لن يحتاج الرئيس الجديد إلى جولة في قصر الرئاسة الواقع بمنطقة بعبدا، شرقي بيروت، فهو يحفظه عن ظهر قلب، وجال في أروقته مراراً بين عامي 1980 و1990. وحجّ إليه مع أنصاره منذ عودته إلى لبنان عام 2005 وحتى العام الحالي، إحياءً لذكرى معركة 13 أكتوبر/تشرين الأول 1990 مع الجيش السوري. تنقّل عون قبل هذا التاريخ بين أقسام القصر باللباس المدني والعسكري وحتى بثياب النوم خلال إقامته فيه. وأشرف من بعبدا على معاركه التي خاضها مع النظام السوري ومع الفصائل الفلسطينية، مرة، ومع المليشيات اليمينية المسيحية مراراً، ومن مواقع مختلفة. كما خاض "الجنرال" أشرس المعارك مع "الحزب التقدمي الاشتراكي" على جبهة سوق الغرب، ضواحي عاليه في جبل لبنان، خلال الحرب الأهلية (1975 - 1990)، ومع حركة "أمل" لحصر الموارد المالية للمرافئ البحرية به خلال ترؤسه الحكومة العسكرية (1988 - 1990).
تبدل حلفاء "الجنرال" بتبدل هذه المواقع، فنسق مع المليشيات المسيحية لضرب المخيمات الفلسطينية،. وتعاون عون مع "القوات اللبنانية" لضرب القوات السورية، ثم خاض معركتين مع السوريين ومع "القوات". ولم يبق معه من حلفاء الأمس أحد عندما غادر لبنان إلى منفاه الفرنسي، بعد هزيمة قواته أمام القوات السورية - اللبنانية المشتركة التي هاجمت قصر بعبدا بعد توقيع اتفاق الطائف عام 1989، ولجوئه إلى مقر السفارة الفرنسية في بيروت ونقله منها إلى منفاه في منطقة "لا هوت مازون" الباريسية.
عاد عون إلى القصر الذي سماه يوماً "بيت الشعب" من دون جنود أو دبابات، بل بتسوية سياسية يقول مُختلف السياسيين في لبنان إنهم ضحّوا فيها من أجل إنهاء الشغور. وأيضاً من أجل تحقيق حلم الرجل الذي عاش في القصر قائداً للجيش ورئيساً للحكومة العسكرية التي أعقبت انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل، وهي حقبة تشير إلى أكبر انقسام "رسمي" في لبنان إذ تألفت حكومة مضادة له برئاسة سليم الحص، وانقسم الجيش والمصرف المركزي ومختلف مؤسسات الدولة نتيجة رفض طيف واسع من المسلمين شرعية عون. هو رفض طائفي لا يزال سارياً إلى حد بعيد حتى اليوم، على الأقل عند غالبية السنة، ونصف الشيعة ربما، ممثلين بحركة أمل.
يقول عارفو عون إنه سيحمل الكثير من شخصيته معه إلى موقع الرئاسة الأولى، "ولن تكبله التحالفات عن ممارسة الحكم الذي لطالما نادى بحصره بيد الشرعية". وإن كانت معارك عون السابقة قادته لمواجهة "القوات اللبنانية" بوصفها مليشيا خارجة عن الشرعية بعد التعاون معها، فإنه يتحالف اليوم مع "حزب الله" الذي ينافس الدولة اللبنانية وربما يكون أقوى منها على كافة الأصعدة ويشكل كيانا موازياً لها في البلاد.
انتقلت علاقة عون مع الحزب من اعتباره نموذجاً مُسلماً للمليشيات غير الشرعية (وصف عون لحزب الله خلال قيادته للجيش بين 1984 - 1988)، إلى حليف مُطلق جلس إلى جانب أمينه العام عام 2006 موقّعاً معه وثيقة تفاهم سياسية عرفت بوثيقة كنيسة مار مخايل. بعد هذه الوثيقة بعشر سنوات، وجد عون نفسه مُوقعاً على أوراق ثنائية منفصلة مع خصمي "حزب الله": "القوات اللبنانية" و"تيار المستقبل"، ولم يجد حرجاً في ذلك. كما انتقل عون خلال عقد من الزمن من يميني لبناني قاد القوات المسلحة لخوض معارك ضارية ضد الوجود السوري في لبنان إلى حليف يكاد يكون ملحقاً برئيس النظام السوري بشار الأسد، في مصالحة عام 2008. لقاء خرج بعده ليُعلن أنه "لا غالب ولا مغلوب بيني وبين النظام السوري، ومرحلة الخصومة انتهت" بعد آلاف القتلى من اللبنانيين والسوريين في حرب عون التي أعلن فيها "دقينا المسمار وكسرنا راس (حافظ) الأسد".
"أريد أن أمارس الجنون!"
عارض كثيرون وصول ميشال عون إلى موقع الرئاسة الأولى. منهم من هم في موقع الحليف أو "حليف الحليف"، كرئيس مجلس النواب نبيه بري، والنائب سليمان فرنجية، ومنهم نواب من مُختلف الكتل النيابية الذين فضلوا الإبقاء على خصومتهم السياسية معه رغم تأييد أحزابهم وتياراتهم له. وبقي أغرب اعتراض غير مباشر على وصول عون إلى الرئاسة في الموقف الذي عبّر عنه رئيس حزب "الوطنيين الأحرار" النائب دوري شمعون، من خلال الطلب إلى "كل شخص مرشح لرئاسة الجمهورية أن يأتي بشهادة طبية تؤكد أن صحته جيدة كي يعمل 10 ساعات على الأقلّ في اليوم، وهذا يجب أن يكون قانوناً عاماً". وللمفارقة فإن شمعون من جيل عون أيضاً، وكلاهما من مواليد ثلاثينيات القرن الماضي. وقد تحالف عون مع آل شمعون في مراحل، وانقلب عليهم في مراحل أخرى. وتختصر ملاحظة دوري شمعون عن عون رأي كثيرين في الأخير بأنه "يعجز عن ضبط أعصابه وتصرفاته".
ويذكر الصحافي سركيس نعوم في كتابه "ميشال عون: حلم أم وهم" أن الرجل ردّ على محدثيه الذين حاولوا إقناعه بعدم فتح معركة عسكرية لحصر إدارة المرافئ البحرية بيد "الشرعية" خلال توليه الحكومة العسكرية في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، لأن الجيش السوري هو من سيرد عليه، بالقول: "أريد أن أجنّ!". وعبّرت التصريحات السياسية العديدة التي قدمها عون خلال مسيرته السياسية عن عصبية بالغة صبّها على محدثيه سواء كانوا سياسيين أو صحافيين. وتخللت الأعوام القليلة الماضية طرد عون شخصياً لمراسلين صحافيين من مؤسستين مُختلفتين من مقر إقامته في الرابية بسبب أسئلة نقدية وجهوها إليه، وذلك في استكمال للحرب الصغيرة التي خاضها عون ضد وسائل الإعلام بين حربي "التحرير" ضد القوات السورية، وحرب "الإلغاء" ضد "القوات" نهايات الثمانينيات. اعترض عون في حينه على تناول وسائل إعلام مرئية ومسموعة ومكتوبة للمسائل السياسية في لبنان، وانتقد استخدامها لأوصاف أو تعابير معنية دون غيرها، وحاول إغلاق إذاعة "لبنان الحر" (التابعة للقوات حتى اليوم). واستخدم عناصر الجيش اللبناني للتضييق على الإعلام من خلال إقامة الحواجز قرب مقارها أو محاولة اقتحامها. كما تميز عهده السابق كحاكم عسكري بالقصف المستمر لأستديوهات تلفزيون لبنان الرسمي الواقعة في الشطر الغربي من العاصمة بيروت (ذات الغالبية المسلمة). وهو قصف طاول المناطق المجاورة للمبنى مرات عدة وأدى إلى سقوط ضحايا مدنيين.
تسونامي العودة
فتح انسحاب القوات السورية المنتشرة في لبنان عام 2005، باب العودة لـ"الجنرال" إلى لبنان بعد 15 عاماً قضاها في المنفى الباريسي، بعد لجوئه إلى سفارتها في بيروت، إثر سقوط آخر خطوط الدفاع عن قصر بعبدا بيد المهاجمين السوريين عام 1990. ووصف رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، النائب وليد جنبلاط، هذه العودة بـ"التسونامي". ترجم عون كلام جنبلاط حرفياً فشكّل رافعة سياسية لفريق الرابع عشر من آذار في وجه النظام السوري وحلفائه قبل أن يجده حلفاء الأمس الجدد في مسقط رأسه في ضاحية بيروت الجنوبية، موقعاً وثيقة التفاهم مع "حزب الله". حوّلت العودة قائد الجيش السابق، المنادي بسيادة الدولة ورفض المليشياوية الطائفية، إلى أقوى الزعماء المسيحيين في البلاد بخطاب طائفي موصوف. قاد حرباً إعلامية وسياسية واسعة ضد خصومه وعلى رأسهم "تيار المستقبل". ووصل الحد بعون إلى استخدام أوصاف تحريضية ضد القاعدة السنية التي يقوم عليها هذا التيار، وضد قياداتها، فرفع نواب عونيون في مناسبات عدة لافتات تشبه الحريري ورئيس الحكومة تمام سلام بـ"الدواعش الذي يرتدون كرافاتات"، على خلفية حروب عون من أجل تعيين أقاربه ومحازبيه في وظائف رسمية رفيعة المستوى تحت شعار "الحقوق المسيحية". وأسقط عون بالتعاون مع الحزب حكومتين لـ"تيار المستقبل"، الأولى حكومة فؤاد السنيورة عام 2008، والثانية الحكومة التي رأسها الحريري الابن بعد إنجاز اتفاق الدوحة. دخل يومها الحريري البيت الأبيض للاجتماع بالرئيس باراك أوباما بوصفه رئيساً للحكومة، وخرج منه رئيساً لحكومة تصريف أعمال بعد أن أعلن وزراء فريق الثامن من آذار استقالتهم من مقر إقامة عون في الرابية، فخسرت الحكومة صفتها "الميثاقية" التي توجب مراعاة الطوائف الثلاث الكبيرة في السلطة التنفيذية (المسيحيون والشيعة والسنة).
كما رفع "الجنرال" شعاري "الدفاع عن حقوق المسيحيين" و"حماية الميثاقية"، واعتبر عودته إلى السلطة وتمثيله في مجلسي الوزراء والنواب استعادة لهذه الحقوق. وقد انتقد خصوم عون وحلفاؤه هذه النظرية خصوصاً مع تصاعد الخطاب العوني ضد حكومة "المصلحة الوطنية" التي توافقت الكتل السياسية في لبنان على تشكيلها في نهاية ولاية الرئيس السابق ميشال سليمان عام 2014. وفي استعادة للتجييش الطائفي، وصف أنصار عون رئيس الحكومة تمام سلام، بـ"الداعشي" على خلفية الخلاف حول تعيين قادة جدد للأجهزة الأمنية والعسكرية في ظل الشغور الرئاسي. وقاد عون جزءاً من الشارع المسيحي في تظاهرات غير حاشدة في عزّ أزمة النفايات التي اعترض عليها ناشطوالحراك المدني والشعبي. واتهم نواب عون حملات الحراك بسرقة شعاراتهم الإصلاحية. انتهت هذه المعركة السياسية مع الحكومة بتسريح صهره وقائد فوج المغاوير، شامل روكز، من الخدمة لبلوغه سن التقاعد واستمرار التمديد لقائد الجيش العماد جان قهوجي، بعكس رغبة عون الذي طمح بتعيين صهره في مركز القيادة. وتميزت مسيرة عون السياسية بعدم فصل العام عن الخاص، فقرّب صهره الثاني الوزير جبران باسيل، إليه وأورثه قيادة "التيار الوطني الحر" دون انتخابات داخلية. وأطاح بعدد من معارضيه من الحزبيين القدامى، بالتزامن مع بروز فئة من رجال الأعمال الأثرياء باتوا يمثلون واجهة التيار الجديدة. كما يتولى صهره الثالث إدارة "أو تي في"، وهي القناة التلفزيونية الناطقة بلسان عون وتياره.
شمعة ميلاده الثمانين بيد الحريري
وفي مشهد مقابل لمعارك كتلته الوزارية والنيابية مع مُختلف الأطراف السياسية الممثلة في الحكومة خلال العامين الأخيرين، تفاهم عون مع قائد "حزب القوات اللبنانية" سمير جعجع على وثيقة من 10 نقاط قد تشكل خطاب القسم لعهده الرئاسي. ومن أبرز البنود التي وجد فيها مراقبون تحدياً لتحالف عون مع "حزب الله": "الالتزام بوثيقة الوفاق الوطني التي أقرت في الطائف. تعزيز مؤسسات الدولة وثقافة الاحتكام إلى القانون وعدم اللجوء إلى السلاح والعنف أياً كانت الهواجس والاحتقانات. دعم الجيش معنوياً ومادياً وتمكينه وسائر القوى الأمنية الشرعية من التعامل مع مختلف الحالات الأمنية كافة، بهدف بسط سلطة الدولة وحدها على كامل الأراضي اللبنانية. ضرورة التزام سياسة خارجية مستقلة بما يضمن مصلحة لبنان واحترام القانون الدولي، وذلك بنسج علاقات تعاون وصداقة مع جميع الدول، لا سيما العربية منها. ضبط الأوضاع على طول الحدود اللبنانية - السورية في الاتجاهين، وعدم السماح باستعمال لبنان مقراً أو منطلقاً لتهريب السلاح والمسلحين". واستعادت الحلقة الضيقة المحيطة بالرجلين نشاطها الذي اعتادت على ممارسته تحت القصف وبين المحاور خلال الحرب الأهلية. كما نسج تفاهماً ثانياً جديداً بعيداً عن الأضواء مع النائب سعد الحريري، بعد لقاء أول جمعهما في باريس عام 2015. وبلغت الحميمية بين الرجلين حد إقامة الحريري الابن لعيد ميلاد عون الثمانين، وإطفاء الشموع معاً. لكن التسوية النهائية بين الرجلين تأخرت عاماً ونصف العام إلى أن أعلن الحريري منتصف أكتوبر/تشرين الأول الحالي دعم ترشيح عون للرئاسة.
خاض عون إذاً مجموعة معارك عسكرية لم يكن الانتصار حليفه فيها، كما صاغ تحالفات ثنائية متعددة تُنذر بعهد ملؤه اللعب على التناقضات. ونجح العسكري السابق بطريقة ما في تحقيق طموح شخصي راوده لستة وعشرين عاماً، وأصبح اليوم أكبر شخصية تتولى رئاسة الجمهورية اللبنانية بعد أن كان أصغر شخصية عسكرية تتولى قيادة الجيش.