السيسي يبيع مصر: من غاز المتوسط إلى منطقة قناة السويس

04 ديسمبر 2018
من التظاهرات الرافضة للتنازل عن تيران وصنافير(محمد الشاهد/فرانس برس)
+ الخط -


يجسد قرار حكومة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بمنح 49 في المائة من مشاريع المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، لشركة موانئ دبي العالمية، حلقة جديدة في مسلسل التنازل عن ثوابت السيادة المصرية على أراضيها وبيع أصول الموارد للدول الأجنبية، خصوصاً للسعودية والإمارات. وكانت الحكومة المصرية تتحدث منذ 4 سنوات عن تحويل المنطقة الاقتصادية لقناة السويس إلى محور لوجيستي وصناعي عالمي ينافس دبي، لكن الأمر انتهى إلى منح حصة تقترب من نصف المنطقة إلى الشركة التي من المفترض أنها المنافس الإقليمي الأول لمصر، والأنموذج الذي كان المسؤولون المصريون يتصورون أن بإمكان مشروع المنطقة الاقتصادية لقناة السويس تهديده اقتصادياً.

وعلى الرغم من أن الحكومة نفت رسمياً وصف عملية البيع بأنها "تنازل"، مفضلة إضفاء وصف "الاستثمار" عليها، إلا أن تفاصيل الصفقة تؤكد أن شركة موانئ دبي ستكون لها اليد الطولى في منطقة القناة مستقبلاً. فقد أعلن رئيس الهيئة الاقتصادية لقناة السويس، الفريق مهاب مميش، أن الاتفاق يتضمن تطوير 94 كيلومتراً داخل المنطقة الاقتصادية للقناة باستثمارات 20 مليار دولار، في حين تم منح 6 كيلومترات فقط لشركة صينية، وحصلت باقي الشركات الأوروبية والأميركية على مساحات أقل.

وتم منح شركة دبي هذه المساحة وذلك الامتياز على الرغم من سابقة فشل الشركة في إدارة ميناء العين السخنة على مدى 11 عاماً، منذ منحها امتياز تشغيل الميناء في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، مقابل 670 مليون دولار، ولم يظهر خلالها الميناء المميز بموقعه الجغرافي على خريطة الاقتصاد العالمي، بل إن موانئ مصر القديمة التي لم تُستثمر كالإسكندرية ودمياط وبورسعيد ما زالت نقاط القوة الأساسية لحركة التبادل التجاري والخدمات اللوجستية في مصر. ويُرجع مراقبون ذلك الأمر إلى أن الإمارات تستثمر في الواقع بهدف وقف أو إبطاء نمو المنافسين الإقليميين المحتملين، وبالأخص مصر، مستغلة ضعف الاقتصاد المصري وتبعية النظام سياسياً لها وللسعودية، والعلاقة الخاصة التي تجمع السيسي بقادة دبي وأبوظبي.

انطلاق مسلسل التنازلات
تؤكد قرارات السيسي السابقة أن تنازلاته السياسية والاقتصادية للدول الداعمة له، تحديداً عن قطاعات ومرافق لطالما اعتبرها المصريون "لا تُشترى" أو "ذات طابع سيادي"، تحوّلت إلى مسلسل معتاد، لا يؤدي فقط إلى استمرار تقزيم دور مصر الإقليمي، بل أيضاً ينال من حقوق الأجيال المقبلة في الإرث والموارد.
وشهد عهد السيسي لأول مرة تنازل مصر طوعاً عن جزء من أراضيها، متمثلاً في جزيرتي تيران وصنافير، اللتين منحهما للسعودية بإجراءات متتالية منذ إبريل/ نيسان 2016 وحتى أغسطس/ آب 2017، مقابل بعض الهبات والقروض وبزعم تمكين مصر من التنقيب عن الثروات الطبيعية في مكامنها المحتملة بالبحر الأحمر، الأمر الذي لم يحدث حتى الآن، مقابل إعلان السعودية ضم الجزيرتين لمشروع "نيوم" الاستثماري والسياحي، فضلاً عن تمهيد الطريق لعلاقات جيرة غير مسبوقة بين السعودية والاحتلال الإسرائيلي. لكن الثمن كان خسارة مصر لسيطرتها التامة على مضيق تيران، الممر الملاحي الوحيد في خليج العقبة، والذي كان الهدف الاستراتيجي لحروب عديدة خاضتها مصر مع إسرائيل.

ومثلما ضرب السيسي بالدستور والقانون وأحكام القضاء عرض الحائط في ملف تيران وصنافير، من دون مصارحة شعبه بمبررات هذا التنازل التاريخي، عبثت حكومة السيسي بملف آخر كان يُعتبر من الثوابت الوطنية لمصر، وهو الجنسية المصرية، فتم السماح في أغسطس/ آب الماضي بمنح الأجانب الجنسية المصرية مقابل وديعة قدرها 7 ملايين جنيه (أقل من 400 ألف دولار)، على الرغم من رفض القضاء لهذا القانون. وكان من العوامل التي كشفتها مصادر حكومية لـ"العربي الجديد" لإصدار هذا القانون، أن العديد من المستثمرين الإماراتيين والسعوديين كانوا يرغبون في تملّك مساحات شاسعة من الأراضي في سيناء تحديداً، وكذلك في بعض المناطق الصحراوية الواعدة بالدخول في نطاق المدن الجديدة، لإقامة مشاريع سياحية وسكنية، الأمر الذي لا يجد السيسي أي غضاضة فيه. لكن التشريع المصري، حتى اللحظة، يمنع الأجانب من التملّك في أراضي سيناء وكذلك في تلك الأراضي الصحراوية التي تديرها الحكومة، ويضع لحصولهم على حق الانتفاع قيوداً لا تناسب طموحات المستثمرين، فكان السيسي يصدر قرارات محددة بمعاملة بعض رجال الأعمال الخليجيين أو أمراء بعينهم، كمواطنين مصريين في تملّك مساحات معينة، كما حدث مع ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة منذ عامين.

وأصبح للمستثمرين العرب بعد حصولهم على الجنسية المصرية مقابل الوديعة، حقوق المواطنين المصريين نفسها، بل إن القانون الذي أصدره السيسي يوكل وزير الداخلية ومجلس الوزراء بإصدار اللوائح والقرارات المنظمة لمنح الجنسية للأجانب المقيمين بوديعة 7 ملايين جنيه، وذلك بشكل مخالف لنص المادة 6 من الدستور الحالي، التي تنص على أن "يحدد القانون (وليس بقرار لائحي) شروط اكتساب الجنسية المصرية".

الثروات الطبيعية مستهدفة
ولم تسلم الثروات الطبيعية من التنازلات، بل كانت هي المستهدف الأول لجهة التعاقب الزمني، إذ رسخ نظام السيسي ما جرى بين مصر وقبرص والاحتلال الإسرائيلي في أواخر عهد حسني مبارك، عندما تم ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص وتقاسم المياه الاقتصادية بين البلدين بالتساوي، فسمحت هذه الاتفاقية لقبرص وإسرائيل بالمسارعة لاستغلال حقول غاز طبيعي عملاقة في مناطق تؤكد تقارير جغرافية وملاحية مصرية وأميركية أن النقاط الحدودية للدولتين، وفلسطين المحتلة "تتداخل فيها، بما لا يعطي حق الملكية المطلقة لأي طرف".

وسارعت تل أبيب، بعدما قامت بترسيم منطقتها الاقتصادية مع قبرص من دون الاعتداد بحق مصر في مراجعة ذلك، إلى إعلان اكتشاف حقل ليفياثان العملاق شرق المتوسط (المصدر الرئيسي لتصدير الغاز اليوم إلى مصر)، على الرغم من ابتعاده مسافة 235 كيلومتراً من آخر نقطة ساحلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهي حيفا، وابتعاده 190 كيلومتراً فقط عن ساحل دمياط المصرية، بحسب دراسات أجراها الباحثان المصريان خالد عودة ونائل الشافعي. هذه الدراسات كانت محل دعوى قضائية أقامها الدبلوماسي المصري السابق إبراهيم يسري أمام القضاء المصري عام 2012، لإلزام الرئيس في حينها محمد مرسي، بإعادة دراسة الاتفاقية الموقّعة مع قبرص، وإبلاغ الهيئات الأممية بتعدي إسرائيل على المياه الاقتصادية المصرية، واستفادة بعض الشركات التي سبق وأجرت أنشطة استكشافية في المنطقة من استمرار تبعية مناطق محددة لقبرص والاحتلال الإسرائيلي على الرغم من قربها أكثر للشواطئ المصرية، فضلاً عن اعتمادها على حدود افتراضية غير معترف بها دولياً للمياه الإقليمية الإسرائيلية، وهو ما دفع مجلس الشورى في مارس/ آذار 2013 إلى تبنّي مشروع مبدئي لإلغاء الاتفاقية أو تعديلها لتأمين المصالح المصرية.


لكن المشروع البرلماني بإلغاء الاتفاقية ذهب أدراج الرياح بعد الانقلاب العسكري، وإطاحة السيسي بحكم محمد مرسي، ليبدأ سياسة جديدة إيجابية نحو الاحتلال وقبرص واليونان، تمادياً في الخصومة مع تركيا. وبدأ فور عزل مرسي محادثات جادة لإغلاق ملف الحدود البحرية مع قبرص، ليس للتعديل، بل لتفعيل ما كان يخشى مبارك تفعيله، إذ كان الأخير حذراً ويرى ضرورة تأجيل حسم ملف الحدود وتقاسم ثروات المتوسط في المناطق المتشابكة إلى حين تسوية النزاعات التركية اليونانية من جهة، ولعدم التورط في الاعتراف بحدود المياه الإقليمية المزعومة للاحتلال الإسرائيلي، من جهة أخرى.

ونبع تحرك السيسي من حساباته المخالفة لمبارك، فهو لا يتعامل مع الاحتلال كعدو إقليمي، بل كحليف استراتيجي وأمني وعسكري، وبدلاً من ترسيم الحدود مع الاحتلال بشكل مباشر، شهد عام 2013 وما تلاه اتفاقات متتالية على قاعدة نهائية ملزمة لمصر وقبرص لتقاسم مكامن الغاز في المناطق الاقتصادية بين البلدين بسبب تداخل بعض العلامات الحدودية وصعوبة فصلها. هذا الأمر كان قد أدى سابقاً لانسحاب شركة "شل" ورفض بعض الشركات العالمية الأخرى توسيع أعمالها في مصر قبل تسوية المشاكل الحدودية حرصاً على أموالها، أخذاً في الاعتبار أن قبرص كانت قد سبقت مصر للاستثمار في تلك المناطق بواسطة شركة "إيني" الإيطالية التي تدير حالياً حقل ظهر المصري العملاق، وشركة "توتال" الفرنسية، وشركة "نوبل" الأميركية.
ورحبت الحكومة الإسرائيلية بهذه الاتفاقات ليس فقط لأنها تكرس سيطرتها الفعلية على بعض حقول الغاز في عمق المتوسط نتيجة أسبقية ترسيم المناطق الاقتصادية بين قبرص والاحتلال، ولكن أيضاً لأن إغلاق هذا الملف يقرّب أكثر من أي وقت مضى خطوة ترسيم الحدود البحرية مع مصر، أو على الأقل الاتفاق على حدود المناطق الاقتصادية بين العدوين السابقين.

وطاولت التنازلات أيضاً الحقوق المصرية التاريخية في مياه النيل، فبعد 3 أعوام من توقيع السيسي على اتفاق الخرطوم مع إثيوبيا والسودان، ثبت قبول القاهرة بإنشاء سد النهضة الذي سيلحق ضرراً أكيداً بحصة المواطن المصري من المياه، مقابل تعهدات غير حاسمة بعدم الإضرار. وجاء برنامج الحكومة الحالية الذي أُعلن في يوليو/ تموز الماضي، متضمناً بنداً ينص على تفعيل العمل بالاتفاقية الإطارية لدول حوض النيل، وهي الاتفاقية التي رفضت مصر التوقيع عليها سابقاً لأنها تتناقض مع حصة مصر التاريخية من المياه والبالغة 55.5 مليار متر مكعب سنوياً وفق اتفاقيتي 1929 و1959.

وعلى الرغم من عدم اتخاذ خطوات تنفيذية بهذا الشأن حتى الآن، إلا أن تحركات الحكومة تؤكد أن تنازلها عن حصة مصر التاريخية بات أمراً محتوماً، إذ يجري التفاوض الآن بين القاهرة وأديس أبابا على أفضل الحلول لإلحاق "أقل الأضرار" بمصر، وليس منع وقوع الضرر، كما أن السيسي يبدو قريباً من إعادة تفعيل عضوية مصر في مبادرة حوض النيل التي جمد مبارك عضوية مصر فيها عام 2010.
وتسعى الحكومة الآن للحصول على قروض ضخمة من دول خليجية وأوروبية لتمويل مشاريع تحلية مياه البحر، ما يشي بحتمية تقليل كميات المياه التي ستصل إلى مصر أو تعديل توقيت وصولها حسب الاتفاق الإطاري أو الاتفاق مع إثيوبيا حول سد النهضة، علماً أن توقيع مصر أو السودان على الاتفاق الإطاري سيؤدي لتفعيلها مباشرة.

بيع الأملاك العامة
أما المنجزات الاقتصادية والعقارية للحقب السابقة فباتت قاب قوسين من البيع بعد إصدار قانون الصندوق السياسي الجديد، المسمى "صندوق مصر"، والذي يسمح باستغلال واستثمار وبيع الأملاك العامة التي من المفترض دستورياً أن الدولة تديرها بالنيابة عن الشعب، بحجة أن تلك الأملاك هي أصول غير مستغلة، وأن الدولة عاجزة عن استغلالها بالصورة المثلى. وستُنقل بعد تطبيق القانون من حيزها العام إلى الحيز الخاص، وستضفي عليها صفة أنها من أملاك الدولة الخاصة، ما يعني أن حصيلة استغلال تلك الأملاك لن تخصص للمنفعة العامة، بل سيعاد تدويرها واستغلالها في أنشطة الصندوق الأخرى التي ستمارس بمعزل تام عن الأجهزة الرقابية.

وتجري وزارتا التخطيط والاستثمار اتصالات مع دول رئيسية، من بينها السعودية والإمارات، لإتمام شراكات استثمارية بين الصندوق المصري وبعض الصناديق الاستثمارية في تلك الدول، وذلك بهدف تأسيس صناديق مشتركة أو شركات مساهمة، تخرج بأصول الصندوق تماماً من نطاق الأملاك الحكومية. وستصبح تلك الصناديق أو الشركات من أشخاص القانون الخاص في مصر أياً كانت نسبة مشاركة الدولة فيها، وفقاً للمادتين 13 و14 من القانون الجديد. ويجيز القانون الجديد لرئيس الجمهورية أن يصدر قراراً بنقل ملكية أي من الأصول غير المستغلة المملوكة ملكية خاصة للدولة أو لأي من الجهات أو الشركات التابعة لها، إلى ملكية هذا الصندوق، أو أي من الصناديق التي يؤسسها والمملوكة له بالكامل.

وبحسب تقارير سابقة لهيئات محاسبة، فإن من بين الأصول التي من الممكن التصرف بها الآن، الأراضي المملوكة لشركات: الحديد والصلب المصرية (بقيمة 500 مليون جنيه)، والنصر لصناعة الكوك (الفحم)، والنصر لصناعة المطروقات، والأهلية للإسمنت في أبوزعبل، والمصرية للجبسيات، والقابضة للغزل والنسيج وشركاتها في المحافظات، والقابضة للنقل البحري والبري، والقابضة للتأمين، والقابضة للتشييد والتعمير، والقابضة للأدوية، والقومية للإسمنت (منها 800 فدان في حلوان).

ويتماشى التوسع في بيع الأصول العقارية للدولة من قبل الصندوق الجديد، مع توجّه السيسي لاستغلال الأراضي في جذب المستثمرين العرب والأجانب، ومنحهم مزايا استثنائية، كما فعل في أرض هضبة الجلالة مع السعودية والإمارات، وكما يحدث الآن في أراضي صحراء العلمين الجديدة التي منح أجزاء شاسعة منها بالأمر المباشر لمستثمرين إماراتيين. ويحاول إضافة المزيد من أراضي الساحل الشمالي الغربي للاستثمار السياحي، فضلاً عن مشروع استغلال جزيرة الوراق في الجيزة الذي دخل حيز التنفيذ بإصدار قرار نزع ملكية الأراضي من السكان، في ظل تكهنات بمنح المشروع أو جزء منه لمستثمرين سعوديين كانوا قد طالبوا مراراً في عهد مبارك بالاستثمار في جزر النيل.