صيف المفاجآت في المغرب: قرارات عليا قد تخلط المشهد السياسي

17 اغسطس 2017
تعيش الحسيمة على وقع احتجاجات متواصلة (جلال مرشدي/الأناضول)
+ الخط -
يعيش المشهد السياسي في المغرب على إيقاع متغيرات و"مفاجآت ساخنة" لا تقل حرارة عن فصل الصيف الحالي، وقد جعلت الأنظار مشدودة إلى "قرارات عليا" مرتقبة قد تصل إلى حد إعفاء وزراء ومسؤولين كبار، بل تعدى الأمر إلى الحديث عن احتمال إقالة حكومة سعد الدين العثماني، وإعادة تنظيم الانتخابات البرلمانية. هذه القرارات لا يبدو أنها ستتأخر، إذ يتحدث البعض عن أنها ستحضر في خطاب العاهل المغربي محمد السادس، المرتقب في 20 أغسطس/آب الحالي، بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب.

وشهدت الحياة السياسية في المملكة منعطفاً هاماً أخيراً، تمثّل في خطاب العاهل المغربي محمد السادس بمناسبة الذكرى الـ18 لوصوله إلى سدة الحكم، إذ انهال باللوم والتوبيخ على الأحزاب والسياسيين المغاربة، مهدداً بمحاسبة كل مسؤول ثبت في حقه تقصير، بإعفائه من مهامه التي يزاولها. ومن المفاجآت الأخرى التي ضجّ المشهد السياسي والحزبي المغربي بها، إعلان إلياس العماري زعيم "الأصالة والمعاصرة"، أكبر حزب معارض في البلاد، استقالته من قيادة الحزب، تفاعلاً مع الخطاب الملكي، فيما عاد الأمين العام لـ"العدالة والتنمية" رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران إلى تصريحاته القوية والساخنة حيال القصر ومستشاري الملك.

غضب الملك
الوعيد والتهديد الذي واجه به الملك سياسيين ومسؤولين منتخبين قال إنهم لا يحظون بثقته لكونهم اتخذوا العمل السياسي مطية لتحقيق أهداف ومكاسب ضيقة وخاصة، بدل الانكباب على تأمين حاجات المواطنين، جاء تجاوباً مع "أطول حراك" عرفته البلاد في عهد الملك محمد السادس، وهو حراك منطقة الريف. وتعرف منطقة الريف، خصوصاً مدينة الحسيمة، منذ أواخر شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حين قُتل بائع السمك محسن فكري طحناً داخل شاحنة قمامة، تواصل احتجاجات شعبية تراوحت بين المد والجزر، وبين القلة والكثافة، وبين الهدوء والتوتر، انتهت باعتقال العديد من نشطاء الريف.

ودفعت احتجاجات الريف، وبعد أسابيع طويلة من "صمت" السلطات العليا في البلاد، الملك المغربي إلى تخصيص حيز كبير من "خطاب العرش" لقضية احتقان مدينة الحسيمة، وجعلته يوجّه ما وصفه محللون كثيرون بأقسى خطاب منذ وصوله للحكم إلى الطبقة السياسية في البلاد، إذ لم يتورّع عن الكشف عن كونه لا يثق في عدد من السياسيين المغاربة.
وربط الملك بين ما يجري في الحسيمة تحديداً تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، التي أسفرت عن احتقان النفوس وتنظيم مسيرات احتجاجية، وبين تخلي مسؤولين وسياسيين ومنتخبي الأحزاب عن تحمّل مسؤولياتهم، وبين اكتفاء الطبقة السياسية بقضاء مآربها الخاصة على حساب تطلعات وآمال السكان.

ويمكن اعتبار خطاب الملك محمد السادس الأخير أحد أقوى وأجرأ الخطابات التي ألقاها منذ 18 عاماً خلت، إذ حمل في ثناياه الكثير من الوعيد والتهديد الصريح بإعفاء مسؤولين أو وزراء إذا ثبت في حقهم التورط في عدم تنفيذ مشاريع تنموية معينة، ملمّحاً إلى صدور قرارات في هذا الاتجاه تطبيقاً للفصل الدستوري الذي ينص على ربط المسؤولية بالمحاسبة.
وبلغ غضب الملك المغربي مداه في آخر مجلس وزاري ترأسه في شهر يوليو/تموز الماضي، عندما أمر بإنشاء لجنة تحقيق مشتركة بين مفتشي وزارتي الداخلية والمالية، أجرت لقاءات وتحريات بشأن المتسبّبين في عدم تطبيق مشروع "الحسيمة منارة المتوسط"، الذي سبق للملك أن أطلقه عام 2015 لتنمية مدينة الحسيمة خصوصاً.
وشيئاً فشيئاً تحوّل الملك المغربي إلى "معارض" شرس لسياسات الحكومة المركزية والمحلية، من خلال "جيل جديد من الخطب" حرص فيها على أن يوجّه انتقادات حادة، بشكل مباشر أحياناً، وبطريقة ضمنية أحياناً أخرى، إلى مسؤولين ومؤسسات ووزراء.
وسبق للملك أن حذر في خطاب سابق من استخدام سياسيين لنعوت وتصريحات تسيء إلى المؤسسات الدستورية للبلاد، وهو ما تم فهمه حينها على أنه انتقاد موجّه إلى رئيس الحكومة السابق بنكيران عندما تحدث عن وجود دولتين داخل المغرب، واحدة تمثّلها الحكومة، وأخرى تملك المقاليد الحقيقية للحكم، كما سبق أن انتقد بشدة منتخبي الأحزاب التي تُسيّر مدينة الدار البيضاء بسبب مظاهر الفقر والهشاشة في عدد من أحيائها.

سيناريوهات متعددة
ويعيش عدد من المسؤولين والمنتخبين والوزراء أيضاً، ومعهم جزء من الرأي العام الوطني، في الفترة الراهنة ترقّباً حيال ما ستفضي إليه نتائج التحقيق الذي أمر به الملك، والذي تقول مصادر مطلعة إنها لن تتأخر في الظهور، من خلال قرارات يُنتظر أن تكون حازمة في حق مسؤولين كبار، من المرتقب أن تتم مع "الدخول السياسي الجديد"، الذي يحل عادة في المغرب في سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول من كل عام.
وبات المشهد السياسي والحكومي في البلاد، خصوصاً بعد خطاب الملك وانتظار الإعلان عن نتائج التحقيق في عوامل تعثّر تنفيذ مخطط "الحسيمة منارة المتوسط"، مُشرعاً أمام العديد من السيناريوهات الممكنة، والتي لا يُمكن استبعاد أي سيناريو منها، بالنظر إلى غضب القصر من الأحزاب وجزء من المسؤولين، واستمرار الاحتقان في عدد من مناطق المملكة، خصوصاً في منطقة الريف.
السيناريو الأول قد يكون صادماً ومفاجئاً، ويتمثّل في إمكانية حل الملك للبرلمان، وفق ما ينص عليه الدستور في الفصل 96، إذ يورد: "للملك، بعد استشارة رئيس المحكمة الدستورية وإخبار رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب، ورئيس مجلس المستشارين، أن يحل بظهير المجلسين معاً أو أحدهما. يقع الحل بعد خطاب يوجّهه الملك إلى الأمة".
هذا السيناريو تتبعه دعوة الملك إلى تنظيم انتخابات سابقة لموعدها، وفق نص الدستور المغربي في فصله الحادي عشر، إذ يحق للملك أن يدعو إلى انتخابات مبكرة. غير أنه سيناريو يظل صعب التحقق نظراً لتبعاته السياسية والتقنية والمالية، فضلاً عن السياقات السياسية المحلية والإقليمية والدولية الراهنة.
وهناك سيناريو آخر، يتم الترويج له من قِبل محللين ومتابعين للشأن السياسي المغربي تجاوباً مع "الغضبة الملكية" حيال أداء سياسيين ومنتخبين، وأيضاً لضمان السير العادي للمؤسسات، وفق الفصل 42 من الدستور، هو إعفاء رئيس الحكومة الحالي، وتعيين رئيس حكومة ائتلافية، أو حكومة تترأسها شخصية تنتمي إلى حزب "العدالة والتنمية"، أو الحزب الثاني في الانتخابات، وهو "الأصالة والمعاصرة".
سيناريو ثالث في هذا السياق يلوح برأسه متمثّلاً في إعفاء الملك لوزير أو أكثر من وزير في الحكومة التي يقودها العثماني، بعد استشارة رئيس الحكومة بحسب ما يفرضه الدستور، أو تقديم أعضاء من الحكومة استقالاتهم بشكل فردي أو جماعي، تفاعلاً مع أوامر الملك بالتحقيق في المتسببين في تأخر تنفيذ مشروع "الحسيمة منارة المتوسط".


هذه السيناريوهات السياسية التي باتت تُطرح بقوة داخل كواليس المشهد السياسي والحكومي المغربي، تأتي استشرافاً لنتائج لجنة التحقيق التي شارفت على إنهاء مهمتها، وأيضاً في خضم إصرار أعلى سلطة في البلاد على محاسبة المتورطين مهما كانت مناصبهم ومسؤولياتهم.
ومهما كان اختلاف السيناريوهات المتاحة والمتوقعة، سواء كان حل البرلمان وإقالة الحكومة، وتنظيم انتخابات مبكرة، أو كان إعفاء رئيس الحكومة أو تقليص أعضائها، أو إجراء تعديل حكومي، أو حتى الاكتفاء بمعاقبة مسؤولين محليين أو مسؤولين داخل الوزارات المعنية، فإن المؤكد أن المشهد السياسي في المملكة يعيش على إيقاع ساخن في العمق، على الرغم مما يبدو في ظاهره من تماسك وهدوء.

تفاعلات سريعة
ومثل كرة الثلج المتدحرجة، فإن الخطاب الملكي الذي دعا السياسيين والمسؤولين إلى العمل أو الاستقالة والانسحاب، جرّ أول ردود الفعل المفاجئة، بعد أن أعلن الأمين العام لـ"الأصالة والمعاصرة"، إلياس العماري، استقالته من منصبه الحزبي، تجاوباً مع مضامين توجيهات القصر، كما أسرّ هو نفسه في ندوة صحافية شرح فيها حيثيات قراره المفاجئ.
قرار العماري لقي عاصفة من ردود الفعل المتباينة، بين من اعتبر الاستقالة خطوة سياسية تستحق الإشادة، باعتبار أن السياسيين المغاربة لم يألفوا ترك مناصبهم الحزبية بسهولة، إذ يتم الحديث غالباً عن زعامات حزبية خالدة، لا تترك قيادة أحزابها إلا بالموت أو العجز الصحي.

في المقابل هناك من وجد استقالة العماري من رئاسة الحزب الذي حل ثانياً في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مجرد مزايدات سياسية دأب الرجل على نسجها وترويجها ضد حزب "العدالة والتنمية" خصوصاً، وذلك في خضم الجدل والاحتقان الدائر بسبب أحداث الريف، ما دام العماري يشغل أيضاً منصب رئيس جهة الحسيمة.
وفي كل الأحوال يمكن اعتبار استقالة العماري حجراً ألقاه في بركة المياه الراكدة للمشهد الحزبي في البلاد خصوصاً، إذ يُسجَّل له عدم تمسكه بمنصب زعيم أكبر حزب معارض، وأيضاً تفاعله الإيجابي مع سخط الملك على تملص الأحزاب من مسؤولياتها، وضعف تأطيرها للمواطنين.

وفي الوقت الذي فاجأ فيه العماري الطبقة السياسية والحزبية في المغرب بقرار استقالته، على الرغم من رفض المكتب السياسي لهذه الخطوة، عاد عبدالإله بنكيران إلى الأضواء بقوة من جديد، بعد غياب دام أسابيع عديدة إثر إعفائه من قِبل الملك من رئاسة الحكومة.
عودة بنكيران إلى الإدلاء بآرائه السياسية المثيرة للجدل، جاءت في سياق داخلي يعرفه حزب "العدالة والتنمية" لأول مرة في تاريخه، متجسداً في ظهور قيادات داخلية انتقدت بشدة طريقة تشكيل الحكومة بعد إعفاء بنكيران، كما جاءت في خضم سجال حاد بشأن إمكانية تولي بنكيران زعامة الحزب لولاية ثالثة على الرغم من عدم سماح القوانين الداخلية بذلك، ما جعل مناوئي الحزب يتهمونه بدخول نادي "الزعامات الخالدة".

ويبدو أن عودة بنكيران إلى "الحياة السياسية" من جديد بعد طول غياب، تهدف لبعث رسائل خاصة في كل الاتجاهات، أولها إلى معارضيه بشكل أساسي، مفادها أنه ما زال "حياً يرزق" بتعبير بنكيران نفسه، وأن الحزب ما زال قوياً بمواقفه على الرغم مما أثير بشأنه من تخاذل وقبول بدخول حزب "الاتحاد الاشتراكي" إلى الحكومة ضد رغبة بنكيران.
ثاني الرسائل وجّهها بنكيران إلى خصمه العنيد مستشار الملك وصديقه، فؤاد عالي الهمة، إذ قال إن مستشاري الملك ليسوا أشخاصاً فوق النقد، بل اعتبر أن الملك ليس إلهاً، ويمكن توجيه النصح له بطريقة لائقة تليق بمقامه، من دون أن يخفي أن إعفاءه من رئاسة الحكومة كاد أن يقضي عليه سياسياً، لولا أنه قرر التماسك والبقاء "مناضلاً" داخل حزبه وفي المشهد السياسي للبلاد.

بنكيران الذي يبدو أنه يسير نحو فرض نفسه زعيماً لحزب "العدالة والتنمية" لولاية ثالثة، بخلاف خصمه اللدود إلياس العماري، وجّه رسالة ثالثة إلى لجنة التحقيق في مشروع "الحسيمة منارة المتوسط"، واستبق نتائجها بالتأكيد أن حزبه بريء من أية تهم يمكن أن تُوجّه إليه، ودعا الملك إلى حل الحزب إن وجد أنه تسبّب في تعثّر مخطط تنمية الريف.
رسالة رابعة عاد بها بنكيران إلى واجهة الحدث السياسي في المغرب، تمثّلت في دعوته الصريحة إلى تعديل الوثيقة الدستورية، في علاقة مع الأحداث القائمة في منطقة الحسيمة، باعتبار أن الدستور يحتاج تعديلاً يُظهر طريقة محاسبة المسؤولين عندما تقع أحداث مماثلة.
مواقف بنكيران الجديدة نالت بدورها عاصفة من ردود الفعل المتباينة بين من اعتبرها تصريحات ومواقف جريئة تُظهر أن الرجل لم يتغير بمواقفه الصريحة والقوية، وبين من وجدها مزايدة سياسية يهدف من ورائها إلى "لي ذراع" الدولة، بعد أن فشل شخصياً في خطب ودها طيلة 5 سنوات من رئاسته للحكومة قبل أن يعفيه الملك.