ورغم أنه وقّع على المبادرة الخليجية التي كان عليه أن ينسحب بمقتضاها كي يتفرّغ لكتابة مذكراته كما كان يردد دائماً، إلّا أنه بقي يمارس العمل السياسي من وراء الستارة ويتحكّم بأوراق عسكرية وقبلية ومالية تفوق بقية الأطراف، وتمكّن من تعطيل عمل الدولة ومنع نائبه السابق منصور هادي من أن يتحكّم بسلطة القرار كرئيس انتقالي، واحتفظ بثقل رئيس في حزب المؤتمر الذي أنشأه في بداية الثمانينيات، وكان القسم الأكبر من كتلة المؤتمر في مجلس النواب يتبع له.
كان يبدو أنّ صالح على استعداد لأن يتحالف مع أي كان كي لا يترك هادي يحكم من بعده، فهو يعتبر أن الأخير الذي جاء به عام 1995، قام بخيانته حين قبل أن يسير في مشروع المبادرة الخليجية لنقل السلطة، ولذا وقف إلى جانب جماعة أنصار الله (الحوثيين) حين بدأوا مشروعهم لإسقاط صنعاء، الذي بدأ في أوائل عام 2014 وانتهى في أيلول/ سبتمبر 2014. وقد شكّل هذا الموقف مفاجأة للكثيرين لأن صالح قام بانعطافة كبيرة من خلال التحالف مع الحوثيين المحسوبين على إيران، ولا سيما أنه كان بعيداً طيلة مسيرته السياسية عن طهران. كما وقف مع الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في حربه مع إيران، وعلى تحالف مع السعودية التي رعته حتى يوم رحيله عن الحكم، وبقيت على صلة به رغم أنه انتقل إلى الخندق الآخر.
حاول صالح أن يناور طيلة عامين من عاصفة الحزم، وأن يلعب على حبلي إيران والسعودية، ولكن المسافة كانت تضيق عليه بسبب الضغط الحوثي الكبير الذي جرده مع أنصاره من سلطة القرار السياسي. وحين انتفض ضد الحوثيين في الأيام الأخيرة، أراد أن يقلب الطاولة ويعود إلى الواجهة من جديد، وفي ظنه أن الدعم السعودي الإماراتي العسكري والإعلامي يمكن أن يساعده على تغيير موازين القوى لصالحه من خلال السيطرة على صنعاء، ولكن يبدو أن الحوثيين كانوا على دراية بنوايا صالح وتحركاته، وقاموا بحساب كل خطوة، ولذلك لم تدم انتفاضته أكثر من ساعات معدودة وفشلت على نحو ذريع، بل انتهت بمقتله. وما كان ذلك ليحدث لو لم يخطئ صالح في الحساب أول مرة لتنقلب الطاولة عليه، وتنتهي بذلك قرابة أربعة عقود كانت حافلة بالأحداث الكبرى، تقاطعت فيها التطورات الإقليمية بالدولية، وكان اليمن محرّكاً أساسياً في جميع مراحلها، وفي قلب ذلك شخص جاء من الظل اسمه علي عبدالله صالح لم يكن أكثر من قائد لواء برتبة عقيد في جيش اليمن الشمالي في مدينة تعز، حين وصل إلى السلطة عام 1978، وكان ذلك بتوافق بين شيخ كبرى قبائل اليمن (حاشد) عبد الله بن حسين الأحمر والسعودية.
تعرّف إلى سيرة الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح ورقصته الأخيرة مع الثعابين في الـ "إنفو فيديو" التالي:
وصل صالح إلى السلطة بعد مصرع رئيسين. الأول هو إبراهيم الحمدي، الذي اغتيل في صنعاء في أكتوبر/ تشرين الأول سنة 1977 عشية سفره إلى الجنوب لتوقيع اتفاق الوحدة، والثاني هو أحمد حسين الغشمي، الذي اغتيل في حزيران/ يونيو سنة 1978. قُتل الحمدي في ظروف غامضة، لكن الإخراج المسرحي الفاشل والتفاصيل التي تسرّبت لاحقاً بيّنت أن صالح ضالع في الجريمة، بينما دفع الغشمي حياته على يد جنوبي ثمناً لمصرع الحمدي، وهو ما فتح لصالح الطريق للرئاسة في 18 يوليو/ تموز 1978.
باركه السعوديون وأجزلوا له العطاء في فترة تاريخية صعبة كانوا يحتاجون فيها إلى رئيس يمني شمالي يسوّون معه ملف الحدود ويشرّعون اتفاقية سنة 1934، التي اقتطعوا بموجبها منطقتي جيزان وعسير اللتين تبلغ مساحتهما نحو 100 ألف كيلومتر مربع، أو ما يعادل مساحة لبنان عشر مرات. وفي الوقت نفسه، كانت الرياض تبحث عن رئيس شمالي بعيد عن هاجس الوحدة مع الجنوب، ويقوم بدور وكيل مباشر لمحاربة الشيوعية، التي كانت عدن توصف بأنها بؤرتها في المنطقة، فكان صالح أفضل من وقع عليه الاختيار. وبسرعة زكّاه الأميركيون، وخصوصاً جورج بوش الأب، رئيس الـ"سي آي إيه" حينذاك، الذي كان مشغولاً بتجنيد المجاهدين العرب للحرب في أفغانستان، وبسرعة قياسية استجاب الرئيس اليمني وصارت بلاده محطة أساسية للأفغان العرب، وخصوصاً السعوديين والمصريين واليمنيين.
وفي بداية وصوله للسلطة، دخل صالح في مواجهات عسكرية مع الجنوب، وأبرزها حرب فبراير/ شباط سنة 1979، التي وصلت فيها القوات الجنوبية إلى عمق أراضي الشمال، وهددت نظامه الهش بالسقوط، لو لم تنقذه تسويات إقليمية ودولية، انعكست في هيئة تغييرات في الجنوب أقصت الجناح الذي خطط للحرب بقيادة الرئيس عبد الفتاح إسماعيل، وجاءت بعلي ناصر محمد، الذي دام حكمه حتى سنة 1986، حين أطيح بعد تدبيره انقلاب 13 يناير/ كانون الثاني ضد رفاقه في الحزب الاشتراكي.
بدأ صالح يرتّب وضعه في هذه الفترة بالذات، مستفيداً من نتائج القتال الأهلي في الجنوب وجلاء أنصار علي ناصر محمد إلى صنعاء، فأخذ يضع نصب عينيه توظيف الشقاق الجنوبي من أجل تعزيز مواقعه في الشمال، ومدّ نفوذه إلى الجنوب، الذي كان يداوي جراحه ويعمل على تحقيق مصالحة داخلية، في وقت كان الاتحاد السوفييتي يبدو فيه بأنه بدأ يراجع نهجه وسياساته في مساندة الحلفاء السياسيين المحسوبين على الكتلة الشرقية ودعمهم.
ورغم كل المحاذير، حصلت الوحدة في مايو/ أيار 1990، وأعطيت الرئاسة لصالح وتولّى الرئيس الجنوبي علي سالم البيض منصب نائب الرئيس. ولم تمرّ سوى أشهر قليلة حتى تبيّن أن الوحدة جاءت كهدية لصالح، الذي أخذ منها ما أراد ورمى ما لا يناسبه، وسرعان ما جمّد كل الاتفاقات الوحدوية بعدما انتقل الجنوبيون إلى صنعاء عاصمة الوحدة، وصاروا أسرى لديه محكومين بشروط المكان الجديد، الأمنية والسياسية. ولم يدم الوقت طويلاً، حتى بدأت تظهر الخلافات إلى السطح، حيث مارس البيض احتجاجه السلمي على تراجع شريكه في الوحدة عن تنفيذ الاتفاقات الخاصة بتوحيد القوات المسلحة والأمن، ووضع هيكلية جديدة للدولة يديرها رئيس مجلس الوزراء الجنوبي حيدر أبو بكر العطاس. لكن صالح لم يعر الاحتجاجات الجنوبية آذاناً صاغية، واستمر على طريقته في إدارة الدولة بالهاتف والسيطرة على الجيش وعائدات النفط. وتفاقمت الخلافات حتى قادت إلى حرب سنة 1994 التي شنها صالح على الجنوب، وانتصر فيها بالاعتماد على القوى الجهادية والقبائل، وأخرج الجنوبيين من معادلة الوحدة وبسط نفوذه على الشمال والجنوب، وصار يقدّم نفسه على أنه بطل وطني وحّد اليمن وأجهض مؤامرة تقسيمه، وتحوّل منذ ذلك الحين الى حاكم مطلق، في يده الجيش والقبائل والأحزاب والمال العام.
عزّز صالح وضعه الداخلي بالاعتماد على العائلة والقبيلة، وأصبحت المؤسسة الأمنية والعسكرية حكراً على أفراد عائلته، وتولّى المناصب الأساسية في قيادة الفرق الأساسية للجيش أشقاؤه وأبناء أشقائه والمتحدرون من قريته سنحان، وأعطى لنجله الأكبر أحمد صلاحيات كبيرة على صعيد متابعة الجيش، وألّف له قوة خاصة بتسليح وتدريب أميركيين، مهمتها مكافحة الإرهاب ومطاردة تنظيم "القاعدة". لكن طموح الابن ورغبة الأب كانت تذهب في اتجاه توريث الشاب، الذي لم يُبد أي مواهب تؤهله لخلافة والده صاحب نظرية "حكم اليمن كالرقص على الثعابين".
علاقات صالح الخارجية لم تستقم مع بلدان الخليج حتى منتصف التسعينيات، وقد خاصمها بسبب وقوفه إلى جانب الرئيس العراقي صدام حسين، الذي ربطته به صلات خاصة قوية. وكان طموح صدام أن يحاصر السعودية عن طريق اليمن، لذا دعم نظام صالح اقتصادياً، وموّل بناء الجيش اليمني، وساهم ضباط عراقيّون في تأهيله وتدريبه، وصارت قوات الحرس الجمهوري اليمني نسخة من الحرس الجمهوري العراقي. ولم يخيّب صالح ظنّ صدام حسين، لذا سانده بقوة خلال غزو العراق للكويت، الأمر الذي دفع السعودية إلى ترحيل قرابة مليون عامل يمني. ولم تخفّ حدّة التوتر بين البلدين حتى سنة 1995، عندما قبل صالح شروط السعودية لترسيم الحدود، وتنازل لها عن مساحات واسعة من الأراضي في الجنوب غنيّة بالثروات في الربع الخالي، إضافةً الى منطقتي الوديعة والشرورة في صحراء حضرموت. وتقول أوساط سعودية إن موضوع الحدود حُلَّ بصفقة تلقّى صالح بمقتضاها مبلغ 10 مليارات دولار من السعودية لحسابه الخاص.
دولياً، استطاع صالح أن يبني علاقات متوازنة إلى حد كبير مع الأميركيين والسوفييت خلال الحرب الباردة. السوفييت كان يهمّهم وجود نظام إلى جانب عدن يحتفظ بعلاقات طيبة معها، والأميركيون الشيء نفسه، كانوا يريدون الحفاظ على هدوء بجانب آبار النفط، ووكيل يلبّيهم متى يحتاجون إليه، ولا يثير لهم مشاكل، وهذا ما حكم سياق العلاقات في العقد الأخير، التي قامت على أساس محاربة تنظيم "القاعدة" في المقام الأول.
لكن الحصيلة لم تكن على مستوى الطموحات الأميركية، نظراً إلى أن النظام اليمني على صلة خاصة بـ"القاعدة"، فهو رعاها وتعايش معها واستخدمها في حروبه الداخلية وأجنداته المحلية والخارجية، وبفضلها استطاع أن يستدرج دعماً سياسيّاً وماليّاً وعسكريّاً منذ 11 سبتمبر/ أيلول حتى الآن.
مقولة مكر التاريخ تنطبق على حال صالح، فهو قبل أيام معدودة من ثورة تونس، قدّم إلى البرلمان تشريعاً جديداً ينهي تحديد الرئاسة بمدة زمنية، ويفتح أمامه باب الرئاسة مدى الحياة. ولكن حين سقط زين العابدين بن علي، قرّر سحب هذا التشريع، وخرج ليعلن أنه يريد فقط أن ينهي ولايته الرئاسية التي تدوم حتى سنة 2013، ويتعهد بعدم توريث نجله، لكن الشارع واجهه بشعار "الشعب يريد إسقاط الرئيس".
ويومها جاءت المبادرة الخليجية كي تنقذه من المصير الذي آل اليه بن علي والرئيس المصري حسني مبارك، وأمّنت له حصانة ومنعت فتح ملفاته السابقة، بما فيها ملف ثروته التي قدرتها الأمم المتحدة بـ60 مليار دولار، وساد الظن أنه سينسحب كي يعيش في روسيا أو ألمانيا حيث لديه استثمارات، ولكنه أصرّ على البقاء في الساحة السياسية، وفي حسابه أنه يستطيع أن يلعب لعبته المفضلة "الرقص فوق الثعابين"، إلا أن الثعابين كانت في هذه المرة مختلفة عن سابقاتها، فكانت الرقصة الأخيرة.