمدة ستة أشهر. ثم تم تمديدها مرة أخرى لمدة مماثلة بالقانون رقم 18 لسنة 2012 في 23 إبريل/نيسان 2012. ومددها الرئيس المصري المعزول، محمد مرسي، لمدة مماثلة بقرار رقم 97 لسنة 2012 بتعديل بعض أحكام قانون النقابات العمالية وتمديد الدورة النقابية للاتحاد فترة إضافية، بدلاً من إصدار قانون جديد للحريات النقابية، واستمرت قرارات تمديد الدورات النقابية للاتحاد الرسمي، على هذا الحال.

وبعد تولي محمد مرسي مقاليد الحكم في مصر، وتشكيل حكومة هشام قنديل، التي تولى فيها القيادي في جماعة "الإخوان المسلمين" خالد الأزهري منصب وزير القوى العاملة والهجرة، لم يختلف الوضع كثيراً عن الفترة التي تولى فيها أحمد حسن البرعي، أحد مؤسسي حزب "الدستور" الليبرالي، للوزارة. بل كان البرعي، أكثر حسماً وثورية من كل من تبعه من وزراء للقوى العاملة والهجرة في ما بعد. ولم يتمكن الأزهري، من إنهاء قانون للنقابات العمالية لتُجرى على أساسه الانتخابات العمالية، بل إنه مدد الدورة النقابية مرتين خلال العام الذي تولى فيه منصب وزير القوى العاملة والهجرة، وذلك نتيجة لحل مجلس الشعب في يونيو/حزيران 2012.

عودة لـ"القائمة السوداء"
لم يكن أحد يتخيل أن يناصر القيادي العمالي، مؤسس الاتحاد المصري للنقابات المستقلة، كمال أبو عيطة، النظام المصري بعد انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013، حتى تم تعيينه وزيراً للقوى العاملة والهجرة. فشل أبو عيطة في إدارة الوزارة، إضافة إلى فشله في الإبقاء على الاتحاد المستقل الذي كان بمثابة واحد من مكتسبات الثورة، الأمر الذي انتهى به إلى سلسلة استقالات من مجلس إدارته ومكتبه التنفيذي، نتيجة التخبّط الشديد في قراراته وعمله، ومحاولة تقربه وتودده للحكومة.

ويكفي أبو عيطة الذي دخل مجلس الشعب عام 2011 على قائمة جماعة "الإخوان المسلمين"، ما طاولته من انتقادات لاذعة وصلت حدّ "التبرّؤ والندم" على ماضٍ مشترك، من أصدقاء دربه في الجناح اليساري من النضال الثوري في مصر، الذي كان أبو عيطة واحداً من مناضليه وقياداته، على خلفية سفره للولايات المتحدة الأميركية، بصحبة رئيس "تيار الاستقلال" أحمد الفضالي، أحد المتهمين المُبرّئين من موقعة قتل الثوار يوم 2 فبراير/شباط 2011، التي عُرفت إعلامياً بـ"موقعة الجمل"، لتأييد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في جولاته الخارجية.

ثم انتهى الحال به بأن خرج من الوزارة في أول تعديل لها، من دون أن يعرف، إذ وصله الخبر من وسائل الإعلام، واختفى منذ ذلك الحين، بينما يعمل على استحياء كمستشار إعلامي لواحدة من المنظمات الحقوقية المختصة بالشأن العمالي المصري. وعادت مصر مجدداً على قائمة ملاحظات منظمة العمل الدولية المعروفة إعلامياً بـ"القائمة السوداء".

انقلاب المشهد
توالت الضربات التي تلقتها النقابات المستقلة في مصر مراراً وتكراراً. البداية كانت مع مرسوم القانون الذي أصدره المجلس العسكري المصري، الذي تولى مقاليد الحكم عقب الثورة، رقم 34 لسنة 2011 والذي جرّم الحق في الإضراب، وبموجبه حكمت المحكمة العسكرية في القضية رقم 2535 لسنة 2011 بحبس 11 عاملاً لمدة عام، والنهاية كانت بـ"قانون التظاهر".

وكان إصدار "قانون التظاهر" (القانون رقم 107 لسنة 2013) من قبل النظام المصري الحالي، نقطة تحوّل، فأصبح الحق في التظاهر محرّماً حالياً في مصر، ما تسبّب في اعتقال الآلاف من النشطاء السياسيين في الحركات الثورية المدنية والتيارات الإسلامية والعمال. أما الاتحاد المصري للنقابات المستقلة، وبعد الاستقالات المتتالية في مكتبه التنفيذي اعتراضاً على سياسات الاتحاد وولائه للنظام، وانسحاب العديد من النقابات المستقلة من تحت مظلته، لم يبقَ منه سوى مقر في وسط القاهرة، وأعضاء مكتب تنفيذي منشغلون بالعمل السياسي لا النقابي.

وتستمر الملاحقات الأمنية للقيادات العمالية المستقلة، منذ منتصف عام 2013، وحتى الآن، وكان آخرها مذكّرة من اللجنة الإدارية لاتحاد نقابات عمال مصر الرسمي، تقدّم بها لسحب كل المقار المخصصة للنقابات المستقلة، على ضوء الكتاب الدوري الصادر عن مجلس الوزراء في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، بمواجهة "العناصر الإثارية". وتقلّصت الاحتجاجات العمالية في الشارع المصري رويداً رويداً منذ ذلك الحين، نتيجة القبضة الأمنية التي طاولت المجال العام في مصر. وفي هذه الأثناء، كان فلول الاتحاد العام لنقابات عمال مصر، يعيدون تشكيله وتأهيل قياداته الموالية للنظام مجدداً وسط ضعف وتشرذم الكوادر العمالية المستقلة، استعداداً لإجراء أول انتخابات عمالية في مصر منذ نحو 12 عاماً.

المساهمون