لا يشبه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أياً من سابقيه، خصوصاً في زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، وربما لن يشبه أياً من اللاحقين أيضاً. شخصيته المغايرة لكل سلوكات الرؤساء الأميركيين، تؤكد أنه لن ينصرف إلى نشر كتاب عن ولايته الرئاسية، ولا إلى رعاية احتفالات لجمعيات خيرية وحضور حفلات موسيقية كلاسيكية. لا يرغب في أن يكون بعده عن الساحة السياسية نهائياً. يومياته في منتجع "مارالاغو" في فلوريدا، تشي بالكثير، فبين قضائه وقتاً في لعب الغولف، رياضته المفضلة، وقبل العشاء الذي يبدأ عند الساعة 7.30 مساء، يلتقي ترامب العديد من أركان الحزب الجمهوري، فارضاً نفسه صانعاً للملوك، بعدما امتنع عن تشكيل حزب خاص به منذ فترة.
الرجل واضح في عزمه على إمكانية تحقيق عودة سياسية، يريدها مظفّرة في الانتخابات النصفية للكونغرس، المقررة في أواخر عام 2022. يدرك ترامب أن وجوده المنبثق من شخصيته الجدلية وشعبويته وعنصريته وتطرفه وفضائحه المتعددة، المتوّجة باقتحام أنصاره مقرّ الكونغرس في مبنى "كابيتول هيل" في 6 يناير/ كانون الثاني الماضي، تتيح له المجال للبقاء على قيد الحياة سياسياً، أقلّه حتى انتهاء ولاية الرئيس جو بايدن، في عام 2024. وعندما سأله الإعلامي في قناة "فوكس نيوز" شون هانيتي، مطلع الشهر الحالي، عما إذا كان يخطط للترشح للرئاسة في عام 2024، أجاب ترامب: "إنني أنظر إلى الأمر بجدية بالغة وأكثر". وأضاف: "من وجهة نظر قانونية، لا أريد أن أتحدث عن ذلك، فهذا مبكر جداً".
لم يكن السادس من يناير الماضي مجرّد يوم عادي، بل كان مفصلياً من نواحٍ عدة، انطلاقاً من الانعكاس السلبي للاقتحام على ترامب ومحاولاته نقض نتائج الانتخابات الرئاسية، التي جرت في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني، وسقوط نظريات المؤامرة التي حاكها مع أنصاره حول "سرقة الانتخابات منه"، خصوصاً في الولايات المتأرجحة، وعلى رأسها جورجيا. وأدى ذلك إلى بدء الحرب على الرئيس السابق، فتخلى عنه نائبه مايك بنس، وتعرّض للعزل مرتين، رغم نجاته في مجلس الشيوخ في المرتين، وحُرم من حسابه على "تويتر"، بالإضافة إلى بدء التحقيقات في شأن ملفاته المالية، واحتمال قيامه بالتهرب الضريبي والاحتيال المصرفي. ويُفترض أن يكون الوضع الحالي لترامب مؤشراً على إنهاء نفوذه بالكامل، وإطاحة حظوظه في أي عودة رئاسية. مع العلم أن شعبية ابن نيويورك ما زالت مرتفعة بين قواعد الحزب الجمهوري، بل يصرّ أنه حصل على تأييد أكثر من 75 مليون شخص في الرئاسيات.
يدعم ترامب مرشحة لانتخابات خاصة في تكساس يوم السبت المقبل
ومنذ 20 يناير الماضي، تاريخ تسلّم بايدن رئاسة الولايات المتحدة، يعيش ترامب في "مارالاغو"، مطلقاً سلسلة من البيانات ومعلقاً على قضايا مثل الهجرة. كما يعزز حضوره داخل صفوف حزبه، الذي "فشل" في دعمه بشأن عمليات "التزوير" في انتخابات الرئاسة، وفقاً له. وعلى الرغم من حظره في موقع "تويتر"، عاد ترامب للظهور مرة أخرى على قناة "فوكس نيوز"، الأسبوع الماضي، فقدّم مقابلة مليئة بالمظالم، مشتكياً من أنه تمت محاكمته في الكونغرس على الرغم من عدم "ارتكاب أي خطأ". وفي غضون ذلك، يتوافد الجمهوريون على مارالاغو لطلب مشورته أو تأييده. ومع أنه حاول الاستعانة بشخصيات جمهورية، من أجل متابعة رئاسة بايدن وانتقاد أخطائه، إلا أن كثيرين اعتبروا أن سلوكه لن يكون مفيداً.
ومع تطلعه للعودة الرئاسية في عام 2024، مرشحاً عن الحزب الجمهوري، إلا أن بعض المتنافسين لهذه الرئاسيات باشروا وضع أسس حملاتهم المحتملة مع ظهورهم في الولايات التي ستؤدي دوراً حاسماً في الانتخابات التمهيدية والعامة للرئاسة الجمهورية. في السياق، سيلقي نائب الرئيس السابق مايك بنس أول خطاب عام له منذ ترك منصبه، في كارولاينا الجنوبية، قريباً. كما ظهر وزير الخارجية السابق مايك بومبيو، الذي زار ولاية أيوا في مارس/ آذار، في حفل افتراضي لجمع التبرعات، الشهر الماضي، لجمهوريي ولاية نيو هامبشاير. كما أنه من المقرر أن يظهر كل من حاكم ولاية فلوريدا رون دي سانتيس والسفيرة الأميركية السابقة لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي في بنسلفانيا وأيوا على التوالي في الشهرين المقبلين. بدورهم سيقوم سيناتور فلوريدا ريك سكوت وسيناتور أركنساس توم كوتون وسيناتور كارولاينا الجنوبية تيم سكوت بزيارة أيوا، في مؤشر على نواياهم الرئاسية.
الأهم هو كشف مساعدين لترامب لقناة "سي أن أن"، أول من أمس الأربعاء، أنه ينوي تنظيم مسيرات بعنوان "اجعلوا أميركا عظيمة مرة أخرى"، بدءاً من مطلع شهر مايو/ أيار المقبل. ولم يتم تحديد الخدمات اللوجستية للتجمعات، لكن الرئيس السابق سيستخدم العناصر نفسها التي شاركت في حملته الانتخابية العام الماضي. وأفاد أحد المصادر بأن "الأمر سيكون مختلفاً".
وتتساءل الباحثة المتخصصة في الشؤون الأميركية في معهد "بروكينغز" إيلين كامارك: "هل هو مجرد فصيل في الحزب الجمهوري أم أنه قوة مهيمنة؟". وتضع كامارك مع زملاء لها سلسلة من المعارك التمهيدية نصب أعينهم لقياس مدى نفوذ ترامب قبل أي استحقاق رئاسي. وسيكون أول اختبار في الدائرة السادسة للكونغرس في ولاية تكساس، يوم السبت المقبل، حيث ستجري انتخابات خاصة لملء مقعد الجمهوري في مجلس النواب رون رايت، الذي توفي في فبراير/ شباط الماضي. وقد أيّد ترامب سوزان رايت، أرملة رايت. وتشير كامارك إلى أنه في حال خسارة ترامب الانتخابات التمهيدية، فإن "السياسيين سيعتقدون أنه ربما ليس مخيفاً للغاية في نهاية المطاف، لكن إذا فاز بها، فسيكون قوة لا يستهان بها".
ولم يشعر الرئيس الأميركي السابق قط بالحرج من السجالات السياسية، بل تعهّد أيضاً بتأييد مرشح جمهوري يشكل تهديداً سياسياً مستقبلياً لعضو مجلس النواب ليز تشيني، ابنة نائب الرئيس الأسبق ديك تشيني، التي صوّتت لعزله مطلع العام الحالي. وحذرت تشيني زملاءها من تبني "عبادة الشخصية" لا سيما بعد اقتحام 6 يناير. وفي وقت سابق من الشهر الحالي، قالت لشبكة "فوكس نيوز"، إنها "لن" تدعم ترامب إذا كان مرشح الحزب لانتخابات الرئاسة في 2024.
ويوم الجمعة الماضي، ألقت عضو الكونغرس مارغوري تايلور غرين خطاباً داعماً لترامب، عشية افتتاح الحزب الجمهوري مؤتمره الأول منذ انتهاء عهد الرئيس الـ45. وبعدما انتقدت عدم دعوة ترامب للمؤتمر، اعتبرت أنه كان محقاً في إطلاق الاتهامات حول تزوير الانتخابات. وتوجّهت للحشد بالقول: "شكراً لكم على البقاء أوفياء لرئيسنا دونالد ترامب"، مضيفة أنه "لا يزال يتعين علينا أن نجعل أميركا عظيمة مجدداً". وتعد غرين واحدة من أكثر أعضاء الكونغرس دعماً لنهج ترامب السياسي. وتبدو حريصة مع آخرين يشاطرونها أفكارها على التسويق لترامب نفسه أو لمؤيد له، مثل دي سانتيس أو السناتور جوش هاولي من ميزوري، كمرشح للحزب لانتخابات الرئاسة في 2024.
فُتحت ملفات قضائية ضد ترامب متعلقة بتهرّبه الضريبي واحتيالاته المالية
وبموازاة حصوله على تأييد غالبية قواعد الحزب الجمهوري، لا يزال ترامب يُبدي رأيه في الملفات الخارجية، بالجدلية نفسها التي كان عليها في عهده. فقد اتهم، يوم الجمعة الماضي، الرئيس الكوري الجنوبي مون جاي ـ إن بنهب الولايات المتحدة، مشدّداً على صداقته المفترضة مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون. وقال: "كيم جونغ أون، الذي تعرفت إليه، وأحببته، في ظل أصعب الظروف، لم يحترم يوماً الرئيس الحالي لكوريا الجنوبية مون جاي ـ إن". وأضاف أن "الرئيس مون كان ضعيفاً كقائد وكمفاوض، إلا عندما يتعلق الأمر بالنهب العسكري المستمر والطويل الأمد للولايات المتحدة"، مؤكداً أنه "تمت معاملتنا كحمقى لعقود، ومع ذلك تمكنت من جعلهم يدفعون مليارات الدولارات الإضافية مقابل الحماية والخدمات العسكرية التي نقدمها". وتطرق ترامب إلى تعامل إدارة بايدن مع ملف شبه الجزيرة الكورية، بالقول إن الإدارة الحالية "لن تطلب حتى المليارات الإضافية التي وافقت كوريا الجنوبية على دفعها لنا".
ومع أنه أيّد بايدن في الانسحاب من أفغانستان، إلا أنه انتقد تحديد 11 سبتمبر/ أيلول المقبل موعداً نهائياً لخروج آخر جندي أميركي من هناك. وتمنّى في 18 إبريل/ نيسان الحالي: "ألا يستخدم جو بايدن 11 سبتمبر موعداً لسحب قواتنا من أفغانستان، لسببين: أولاً، يمكننا وينبغي علينا الخروج في وقت أبكر. 19 عاماً كافية، في الواقع، هو وقت طويل جداً. أما السبب الثاني فهو أن 11 سبتمبر يمثل حدثاً حزيناً للغاية وفترة زمنية لبلدنا، ويجب أن يظل يوما للتأمل والذكرى تكريما لتلك النفوس العظيمة التي فقدناها".