فرنسا وتونس الثورة: بين نكث الوعود والدعم

10 ابريل 2015
السبسي أثناء استقباله وزير الخارجية الفرنسي (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -
قرّرت باريس أخيراً دعم تونس الثورة، بعد فترة من المماطلة ونكث الوعود التي جاء بها مؤتمر "دوفيل"، حول دعم دول الربيع العربي بنحو 40 مليار دولار. وتمثل هذا الدعم في تحويل الديون الفرنسية إلى مشاريع استثمارية، ما من شأنه أن ينعكس إيجاباً على الاقتصاد التونسي في مرحلة حساسة. التغير في السياسة الفرنسية تحكمه المصالح بالدرجة الأولى، إذ كانت الأخيرة تنتظر أن تأمن إلى شريك حاكم في تونس.

وجميع الذين تعاقبوا على تحمل المسؤولية الأولى في تونس، بعد الثورة، توجهوا نحو باريس طلباً للمساعدة، وحرصاً على تحسين العلاقات مع الشريك الاقتصادي الرئيسي لتونس. جاء ذلك على الرغم من أن فرنسا كانت أهم دولة غربية صديقة للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وتولت حمايته ودعمه حتى آخر لحظة من حكمه.

كانت الأجواء التي أعقبت هروب بن علي من البلاد فرصة تاريخية سانحة لتحقيق تقدّم واسع على مستوى العلاقات الثنائية. إذ إن الطبقة السياسية الفرنسية شعرت بحجم الذنب الذي ارتكبته في حق التونسيين، خصوصاً الديمقراطيين منهم، عندما ساهمت في السكوت عن نضالاتهم من أجل الحرية والديمقراطية. ولهذا كانت تصريحات المسؤولين الفرنسيين في تلك المرحلة سخية وواعدة، غير أن عطاءهم على الصعيد العملي جاء محدوداً وجزئياً.

احتضنت يومها فرنسا ذلك الاجتماع الشهير في منتجع "دوفيل"، والذي خصصته مجموعة الثماني للدول الكبرى للنظر في دعم دول الربيع العربي. وأعلن الرئيس الفرنسي حينها، نيكولا ساركوزي، أنه اختار أن يجعل من (دوفيل) "لحظة مؤسسة لشراكة طويلة الأمد بين الدول العربية التي تدعم الديمقراطية ومجموعة الثماني". وحضر الرئيس التونسي الحالي، الباجي قائد السبسي، ذلك الاجتماع، حاملاً معه ملفاً يتضمن الحاجيات السريعة لتونس، والتي قدرت بـ25 مليار دولار، لمدة خمس سنوات. وقد وعدت قمة مجموعة الثماني بتخصيص ما قدره 40 مليار دولار، توزع على خمس دول عربية، من بينها تونس. لكن لم يتحقق من ذلك إلا النزر القليل.
لماذا تراجعت الدول الكبرى، وخصوصاً فرنسا، عن الالتزام بوعودها لدعم تونس؟
كانت تلك طفرة حماس ومراوغة من معظم الدول الغربية، بما في ذلك فرنسا، لتقديم نفسها كدول حامية للديمقراطية. لكن بعد ذلك جاء دور الحسابات والمصالح المحدودة لتعدل من السياسات وتنسف شراكة "دوفيل" من الأساس، وتلحقها بالعشرات من الاتفاقيات الإقليمية والدولية التي قامت حولها ضجة ثم دفنت في صمت.

الأسباب عديدة، لعل من أهمها الأزمة المالية والاقتصادية التي لا تزال تطحن العالم، وتضع فرنسا وأوروبا في زاوية حادة. وما حدث في اليونان، وما يجري حالياً في إسبانيا والبرتغال، ليس سوى مؤشرات على ذلك. لكن المعضلة الاستراتيجية التي لا تزال تدفع الفرنسيين خصوصاً نحو التردّد في تقديم دعم حقيقي وجدي لتونس، هو وجود الإسلام السياسي الذي يعتبر قوة سياسية مركزية في المعادلات الداخلية التونسية.

في البداية، انتظرت باريس ما ستسفر عنه انتخابات المجلس الوطني التأسيسي التي جرت يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011. وجاءت النتائج مخيبة لآمال اليمين واليسار في فرنسا. وقد عبرت عن ذلك بوضوح وزارة الخارجية بعد الإعلان عن النتائج، عندما وجهت تحذيراً مبطناً لحركة "النهضة" الفائزة. غير أنّ الحزب الاشتراكي الفرنسي عدل من أسلوبه، نظراً لما أبدته قيادة الحركة من اعتدال ومرونة، إضافة إلى وجود طرفين ضمن تحالف مرحلة الترويكا قد وفرا ضمانة، وهما حزب "التكتل من أجل العمل والحريات" بقيادة مصطفى بن جعفر، الذي كان يتولى رئاسة المجلس التأسيسي، إضافة إلى كونه عضواً في الاشتراكية الدولية التي يلعب فيها الحزب الاشتراكي الفرنسي دوراً أساسياً. إضافة إلى رئيس الجمهورية السابق، المنصف المرزوقي، الذي كان صديقاً شخصياً للرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند.

مع ذلك، استمرت الهواجس الفرنسية إلى أن حل موعد الانتخابات التشريعية والرئاسية في تونس. شعرت الأوساط الفرنسية بشيء من الارتياح عندما فاز حزب "نداء تونس" بأكثر مقاعد البرلمان، وتراجعت حركة "النهضة". وكان ميل باريس نحو المرزوقي أقوى من السبسي، وهو ما أعلنه هذا الأخير بوضوح في تصريحات علنية، لكن هولاند سرعان ما قام بتعديل الموقف وتصالح مع ساكن قرطاج الحالي.

تحويل الديون إلى استثمارات، هو مطلب تونسي ملحّ ومعضلة رئيسية للبلاد. ومما لا شك فيه أن تحويل 60 مليون يورو من ديون فرنسا إلى مشاريع في تونس خطوة اقتصادية ورمزية هامة، وهي ليست الأولى التي تقدم عليها حكومة باريس، لكنها تبقى دون توقعات الطرف التونسي، الذي كان يأمل في أن تلغي فرنسا ديونها أو أن تعيد استثمارها.

اقرأ أيضاً (السبسي في فرنسا: لماذا البرود تجاهنا؟)

ويدرك الفرنسيون أن التجربة التونسية تواجه تحديين: الأول اقتصادي، والثاني أمني. والجانب الأخير تحديداً دار حوله حديث مطول وصريح من الجانب التونسي خلال الزيارة الحالية للرئيس السبسي التي تمت في أجواء بروتوكولية عالية المستوى. جزء من هذا الحديث الذي دار بين قائدي البلدين أشارت إليه بعض وسائل الإعلام، والجزء الأهم لا يزال سرياً.

اقرأ أيضاً (السبسي ينجح "نظرياً" في فرنسا)

تعاون استخباراتي
ويواجه النظام التونسي مشكلة حادة، فالحرب المفتوحة ضد الجماعات المسلحة مكلفة وممتدة، وتتطلب توفير معدات أمنية وعسكرية عاجلة. وفي مقدّمة هذه المعدات طائرات مجهزة بمناظير ليلية، لأن مركز قيادة المجموعات الإرهابية يتمثل في سلسلة الجبال المرتبطة بمرتفعات الشعانبي العالية، وصولاً إلى المناطق الوعرة من الشمال الغربي.

وبما أن تونس قد اقتنت ثماني مروحيات أميركية موجهة لمحاربة الإرهاب في الجبال، ولن تتسلمها قبل عامين، لجأت السلطة التونسية إلى الاستعانة بطائرة خاصة تأتي من مطار بنتلاريا في جنوب إيطاليا تمنحها ترخيصاً استثنائياً للتحليق فوق جبال فوق منطقة الشعانبي لدوافع استخباراتية، وهو ما يؤكد أن التعاون العسكري التونسي الفرنسي مرشح لكي يشهد بدوره تطوراً ملحوظاً خلال الفترة المقبلة. فالرئيس الفرنسي أصبح مقتنعاً، أكثر من أي وقت مضى، بأهمية حماية استقرار تونس، وأن تغلغل الجماعات المسلحة في داخل أراضيها من شأنه أن يهدد الأمن الفرنسي والأوروبي، ويجعل من تونس دولة فاشلة إلى جانب ليبيا، وهو ما ستكون له تداعيات خطيرة على كامل منطقة البحر الأبيض المتوسط.

لكن هل يصدق الفرنسيون هذه المرة، ويعملون بجدية على بناء علاقات متميزة مع تونس؟ سؤال تجيب عنه الأشهر المقبلة. لكن المؤكد من جهة أخرى هو حجم فاتورة هذا التعاون وكلفته، خصوصاً أن حجم ميزانية تونس لسنة 2015 ازدادت بنسبة 15 في المائة، وأن نصف الانتدابات الجملية للوظيفة العمومية تتقاسمه وزارتا الداخلية والدفاع، وأن سنة 2017 ستكون الأكثر قسوة، لأنها ستشهد بداية دفع فوائض الديون التي حصلت عليها الحكومات السابقة، وأن هذا التطور في مجال التسلح سيكون حتماً على حساب الاستحقاقات الاقتصادية والاجتماعية للتونسيين.