ثلاث محاكمات في يوم واحد، شغلت الإيرانيين وزاد معها الأخذ والرد، فخرج المتحدث باسم السلطة القضائية، غلام حسين محسني اجه اي، يوم الاثنين الماضي، ليعطي الجميع الصورة الإجمالية لما دار خلف أبواب المحاكمات غير العلنية، من دون التطرق للتفاصيل.
وأكد اجه اي أن "الحكم الصادر بحق مستشار الرئيس السابق، محمد رضا رحيمي، يقضي بالسجن ودفع غرامة مالية"، مشيراً إلى أنه "حكم غير قطعي وأنها قضية قابلة للاستئناف"، أما محامي رحيمي، محمد رضا نادري، فأكد أنهم "سيستمرون حتى النهاية دفاعاً عن براءة موكله من تهم الفساد المالي الموجهة إليه".
بدأ الجدل حول هذا الرجل منذ عام 2006، عندما مدح أحمدي نجاد علناً، فنقل عن شخص قابله في سورية في أحد الأيام، قال له "إنه لو كان هناك نبي بعد النبي محمد (ص)، لكان هو أحمدي نجاد!". وهو ما أثار موجة سخط وغضب عارمين بين المحافظين، وطالب 70 نائباً بعزله من منصبه، الذي لا يستحقه بعد تشكيكهم حتى بشهادة الدكتوراه الحاصل عليها.
اتهم بعد ذلك بقضايا فساد واختلاس كبرى، وبالاستفادة من منصبه لتحقيق أغراض شخصية، وتقديمه رشاوى لنواب في البرلمان، لمحاباة الحكومة السابقة.
أما الشخص الثاني، الذي قدم لجلسة المحاكمة، في اليوم نفسه، فكان الرئيس السابق لمؤسسة التأمين الاجتماعي، سعيد مرتضوي، الذي اتهم بالاختلاس وبمنح أصول مالية تثبت تورطه في قضايا فساد كبرى، ولم يصدر الحكم عليه في ظل استمرار التحقيقات حتى الآن.
وأخيراً، كان لمهدي هاشمي، نجل رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام، علي أكبر هاشمي رفسنجاني، الحصة الأكبر من اهتمام الإيرانيين، وإن لم يكن على علاقة بأحمدي نجاد وبتياره، إلا أن قضيته أثيرت في عهد الرئيس السابق، بعد توجيه الأخير الاتهامات له بسرقة الأموال العامة لتمويل الحملة الانتخابية لوالده، الذي رشح نفسه لرئاسيات 2005، منافساً أحمدي نجاد، فضلاً عن تهم تتعلق باستلامه رشوة ضخمة من شركة "ستات أويل" النرويجية عام 2001، مقابل تسهيل الحصول على مشاريع استثمارية تتعلق بالطاقة والنفط في البلاد، فيما يقول المتهم ومحاميه إنه يحاكم بتهم سياسية تدور حول إخلاله بالنظام في البلاد، وتقديمه الدعم "لمثيري الفتنة"، خلال احتجاجات عام 2009، التي أثارها مناصرو المرشح الإصلاحي، مير حسين موسوي، بعد تشكيكهم بنزاهة الانتخابات، التي مددت لبقاء أحمدي نجاد في السلطة أربع سنوات أخرى.
لا تنتهي سلسلة المحاكمات هنا وحسب، بل ينشغل القضاء في جلسات محاكمات سلسلة متورطين، منهم من فرّ خارج البلاد، ومنهم من يقبع في السجون الآن، بتهمة عملية اختلاس ثلاثة مليارات دولار، طالت عدة مصارف إيرانية حكومية وأخرى خاصة، وهي عملية الاختلاس الأكبر في تاريخ إيران، فقد حصل المتهم الرئيسي، منصور آريا، على ائتمانات مصرفية مزورة من عدد من المصارف لشراء أصول مالية، وعدم تدقيق عديدين في أصل السندات، قاد القضاء إلى الاعتقاد بوجود شبكة كبيرة تتكون من شخصيات نافذة، ومعظمهم من الدائرة المقربة من الرئيس السابق.
ولا يستطيع أحد في الداخل أن ينسى أن تشدد أحمدي نجاد في السياسة الخارجية انعكس سلباً على الداخل، في الوقت الذي تورط فيه المقربون منه بالاختلاس والفساد، ولكن حتى العقوبات كانت لها فوائدها على البعض في عهده.
ولا بد من الإشارة هنا إلى قضية بابك زنجاني، التي تشغل القضاء وديوان الرقابة المالية على حد سواء، فهذا الرجل كان وسيلة للالتفاف على العقوبات، ولبيع النفط الإيراني المحظور في الخارج، بسبب برنامج البلاد النووي، ولكنه في المقابل لم يسلم العائدات التي تبلغ مليارَي وستين مليون يورو للشركة الوطنية للنفط.
واعتقد الجميع، في السابق، أنه بسبب الحظر المالي وتجميد أصول الإيرانيين في الخارج، لم يستطع زنجاني إدخال المبالغ، لكن بعد تعليق العقوبات بموجب اتفاق جنيف، الموقع في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، كان بإمكانه حل المسألة، إلا أن تهربه من الموضوع جعل القضية تأخذ أبعاداً أكثر حساسية قد تجرّه إلى محاكمة قريبة.
كل هذا يوجه الشبهات إلى أحمدي نجاد، والذي يتعرض هو الآخر لبعض الاتهامات، لكنها لم تأخذ طابعاً قضائياً رسمياً بعد، ولا تزال قضية جامعة (إيرانيان) الخاصة، التي حاول فتحها مع مستشاره حميد بقائي، تحظى بالاهتمام.
وفي وقت سابق، كشف الديوان العام للرقابة المالية عن تحويل أموال من حسابات حكومية إلى حساب الجامعة، التي لم تكن قد أنشئت أو حصلت على ترخيص، لتوجه أصابع الاتهام صراحة إلى الرئيس السابق، ومجموعة من المقربين منه، ووفق الدستور الإيراني يجب إبلاغ مجلس الشورى الإسلامي بهذا الأمر، كي يتم التعاطي مع الملف.
من الواضح أن أحمدي نجاد قد أدخل البلاد في متاهة الاتهامات المتبادلة والجدل السياسي، فانتقاده البرلمان وبعض أفراد الحرس الثوري، وحتى اتهامه بالخروج عن طاعة المرشد الأعلى، علي خامنئي، كلها أمور أدت إلى التصعيد ضده وضد الحلقة المقربة منه.
وكانت الضربة القاضية بعد عزله لوزير الاستخبارات، حيدر مصلحي، وإعادة المرشد تعيينه، فبقي أحمدي نجاد متغيباً عن الساحة، ولم يحضر إلى مكتبه 11 يوماً ففهم الأمر على أنه تحدّ.
وصعّد صقور المحافظين المتشددين من انتقاداتهم له ولتياره، الذي أصبح يسمى تيار "الانحراف"، والذي يعدّ صهره ومدير مكتبه اسفنديار رحيم مشائي مؤسسه. وبدأ مشائي بالترويج لإيران القومية، وليس إيران الإسلامية، وخرج وأخرج الرئيس السابق معه عن سكة المحافظين التقليدية، فكان الثمن سخطاً وانتقادات ومحاكمات.
ولكن رغم كل هذا، لا يمكن الاستهانة بهذا التيار، الذي يبدو أنه اختفى عن مراكز صنع القرار مع انتهاء رئاسة أحمدي نجاد، ولكنه ما زال موجوداً تحت مسمى جبهة (الثبات) في البرلمان.
وبدأ أعضاؤه بالانتقام أخيراً، فكان أول ضحاياهم وزير التعليم في حكومة الرئيس حسن روحاني، فرجي دانا، والذي استدعوه واستجوبوه واتهموه بدعم الإصلاحيين و"مثيري الشغب"، والنتيجة كانت عزل الوزير لتأخذ الصورة في الداخل الإيراني شكل الصراع بين التيارات المختلفة، وحتى داخل التيار الواحد نفسه.