يفغيني بريغوجين... من "طباخ" بوتين إلى العدو رقم واحد

25 يونيو 2023
بوتين وبريغوجين بسانت بطرسبرغ، سبتمبر 2010 (أليكسي دروجينين/أسوشييتد برس)
+ الخط -

مساء 23 يونيو/ حزيران، أطلّ زعيم مرتزقة فاغنر يفغيني بريغوجين في شريط مصوّر من إحدى مناطق مقاطعة بيلغورود الروسية، المتاخمة للحدود الأوكرانية، ليعلن التمرّد على القيادة العسكرية الروسية، وتحديداً على كل من وزير الدفاع سيرغي شويغو، ورئيس هيئة الأركان الجنرال فاليري غيراسيموف، بعد اتهامهم بقصف قواته في أوكرانيا، ويتوعد بالمحاسبة.

حيّد بريغوجين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في هذا الإعلان، مشدّداً على أنه لا يقوم بانقلاب عسكري، بل حركة تهدف إلى تحقيق العدالة في روسيا، لكنه سرعان ما انتقل إلى انتقاد بوتين نفسه، ليبدو اليوم وكأنه يخوض آخر معاركه مع المؤسسة الرسمية الروسية، بشقيها العسكري والسياسي، بعد ثلاثة عقود كان فيها قريباً من السلطة في رحلة صعود تختصر الكثير من شخصيته. 

وأعلن الكرملين، مساء السبت، التوصل إلى اتفاق مع بريغوجين يقضي بمغادرته إلى بيلاروسيا، كما أن الدعوى الجنائية المرفوعة ضدّه "سيتمّ إسقاطها". 

وأتقن ابن مدينة سانت بطرسبرغ (لينينغراد في أيام الاتحاد السوفييتي) لعب الكثير من الأدوار في حياته، إذ انتقل من سارق إلى سجين، إلى متعهد الطعام لدى الجيش الروسي، فمقرب من الرئيس الروسي، إلى مؤسس مجموعة "فاغنر" ومؤدي الأدوار القذرة لموسكو في العديد من الدول، قبل أن تتضخم قواته ويتصاعد نفوذه حتى وصل به الأمر إلى تحدي وزارة الدفاع الروسية ورفض الانضواء تحت ظلالها، تزامناً مع تصاعد انتقاداته لها حتى تفجّر الصدام وتحوله إلى متمرّد مُتهم بخيانة الوطن.


ابن مدينة سانت بطرسبرغ (لينينغراد في أيام الاتحاد السوفييتي) أتقن لعب الكثير من الأدوار في حياته

سلوك غير مفاجئ لبريغوجين

لم يكن سلوك بريغوجين الجمعة غير متوقع بالمعنى الحرفي للكلمة، فقد سبق أن قدم الكثير من "المفاجآت"، خصوصاً بعد تحول عناصره إلى واجهة الأحداث، بدءاً من شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، ودخولهم ساحة القتال في أوكرانيا بصورة علنية.

ويبدو أن فشل القوات الروسية في تحقيق تقدم سريع في دونيتسك ولوغانسك والخسائر البشرية الكبيرة دفعت جنرالات الجيش منذ شهر مارس/ آذار 2022 إلى زيادة الاعتماد على "فاغنر" التي كانت أعمالها تتركز في بلدان أفريقية خصوصاً.

وبدأ بريغوجين يظهر في الجبهات منذ إبريل/ نيسان 2022، بعد أن نقلت وكالة "ميدوزا" الروسية المعارضة عن مصادر مقربة منه أنه قرر عدم المشاركة في القتال بأوكرانيا إلا بأمر خاص من بوتين.

باشر بريغوجين باستقدام عناصره المنتشرين في الخارج إلى الجبهة في أوكرانيا، كما جال على السجون الروسية لإقناع المساجين بالانضمام إلى الحرب مقابل إلغاء الأحكام المفروضة عليهم.

خاضت "فاغنر" معارك مدينة سوليدار، في الشرق الأوكراني، ونجحت في السيطرة عليها. ومع الانتقال إلى معركة باخموت، بدأ بريغوجين يفاجئ الجميع بانتقاده الدائم للقيادة العسكرية الروسية. اتهمها بالخيانة وبمنع الذخيرة عن قواته، مما دفع بوتين للتدخل مراراً من أجل رأب الصدع والمحافظة على تدفق السلاح إلى المجموعة.

وفي مايو/ أيار الماضي، سقطت باخموت بين أيدي "فاغنر"، ليعلن بريغوجين أن رجاله لن يبقوا في المدينة وسيخرجون منها بعد تسليمها للجيش الروسي، من دون أن يغفل مواصلة انتقاداته لشويغو وغيراسيموف، خصوصاً تلك التي تضمنت شتائم من العيار الثقيل، عبر منصته على "تليغرام".

وخلال الأشهر التي كان فيها بريغوجين ينتقد القيادة العسكرية، كانت الأخيرة صامتة، لكنها تستعد لتوجيه ضربة معنوية لمؤسس "فاغنر". ففي 10 يونيو الحالي، أصدر شويغو أمراً يلزم جميع تشكيلات المتطوعين الروس بتوقيع عقد مع وزارة الدفاع، ومنحهم مهلة بذلك حتى 1 يوليو/ تموز المقبل.

وبحسب نائب وزير الدفاع الروسي نيكولاي بانكوف، فإن هذا القرار سيسمح لتشكيلات المتطوعين بالحصول على الوضع القانوني اللازم، ويوسع إمكانات تجنيد الوحدات، سواء من العسكريين أو المتطوعين". أدرك بريغوجين أن هذا الأمر ينطلق من ثابتتين؛ الثابتة الأولى أن "المجد" الذي ناله في سوليدار وباخموت، وتجاوز الخطوط الحمر في التعاطي مع مختلف مستويات الدولة الروسية، أثار غضب القيادة العسكرية، التي تحركت لتحجيم نفوذه عبر سحب سيطرته من "فاغنر".

والثابتة الثانية أن الجيش الروسي يحتاج لإحكام السيطرة القانونية على المجموعات التي تقاتل إلى جانبه، كي لا تُصبح قوى عسكرية مستقلة في مرحلة لاحقة، تُضعف مركزية موسكو.


رفض بريغوجين توقيع أي عقود لمقاتلي مجموعته مع الوزارة

رفض بريغوجين توقيع أي عقود لمقاتلي مجموعته مع الوزارة. وقال في تعليق إن "فاغنر" تنسق بالفعل أعمالها مع قادة وحدات القوات المسلحة الروسية، معرباً عن "أسفه" لأن معظم الوحدات العسكرية الروسية لا تتمتع بكفاءة مقاتليه، وعزا ذلك إلى أن شويغو لا يستطيع عادة إدارة التشكيلات العسكرية. غير أن الأهم في موقفه هو رفضه الامتثال لتشديد بوتين على ضرورة توقيع مثل هذه العقود.

في الواقع إن ما زاد من مشكلات بريغوجين الداخلية هي خلافاته مع سيرغي كيرينينكو النائب الأول للإدارة الرئاسية في الكرملين والمسؤول عن ملف السياسة الداخلية، نتيجة انحيازه مع محافظ مقاطعة لينينغراد ألكسندر بيغلوف، الذي يتهمه بريغوجين بمعاداته والتضييق على أعماله. 

كان واضحاً بعد 10 يونيو أن الصدام محتم بين القيادة العسكرية الروسية وبريغوجين، الذي وجد نفسه محاصراً من خصومه في الدائرة المحيطة ببوتين، فكان لا بدّ من القيام بحركة ما، خصوصاً أن لا مستقبل سياسياً لبريغوجين، وفق المسار السياسي الروسي، لأن بوتين سيبقى مرشحاً رئاسياً في انتخابات عام 2024، ما لم تحدث تطورات مفاجئة. وأيضاً لن يقبل الرئيس الروسي بمنح بريغوجين منصباً سياسياً يسمح له بنمو نفوذه أكثر.

وفي 20 يونيو الحالي، تبنّى مجلس الدوما الروسي قانوناً يمكن بموجبه إعفاء الجنود المتعاقدين والمعبئين الذين ذهبوا للقتال في أوكرانيا من المسؤولية الجنائية عن الجرائم الصغيرة ومتوسطة الخطورة. وشكّل اعتماد القانون إقراراً رسمياً بنجاح تجربة "فاغنر" في تجنيد السجناء.

لكن تردي العلاقة بين وزارة الدفاع وبريغوجين تسارع لتنفجر الخلافات على نحو غير مسبوق منذ الجمعة قبل أن يعلن بوتين تعهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بسحق ما وصفه بالتمرد المسلح لتكتب نهاية للعلاقة التي جمعت الرجلين طيلة العقود الثلاثة الماضية.

سنوات سانت بطرسبرغ

فبريغوجين، مولود في سانت بطرسبرغ في 1 يونيو 1961، وهي نفس المدينة التي ينتمي لها بوتين. عاش بريغوجين طفولة ثم مراهقة صعبتين، مع وفاة والده مبكراً. لم ينجح في تحقيق حلمه باحتراف رياضة التزلج. امتهن بريغوجين السرقة، فارتكب سلسلة من جرائم النشل والاعتداء، التي أدخلته السجن لمدة 9 أعوام في عام 1981.

وفي عام 1990 أُفرج عنه، ليبدأ رحلة جديدة، بالعمل مع والدته على تقديم "هوت دوغ" في الشوارع، قبل أن يؤدي تفكك الاتحاد السوفييتي إلى نشوء فراغات على مستويات عدة، استغلها بريغوجين لمصلحته، فامتلك حصة في سلسلة من المتاجر، قبل أن يقرر افتتاح مطعم في عام 1995.

ولم تكن خطوته طبيعية بالمعنى التقليدي، ففي روسيا المولودة من رحم الاتحاد السوفييتي، سيطر الأوليغارشيون، خصوصاً في موسكو وسانت بطرسبرغ، على معظم قطاعات الأعمال، وبأسعار بخسة، وبالتالي لم يكن بريغوجين بعيداً عن هذه الأجواء.

خلال هذه المرحلة كان بوتين نائباً لعمدة سانت بطرسبرغ، أناتولي سوبتشاك، الذي عرّفه على مطعم "دار الجمارك القديمة" التابع لبريغوجين. تعارف الرجلان، خصوصاً حين راقب بوتين حركة بريغوجين وتعامله مع موظفيه، فضلاً عن هوسه بالنظافة.

وفي الوقت نفسه، كان سوبتشاك يمدح بريغوجين أمام بوتين، لتبدأ العلاقة التصاعدية تنمو بين الرجلين، حتى وصول بوتين إلى الرئاسة الروسية، ما ساعد بريغوجين على الحصول على عقود لإطعام الجيش الروسي. ومن هنا جاء لقبه "طباخ بوتين".

اكتسب بريغوجين ثقة بوتين تدريجياً، لكنه لم يكتف بدور "الطباخ"، إذ سرعان ما انتقل إلى لعب أدوار أخرى خلف الستار بدأت تتكشف تباعاً في السنوات الأخيرة من خلال انكشاف دوره بتأسيس وقيادة مجموعة فاغنر.


"ذا غارديان": بريغوجين لا يرحم ومطيع لرؤسائه، لكنه يستبد بأتباعه

وتنقل صحيفة "ذا غارديان" البريطانية السبت، عن عدد ممن رافقوا بريغوجين، وطلبوا عدم الكشف عن هويتهم، من أجل الحديث بحريّة، إجماعهم على أن بريغوجين لا يرحم ومطيع لرؤسائه، لكنه يستبد بأتباعه.

واعتبرت أنه شخص "لن يتردد في الحصول على ما يريد". وكان لافتاً أن عارفي بريغوجين ذكروا للصحيفة أن عنصري المال والسلطة لا يحفزان بريغوجين وحدهما، بل أيضاً "الاعتقاد بأنه يقاتل النخب الفاسدة نيابة عن الرجل العادي، والرغبة في سحق منافسيه".

وهو مسار صنع له أعداء كثيرين، مثل شركاء أعمال سابقين يشعرون بالخداع وجنرالات في الجيش انتقدهم ووصفهم بأنهم بيروقراطيون، وكبار المسؤولين الأمنيين الذين يخشون أن تكون لديه طموحات للاستيلاء على السلطة السياسية. لكن ما مكنه من "النجاة" أنه احتفظ طيلة المرحلة الماضية بتأييد أهم داعميه، بوتين.

وذكرت "ذا غارديان" أن صعود بريغوجين على الساحة العسكرية بدأ في صيف 2014، أي بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم الأوكرانية بالقوة، ودعمها الانفصاليين الأوكرانيين في الشرق.

وذكرت الصحيفة أن مجموعة من كبار المسؤولين الروس اجتمعوا في مقر وزارة الدفاع في موسكو، لمقابلة بريغوجين. وتمحور الاجتماع حول منحه أرضاً لتدريب "المتطوعين" الذين لن تكون لهم صلات رسمية بالجيش الروسي، ويُمكن استخدامها لخوض حروب روسيا "القذرة".

لم يعجب كثيرون في الوزارة بطريقة بريغوجين، لكنه أوضح أن "الأوامر تأتي من البابا"، مستخدماً لقب بوتين، بهدف التأكيد على قربه منه. وقال مسؤول سابق رفيع المستوى في وزارة الدفاع الروسية، اطلع على هذه المناقشات: "في ذلك الوقت، لم أفكر كثيراً في المشروع".

في الواقع، سيكون للقرارات التي اتخذت في ذلك اليوم تأثير هائل على السياسة الخارجية الروسية ومغامراتها العسكرية في السنوات التالية. وسيُعرف جيش بريغوجين من المقاتلين المتعاقدين باسم مجموعة "فاغنر"، وسيعمل في أوكرانيا وسورية والعديد من البلدان الأفريقية.

نقطة التحول

ووفقاً لـ"ذا غارديان"، فإن نقطة التحول في العلاقة بين بريغوجين والقيادة الروسية كان الغزو الروسي لأوكرانيا. إذ أدى انخراط "فاغنر" في معارك سوليدار وباخموت إلى احتكاك مع القيادة العسكرية الروسية، خصوصاً أنه في ليبيا وسورية والسودان ومالي وجمهورية أفريقيا الوسطى والكونغو الديمقراطية وغيرها من الدول التي تنتشر فيها المجموعة كانت تقاتل من دون الحاجة إلى تنسيق مع الجيش الروسي.

استقلالية عملها في تلك الدول دفعت إلى تصادمها مع الجيش الروسي على الأراضي الأوكرانية. وذكرت الصحيفة أن "فاغنر" أصبحت قوة كبيرة، مع بلوغ عدد عناصرها نحو 50 ألفاً، وفقاً لتقديرات المخابرات الغربية، بما في ذلك عشرات الآلاف من السجناء السابقين الذين تم تجنيدهم من السجون في جميع أنحاء روسيا.

وسمحت علاقة بريغوجين مع بوتين في تجاوز الأول خسارة أكثر من مائة عنصر خلال محاولتهم السيطرة على آبار نفط تابعة للأكراد في الشرق السوري في عام 2018. في ذلك الوقت، راقب الأميركيون عناصر "فاغنر" يتقدمون باتجاه الآبار، فتشاوروا مع الروس، عما إذا كان هؤلاء يتحركون بأوامر رسمية. نفى القادة الروس ذلك، فقصف الأميركيون مجموعة "فاغنر" وطويت القضية.

لم يحضر عناصر "فاغنر" في سورية فقط، بل أدوا دوراً في التدخل بالانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016، بإقرار بريغوجين نفسه، في إشارة إلى أن عمل المجموعة تخطى العمليات العسكرية الميدانية إلى الحروب السيبرانية.

ووفقاً للمسؤولة السابقة عن السياسة الروسية في مجلس الأمن القومي الأميركي، فيونا هيل، فإن جذب بوتين بريغوجين إلى جانبه طيلة الفترة الماضية كان محاولة للظهور بمظهر القوي. ونقلت "ذا إيكونوميست" في 12 يونيو الحالي عن هيل قولها إنه حين كانت تبحث في سيرة بوتين قبل سنوات، أصبحت تشك في أن كل القصص التي تشكل السمات الشخصية للزعيم الروسي، مثل صلابته كطفل وتقييم جهاز الاستخبارات السوفييتي "كاي جي بي" شخصيته بأن "شعوره بالخطر ضئيل"، مصدرها بوتين نفسه.

وقالت للصحيفة: "في بعض الأحيان أتساءل عن مدى قوة بوتين فعلاً". وخلصت إلى إبداء رأيها بالقول: "ربما يشك بريغوجين في أن رئيسه ليس قوياً كما يتظاهر. ربما ينظر إلى بوتين ويسأل نفسه: لماذا ليس أنا؟".

في عام 2015، وفي إحدى المحاضرات التي يلقيها، قال بوتين: "تعلمت في شوارع لينينغراد (سانت بطرسبرغ) أنه إذا كان القتال محتماً، فعليك توجيه الضربة الأولى". وبريغوجين ابن لينينغراد أيضاً، وجّه مساء الجمعة الضربة الأولى.

(العربي الجديد)

المساهمون