في ظل أزمة سياسية خانقة تعيشها البلاد منذ ما يزيد عن خمسة أشهر، يُحيي العراقيون، اليوم السبت، الذكرى التاسعة عشرة للغزو الأميركي لبلادهم عام 2003، عندما سقطت العاصمة بغداد في التاسع من إبريل/ نيسان من ذلك العام ومعها نظام الرئيس الراحل صدام حسين. وتأتي الذكرى هذا العام وسط اتساع حاد في معدلات الفقر والبطالة والجريمة المنظمة، وتراجع الحريات العامة، وهيمنة نفوذ الجماعات المسلحة الحليفة لطهران على مفاصل مهمة في الدولة.
وعلى غرار كل عام في مثل هذا اليوم، يستعيد العراقيون مشاهد سقوط بغداد وسيطرة الدبابات الأميركية على وسط العاصمة، وأجواء الحرب والرعب التي عاشوها، وما خلّفه الاحتلال طيلة السنوات الماضية من نزيف دموي لم يبقَ بيتاً ولا شارعاً في بلاد الرافدين إلا طاوله جزء منه.
ويستذكر العراقيون الضحايا عبر زيارة المقابر التي ارتفع عددها من 620 مقبرة في سنة الغزو الأميركي إلى 2500 مقبرة بعده، موزعة في عموم مدن البلاد.
وتتصدر بغداد والموصل والنجف والأنبار وكركوك وديالى والبصرة القائمة لناحية عدد المقابر فيها، حيث يقصد عشرات الآلاف من المواطنين في صبيحة هذا اليوم من كل عام، قبور ضحاياهم لإيقاد الشموع وتلاوة الأدعية والصلوات.
الزاملي: عدد ضحايا الغزو الأميركي للعراق يراوح ما بين 700 و800 ألف قتيل
ضحايا الغزو الأميركي للعراق
من جهتها، تواصل السلطات في بغداد، للعام السابع عشر على التوالي، حجب العدد الحقيقي لضحايا الغزو الأميركي للعراق، تاركةً هذه المهمة للمعنيين بالملف العراقي ومراكز البحوث، وبشكل تقديري.
غير أن النائب الأول لرئيس البرلمان العراقي حاكم الزاملي يقول في حديث مع "العربي الجديد"، إن "عدد ضحايا الغزو الأميركي وعملياته في العراق طيلة السنوات الماضية، يراوح ما بين 700 و800 ألف قتيل، في حين أن ضعف هذا العدد هم جرحى ومعوّقون، إلى جانب عشرات آلاف المفقودين الذين لا يعرف عنهم شيء إلى الآن".
ويكشف الزاملي عن أنهم يتجهون إلى "توثيق ما خلفه الغزو الأميركي في العراق من ضحايا، من خلال إلزام الحكومة خلال الدورة البرلمانية الجديدة بالكشف عن عدد ضحايا الاحتلال".
ويستدرك بالقول إنه "يجب ألا ننسى جيوشاً من الأرامل والأيتام والمعوّقين الذين يعيشون بيننا كشواهد على جريمة الاحتلال"، مضيفاً "لم يقدم الاحتلال غير الخراب وزرع الفتنة الطائفية بين العراقيين".
كما يشير الزاملي إلى "تشكيل لجنة قضائية لإعادة النظر بقضايا المحكومين الذين تم اعتقالهم بتهمة مقاومة الاحتلال الأميركي وما زالوا في السجون لغاية الآن، وذلك من العراقيين فقط من دون العرب والأجانب، كون أغلبهم كانوا من الجماعات الإرهابية وينتمون لتنظيم القاعدة حينها".
وعلى نحو متزايد، لا تحيط بالذكرى مظاهر الاحتفاء التي كانت تقيمها الأحزاب الرئيسة في البلاد في مثل هذا اليوم من كل عام، بعد سقوط نظام صدام حسين، وبعدما سعت هذه الأحزاب في العام 2012 إلى اعتبار هذا اليوم مناسبة وطنية.
ويعود ذلك، بحسب مراقبين وسياسيين، إلى عاملين رئيسيين؛ أولهما الإجماع العراقي الواسع على رفض الاحتلال ومخرجاته الحالية وما آلت إليه الأوضاع في البلاد، إضافة إلى تبدل مزاج وولاءات الأحزاب الفاعلة في المشهد العراقي نحو الشرق، وتبني سياسة مناهضة لواشنطن.
الأزمات متواصلة في العراق بعد الاحتلال الأميركي
وتتزامن الذكرى هذا العام مع تفاقم أرقام الأزمات في العراق، في ظل تكرار حكومة مصطفى الكاظمي سلوك الحكومات السابقة، لناحية عدم الإيفاء بوعود برامجها الحكومية التي تكشف عنها في جلسات منح الثقة.
غير أن الحرب الجديدة التي يواجهها العراقيون وأدخلت قوات الجيش بشكل مباشر على خط هذه المواجهة، هي آفة المخدرات المهربة من إيران وسورية إلى داخل العراق، والتي سجلت أرقاماً قياسية داخل المجتمع، ورفعت نسبة الجريمة إلى 50 في المائة عن العام 2010، وفقاً لمسؤول رفيع في أمانة مجلس الوزراء العراقي.
مسؤول عراقي: نواجه تجارة ممنوعات محمية من جماعات مسلحة لها تمثيل سياسي
ويقول المسؤول نفسه لـ"العربي الجديد"، إنهم يواجهون "تجارة ممنوعات محمية من جماعات مسلحة لها تمثيل سياسي، وقد فتكت هذه التجارة بالمجتمع وزادت من معدل الجرائم".
ويؤكد أن "التحدي الآخر للعراق هذا العام، هو أزمة الجفاف غير المسبوقة التي قد تنتهي بإعلان مناطق كاملة من البلاد جافة، وأبرزها ديالى، شرقي العراق".
وتتصدر اليوم مدن جديدة لم تطاولها آلة الحرب أو الإرهاب في معدلات الفقر، حيث أعلنت السلطات في محافظة المثنى، جنوبي العراق، الشهر الماضي، عن تخطي نسبة الفقر في المحافظة الحدودية مع السعودية الـ51 في المائة.
يأتي ذلك فيما وصلت معدلات الفقر في الموصل والقائم وتكريت إلى 55 في المائة، بحسب أرقام غير رسمية، في حين وصلت البطالة إلى نسبة 40 في المائة، خاصة في مدن الشرقاط والموصل، التي دُمرت معاملها والأحياء الصناعية فيها بفعل المعارك الأخيرة لطرد تنظيم "داعش" منها. هذا فضلاً عن الفقر الذي يعم مدن الحويجة وتلعفر والرمادي والرطبة والبعاج وغيرها.
تراجع الحريات في العراق
ويؤكد المتحدث باسم مرصد "أفاد" الحقوقي، واسع الانتشار في العراق، حسين دلي "تراجع سقف الحريات العامة والخاصة في عموم مدن البلاد، خصوصاً في ما يتعلق بحرية التعبير عن الرأي".
ويضيف في حديث مع "العربي الجديد"، أن "أبرز الشعارات التي ساقتها الولايات المتحدة لاجتياح العراق في مثل هذا اليوم، وهي الحريات، لم تتوفر".
ويلفت إلى أن "هناك انحساراً للحريات بسبب ممارسة الأحزاب والجماعات المسلحة سياسة تكميم الأفواه على الناشطين وأصحاب الرأي المخالف لها، وصلت إلى حد التغييب والاغتيال وتلفيق التهم".
ويشير دلي إلى أن "ظاهرة هجرة الكُتاب والصحافيين والناشطين المدنيين من العراق بسبب التهديدات، باتت سمة العامين الماضيين، وفاقم هذه الظاهرة تقاعس أو فشل الأجهزة الأمنية في حماية هؤلاء وتأدية دورها في هذا الشأن".
حسين دلي: هناك انحسار للحريات بسبب ممارسة الأحزاب والجماعات المسلحة سياسة تكميم الأفواه
"مدن السرطان" في العراق
من جهتها، تتحدث الناشطة المدنية فاطمة الوائلي عن "فشل الحكومات العراقية المتعاقبة" في التعاطي مع ما تصفه "مدن السرطان".
وتوضح في حديث مع "العربي الجديد"، أن "البصرة والفلوجة والناصرية وبغداد تسجّل سنوياً آلاف الحالات السرطانية، وأغلب ضحاياها نساء جراء إصابتهن بسرطاني الثدي والرحم، فضلاً عن الأطفال الذين يصابون بسرطان الدم نتيجة الأسلحة المحرمة التي استخدمتها أميركا في الغزو أو ما بعد ذلك".
وتعتبر الوائلي أنه "يمكن إضافة السرطان كأزمة إنسانية في العراق، إلى جانب جيوش بلا رعاية من الأرامل والأيتام الذين خلفهم الاحتلال في العراق".
بروز القوى المدنية في المشهد العراقي
ويتفق العراقيون على أن الخيار الوحيد للتغيير اليوم هو دعم القوى المدنية والوطنية التي برزت في العامين الماضيين، كإحدى أهم نقاط التحوّل الإيجابية التي شهدها العراق خلال الفترة الأخيرة، عقب تفجر الاحتجاجات الشعبية في مدن جنوب ووسط العراق وبغداد، في الربع الأخير من العام 2019.
وقد استمرت هذه الاحتجاجات لأكثر من 14 شهراً، وتراجعت على أثرها شعبية القوى الإسلامية في الشارع لأدنى مستوى لها منذ عام 2005.
وتحظى القوى والتيارات والحركات المدنية بقبول شعبي واسع في العراق، مُشكّلة ظاهرة مهمة وغير مسبوقة داخل المجتمع، ساهمت إلى حد كبير في تراجع الهويات الفرعية، وانحسار الخطاب الطائفي في البلاد.
وتختلف هذه القوى المدنية في طريقة عملها. فهناك من يرى أهمية في الدخول وسط المعترك السياسي والعمل على الإصلاح من الداخل ومحاصرة الأحزاب الإسلامية الطائفية، والدفع بها بشكل تدريجي إلى خارج دائرة القرار.
في موازاة ذلك، هناك من يعتبر أن استمرار الوجود في الشارع عامل ترهيب وضغط أكبر على الأحزاب الحالية، من دون تقديم رؤية أو مشروع محدد لما بعد ورقة الضغط بالشارع.
لكن جميع القوى المدنية متفقة بكل الأحوال في ما يتعلّق بالهدف، وهو مواجهة حالة الفشل المزمنة في العراق، والتأكيد على دولة المواطنة، وضمان الحقوق والحريات العامة والخاصة، والإزاحة التدريجية للإسلاميين عبر الانتخابات بالاعتماد على تراجع شعبيتهم لأدنى مستوى لها منذ عام 2003، خاصة في معاقلهم التقليدية جنوبي البلاد.
رائد فهمي: المشهد السياسي بدأ بالتغيّر في العراق
في السياق، يقول رئيس الحزب الشيوعي العراقي رائد فهمي، في اتصال مع "العربي الجديد"، إن "المشهد السياسي بدأ بالتغيّر في العراق نتيجة النهج الذي سارت عليه العملية السياسية القائمة على المحاصصة"، وبرأيه، فإنّ "هذا النهج أثبت أنه صانع للأزمات، وجعل الدولة العراقية ميداناً للصراع بين الكتل والأحزاب".
ويصف فهمي المحاصصة في العملية السياسية بأنها "حاضنة للفساد والفاسدين، ولهذا توجُّه العراقيين اليوم نحو الشخصيات والقوى المستقلة والمدنية هو نتيجة طبيعية".
ويشير فهمي إلى أن "فشل الدولة وفسادها بسبب الكتل والأحزاب المسيطرة على المشهد، دفع إلى خروج تظاهرات غاضبة، ولا سيما بعدما تسبب هذا الفشل والفساد بزيادة نسبة البطالة والفقر ونقص الخدمات".
ويتابع "لهذا، المواطنون توجهوا إلى الشخصيات المستقلة، وأصبح لهؤلاء المستقلين حضور كبير في مجلس النواب العراقي اليوم، عكس كل السنوات السابقة، عندما كان وجودهم معدوماً بسبب سيطرة الأحزاب التقليدية على مجمل المقاعد في البرلمان".
ويرجح فهمي ارتفاع نسبة مقاعد المدنيين والعلمانيين والمستقلين في البرلمان المقبل، بالقول إن ذلك "وراد جداً"، مضيفاً "لكن ذلك يعتمد على إجراء انتخابات نزيهة وعادلة، وتقليل نفوذ المال السياسي على العملية الانتخابية".
بدورها، تؤكد رئيسة كتلة "الجيل الجديد" المدنية في البرلمان العراقي النائبة سروة عبد الواحد أن "المجتمع في العراق اتجه إلى الشخصيات والجهات السياسية المدنية".
وتوضح في حديث مع "العربي الجديد"، أن "سبب الرغبة الشعبية اليوم في وصول القوى والجهات المدنية إلى البرلمان وتصدر المشهد السياسي، هو فشل الأحزاب الإسلامية التقليدية في العمل السياسي طيلة العقدين الماضيين".
وتتوقع عبد الواحد "ارتفاع عدد المقاعد البرلمانية للمدنيين والمستقلين خلال الانتخابات المقبلة، خصوصاً إذا بقي قانون الانتخابات بالصيغة نفسها التي جرت على أساسها انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول الماضي".