"النهضة" التونسية وأسئلة المستقبل الصعبة

10 يونيو 2015
الغنوشي أثناء الاحتفال بذكرى التأسيس قبل أيام (أمين الأندلسي/الأناضول)
+ الخط -

صعب اعتبار احتفال حركة "النهضة" التونسية بذكرى تأسيسها حدثاً سياسياً عابراً؛ فالحركة تملك بين يديها اليوم جزءاً من أهم خيوط اللعبة السياسية في تونس، وتعتبر رقماً رئيسياً في حياة التونسيين الجديدة التي كُتبت أسطرها الكبرى بعد الثورة.

لقد مرّ رئيس الحركة وزعيمها وأحد مؤسسيها راشد الغنوشي، سريعاً في كلمته بالمناسبة على الزمن الفاصل بين يوم الإعلان عن تأسيس الاتجاه الإسلامي في السادس من يونيو/حزيران 1981، وما بين وضع الحركة اليوم. لكنه لخّص الموضوع في جملة مفيدة قد تحدد ملامح معركة الحركة المقبلة، حين أكد أن الأخيرة مرّت من هوية تقوم على مقاومة دولة الاستبداد، إلى الدفاع عن الدولة الجديدة التي ساهمت "النهضة" في كتابة دستورها وبناء مؤسساتها.

ولم تمنع سعادة "النهضويين" في الاحتفال بذكرى تأسيس الحركة، من طرح الأسئلة الصعبة وترحيل بعضها الآخر إلى المؤتمر المقبل، والذي تأجل إلى نهاية العام.

اقرأ أيضاً: "النهضة" التونسية تحتفل بتأسيسها.. والغنوشي متمسك بالدولة 

واعتبرت "النهضة" أن يوم تأسيسها قبل 34 عاماً، كان فارقاً في تاريخ الحركة، وتاريخ تونس المعاصر، وتاريخ الإسلام السياسي. وكانت إشارة الغنوشي لافتة حين قال إن "النهضة" ليست مجرد حزب سياسي بل هي حركة ثقافية، وهي أهم من الحزب السياسي، وإذا كانت أضافت شيئاً مهماً، فهو اشتغالها على تأصيل فكرة الحرية في الثقافة الإسلامية، وقد تأثّرت بها حركات إسلامية كثيرة.

ولعل الرهان الحقيقي الذي يطرح على "النهضة" خارجياً يتمثل في قدرتها على ترويج نموذجها الذي يقوم على تطوير أدائها السياسي في محيط ديمقراطي، والجنوح نحو التوافق بدلاً من المواجهة، وإقناع مثيلاتها في مناطق عربية كثيرة بهذا المنحى.

غير أنها تدرك أنه لا بد من ترتيب بيتها الداخلي قبل ذلك وحسم أسئلة ضرورية ظلت تؤجلها، وفي مقدّمتها التحول بشكل نهائي نحو حزب مدني ديمقراطي سياسي يوضح علاقته بالدِّين ويحسم علاقة السياسي بالدعٓوي.

وأحد أبرز الداعين إلى هذا التوجه، لطفي زيتون، مستشار الغنوشي السياسي، والذي يعتبر أن مجال الحريات وتكوين الجمعيات مفتوح اليوم بتونس بشكل كبير ويتيح الاندماج في عمل الجمعيات المدنية لتخليص الإسلام، باعتباره ديناً، من أسْر السياسي. ويسمح هذا التوجه لحركة "النهضة" بأن تتحول إلى حزب سياسي يعتبر الإسلام أحد مكوّنات الإجماع بين التونسيين، سواء أكانوا يؤمنون به كعقيدة أم ينتمون إليه ثقافة وحضارة، ما يمكنهم من توظيف قيمه "من دون احتكاره من أحد".

ويُعتبر هذا التفكير في حزب إسلامي جديد ومباشر على المنطقة العربية عموماً، لكن ذلك لا يعني أنه يلقى قبولاً أو رواجاً داخل مختلف قواعد وقيادات "النهضة".

لكن سؤال الهوية صار ملحاً على تيار الغنوشي داخل الحركة. وقد أشار بنفسه إلى أن معركة "النهضة" المقبلة ينبغي أن تتم على أرضية اجتماعية تنموية بالأساس.

ويؤكد زيتون، بدوره، أن هوية "النهضة" السياسية لم تتشكل بعد، وهي تضم أطيافاً فكرية وسياسية متعددة، منها ما هو محافظ ومنها من يميل إلى التقدّمية، ومنها من ينحاز إلى مدارس الدفاع الاجتماعي والتخطيط المركزي للاقتصاد، ومنها من ينحاز إلى الاقتصاد الحرّ.

ويرى زيتون أنه لا بد من حسم هذه القضايا بوضوح وعدم تأجيلها تحت أي ظرف، لأن أسئلة التونسيين الأساسية التي قامت من أجلها الثورة لا تتعلق بصراع الأيديولوجيا الذي تصرّ عليه النخبة السياسية. وإذا أرادت الحركة أن تكون جزءاً مهماً من الحياة السياسية التونسية، فينبغي أن تكون أرضيتها السياسية واضحة، وأن تنصرف إلى محاولة الاستجابة للتونسيين في مطالبهم الأساسية.

ولا يخفي زيتون أنّ النخبة السياسية أخطأت في فهم مطالب الناس وفي فهم طبيعة الثورة التي هي في الأساس ثورة اجتماعية عميقة وليست ثورة سياسية سطحية.

وعلى صعيد آخر، تبدو "النهضة" منشغلة بتدرّبها على الحكم، خصوصاً بعد فشلها الواضح في سنوات الثورة الأولى، وهو فشل تقرّ به قيادات كثيرة داخلها، على الرغم من إنكار آخرين لذلك، ولكنها تفسّره بعدم خبرتها في الحكم والإدارة، ودخولها إلى المعترك بشكل مباشر إثر انتخابات 2011، في حين لم تكن مهيأة لذلك.

من ناحية ثانية، تفهم قيادات كثيرة داخل "النهضة" أن تدربها على الحكم يمر عبر تدربها على التشارك فيه، خصوصاً في ظل نظام برلماني وساحة متوازنة سياسياً لا تتيح فوز حزب واحد بغالبية ساحقة، على الأقل في هذه المرحلة، وهو ما يستوجب تمريناً توافقياً صعباً جداً. لكن "النهضة" مصرّة عليه، لتحافظ على مناخ مستقر وطنياً، يكفل لها ترتيب بيتها في هدوء، خصوصاً أنها مطمئنة على قواعدها التي لم تخنها في الانتخابات الماضية، كما حصل مع أحزاب كثيرة.

غير أن أحزاباً كثيرة في تونس، لم تطمئن لهذا الخطاب النهضوي، خصوصاً اليسار التونسي، والذي رفض علناً دعوات متكررة من الحركة للقاء والتحاور بشكل مباشر. وقد تحتاج "النهضة" إلى وقت طويل وامتحانات كثيرة لتقليص هذه "الريبة المحيطة بها" لدى كثيرين.

مع ذلك، بدأت تشعر بحليف استراتيجي ممكن لها، لم تتوضح بعد علاقتهما معاً، ولكن الظروف ألقت بهما إلى الخندق السياسي نفسه، ويقصد هنا الدستوريون (من حزب "الدستور"). ويتوقع مراقبون أن الطرفين ذاهبان لا محالة إلى تحالف طبيعي لأسباب عديدة أهمها التقارب الفكري، والانطلاق من الأرضيّة الإصلاحية نفسها واتفاقهما على القيم المعتدلة في الإسلام والانفتاح على الآخر.

لكن هذه القراءة لا تحظى بإجماع داخل "النهضة" أو الدستوريين. ولذلك، يبرز تيار داخل "النهضة" يدافع عن ذلك التيار في "نداء تونس"، والذي يعتبر هجيناً من نقابيين ويساريين.

تبدو رحلة "النهضة" من منافيها الخمسين وسجونها الـ 27 التي عددها الغنوشي، طويلة، ولكن الزمن يستعجلها في آخر مراحلها، لتجاوز الآلام والتطلع نحو المستقبل.

اقرأ أيضاً: وقفة مع حركة النهضة

المساهمون