ما زالت العلاقة بين الجيش الروسي و"فاغنر" في طور التأزيم الذي يُنذر بسيناريوهات أسوأ، على غرار ما نراه في الدول التي تعمل فيها مليشيات كقوى موازية للجيش.
بعض بوادر ذلك ظهرت، خلال الأشهر الماضية، في إهانات زعيم المليشيا اللاذعة لقادة الجيش، والتي تجاوزت أخيرًا الكلام إلى الصدام المباشر، حينما تبادلت مجموعة من" فاغنر" النار مع وجدات الجيش، للمرة الأولى، أثناء الانسحاب من باخموت، وأسرت كولونيلًا في الصفوف الروسية الأمامية لأيام.
واليوم، بعد أشهر من الصمت في وزارة الدفاع الروسية إزاء التعليقات الصاخبة ليفغيني بريغوجين، يبدو أن الجيش بدأ يبحث عن مناورة ما لاحتواء معضلة "فاغنر" قبل تجذرها، والفكرة المطروحة كانت تأميمها لتصبح تحت إمرة وزير الدفاع مباشرة، إلا أنها استدعت تعليقًا آخر من بريغوجين بنبرة "تمرد".
ويمكن القول إن الفكرة المطروحة أصبحت بمثابة قرار نافذ منذ إصدار وزارة الدفاع الروسية، السبت، مرسومًا موقّعًا من قبل سيرغي شويغو، يُلزم "تشكيلات المتطوعين" بتوقيع عقود مباشرة مع الوزارة "لرفع فعالية الانتشار العسكري (لتلك التشكيلات) كجزء من مجموعة القوات المشتركة"، محدّدًا الأول من يوليو/ تموز المقبل موعدًا نهائيًّا لذلك.
ويعني ذلك القرار عمليًّا أنّ أمام "فاغنر" وزعيمها نحو أسبوعين لتنظيم الوضع القانوني للمليشيا ضمن القوات المقاتلة، علمًا أن هناك نحو 40 فرقة غير نظامية تقاتل إلى جانب القوات الروسية، من بينها، على سبيل المثال، "كتيبة أحمد" الشيشانية، التي كانت أخيرًا في صلب حرب كلامية، تخللتها تهديدات مباشرة، بين بريغوجين وأوساط رئيس الشيشان رمضان قديروف، وظهرت اليوم كأوّل الموقعين على المرسوم الجديد، وفق ما نشرت وزارة الدفاع على موقعها في إعلان لاحق.
وستستفيد "كتيبة أحمد"، وغيرها من تشكيلات المتطوعين المستجيبة للمرسوم، من "توسيع نطاق الحماية الاجتماعية، وتدابير الدعم التي وضعتها الدولة لهم، وكذلك لأفراد أسرهم"، وفق ما كان قد صرّح به نائب وزير الخارجية الروسي نيكولاي بانكوف في شرحه لأهداف القرار.
وستمنح العقود الجديدة أيضاً الموقّعين عليها "الوضع القانوني اللازم، وتخلق مقاربات جديدة لتنظيم الدعم الشامل، ولتأدية مهامها على أكمل وجه"، وفق ما ذكرت وزارة الدفاع في بيانها.
وتقرأ "بي بي سي"، و"إذاعة أوروبا الحرة"، وكذلك مواقع روسية، في هذا الإعلان محاولة مباشرة من قبل وزارة الدفاع، ومن ورائها الكرملين، لتأميم "فاغنر"- مليشيا المرتزقة التي تولّدت فكرتها أساسًا في صلب دوائر صناعة القرار الروسية، باستلهام من الصيت الدامي لـ"بلاك ووتر" في حرب العراق، ومن رغبة في مد أذرع عسكرية رمادية في رقع مختلفة، لا سيما أفريقيا والشرق الأوسط.
لكن زعيم "فاغنر" لم يتأخر في نبذ خطوة وزارة الدفاع، قائلًا "لا أوقع عقودًا مع شويغو" الذي، وفق تعبيره، "لا يعد كفوءا لإدارة التشكيلات العسكرية؛ لذا ليس لمعظم الوحدات العسكرية الفعالية التي تتمتّع بها قوات فاغنر".
ويعني ذلك فعليًّا، طبقًا لبيان وزارة الدفاع، أن بريغوجين ومجموعته لن يستفيدوا من الدعم العسكري الذي تقدمه وزارة الدفاع، بما يشمل الذخيرة التي ظلّ الأخير يشكو من نقصها أثناء الحملة على باخموت، مشيرًا بإصبع الخيانة إلى شخصيّات نافذة في وزارة الدفاع، على رأسها شويغو نفسه.
لكن بريغوجين يدرك بالفعل رجاحة هذا الاحتمال، وقد أثاره في تصريحات لاحقة، قائلًا إن "ما يمكن أن يحدث بعد هذا الأمر أننا لن نحصل على أسلحة وذخيرة. سنكتشف ذلك"، ثم استدرك: "عندما تضرب العاصفة، سيأتون إلينا مسرعين طلبًا للمساعدة، ويجلبون الأسلحة والذخيرة"، مجدّدًا استعداده لنشر مقاتليه في منطقة بيلغورود التي ما زالت تعيش على وقع الاقتحامات المتكرّرة للحدود من قبل مليشيات روسية متعاونة مع الجيش الأوكراني.
غير أن المرسوم قد ينطوي على ما هو أبعد من ذلك، بالعودة إلى ما تحمله جملة "الوضع القانوني اللازم" من دلالات؛ إذ من المحتمل أن يكون الاستنكاف عن التعاقد مع الجيش مقدّمة لنزع الشرعية عن المجموعة، وحصر قادتها في وضعية غير قانونية، وهم يقودون بالأساس مجموعة من السجناء وأصحاب السوابق الذين افتدوا أنفسهم بالقتال.