منذ إقامة دولة إسرائيل لم تتجاوز تصريحات صنّاع القرار حول الحاجة لتطوير الاقتصاد العربي وتحسين الأحوال المعيشية للمواطنين العرب كونها ضريبة كلامية، إذ لم ينتج عنها أي تحسين اقتصادي جدي على أرض الواقع. وكانت أبرز أهداف السياسات الحكومية في هذا السياق هي احتواء الأقلية العربية، والتحايل على الفلسطينيين في إسرائيل ومنعهم من تنمية قدراتهم الاقتصادية الذاتية أو التمتع بمشاريع التنمية الحكومية والإنجازات الاقتصادية.
وما زال الاقتصاد العربي داخل إسرائيل لغاية الآن يتسم بالتبعية والتعلّق بالاقتصاد الإسرائيلي. إلا أننا بدأنا نلاحظ في العقد الأخير خطاباً اقتصادياً مختلفاً، إلى حد ما، تجاه الفلسطينيين في إسرائيل تسوّق له الحكومات الإسرائيلية، خصوصاً من قبل حكومات بنيامين نتنياهو منذ العام 2009. ويطرح هذا الخطاب الحاجة والأهمية لتعامل الدولة مع المشاكل الاقتصادية للمواطنين العرب في إسرائيل، وخصوصاً الأوضاع الاقتصادية للنساء العربيات، ويرى في ذلك مصلحة وجودية للاقتصاد الإسرائيلي وتطويره، ولتحقيق أهداف اقتصادية مثل الانضمام لمنظمة التنمية والتعاون OECD، من جهة، وأداة للتعامل مع "التطرف" السياسي لدى المجتمع العربي في الداخل، ومحاولة لاحتواء المطالب السياسية من جهة أخرى.
تحاول الحكومات في السنوات الأخيرة، دفع المجتمع العربي إلى تحويل الضائقة المعيشية والاقتصادية إلى قضية مركزية
بالتوازي مع تغيير الخطاب الاقتصادي للحكومات الإسرائيلية، تحاول الحكومات في السنوات الأخيرة، خصوصاً منذ العام 2015، دفع المجتمع العربي إلى تحويل الضائقة المعيشية والاقتصادية إلى قضية مركزية، تفوق في أهميتها كافة القضايا الأخرى، منها القضية القومية وقضية الاحتلال. بذلك تسعى الحكومات لأن يتمحور نضال المجتمع العربي حول الحالة الاقتصادية والمعيشية والميزانيات والقضايا المدنية، على أمل أن يبتعد المواطنون العرب عن القضايا السياسية القومية الجماعية، وهوية وطابع دولة إسرائيل وقضية الاحتلال، وتحويل قضيتهم إلى قضية عدم مساواة وإلى نضال مدني طبيعي إلى حد بعيد، كما هو الحال في العديد من الدول الغربية.
مع الأسف، قامت بعض الأحزاب العربية بالتماهي، عن وعي أو من دون وعي، مع هذا التوجّه، وحوّلت القضية المعيشية الاقتصادية إلى القضية الأولى، مثل القائمة المشتركة عام 2015، وإلى موضوع يمكن من أجله غضّ النظر عن بقية القضايا ودخول التحالف الحكومي، كما فعلت القائمة العربية الموحّدة عام 2021. كل هذا من خلال فك الارتباط بين الحالة الاقتصادية والمعيشية والمكانة القومية الجماعية للمجتمع العربي.
بادرت الحكومة الإسرائيلية إلى خطة اقتصادية لتطوير الاقتصاد العربي عام 2015 بقيمة قرابة 15 مليار شيكل (نحو 4 مليارات و134 مليون دولار)، سميت بـ"الخطة 922"، ومن بعدها خطة "تقدم 550" عام 2021 بقيمة مضاعفة، بهدف تغيير الأوضاع الاقتصادية المعيشية للمجتمع العربي، وبشكل غير معلن بغية تجنيد الاقتصاد العربي لتطوير الاقتصاد الإسرائيلي. في نهاية المطاف خصصت الحكومة على أرض الواقع أقل من نصف الميزانيات المقررة في "الخطة 922"، وتوقف العمل بخطة "تقدم 550" بعد تفكك حكومة يئير لبيد - نفتالي بينت، وعودة نتنياهو لرئاسة الحكومة عام 2022.
على الرغم من هذه الخطط وتخصيص قسم من الميزانيات المقررة، وتنفيذ برامج لتغيير الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للمجتمع العربي، توضح معطيات نشرتها دائرة الإحصاء الإسرائيلية في 19 يونيو/ حزيران الحالي، بعنوان "وجه المجتمع في إسرائيل"، أن الفروقات بين المجتمعين العربي واليهودي ما زالت قائمة، في غالبية مناحي الحياة. ومن ضمن هذه الفروقات، متوسط العمر المتوقع للفرد، ومستويات الدخل للأسرة وللأفراد، ومعدلات المشاركة في أسواق العمل، ومعدلات الفقر، ومستويات التعليم، والحالة الصحية. وهو ما يشير إلى أن هذه الخطط لم تغيّر الكثير، بل حافظت على الوضع القائم، وفي أفضل الحالات منعت تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع العربي.
فروقات في الحالة الاقتصادية
وفقاً للتقرير، بلغ عدد السكان العرب عام 2021 (يشمل القدس الشرقية) قرابة مليوني مواطن (21 في المائة من مجمل السكان)، وعدد السكان اليهود وغير المصنفين دينياً 7.45 ملايين مواطن (79 في المائة). وتشكّل الفئة العمرية لغاية جيل 24 عاماً قرابة 51 في المائة من المجتمع العربي وقرابة 40 في المائة من المجتمع اليهودي. وهو ما يوضح أن المجتمع العربي مجتمع فتي، وأن احتياجاته الاقتصادية والحاجة لخلق أماكن عمل كبيرة جداً.
بلغ دخل الأسرة اليهودية 1.5 ضعف دخل الأسرة العربية
في الجانب الاقتصادي، ما زالت الفروقات بين المجتمعين العربي واليهودي واسعة. فقد عبّر 70.4 في المائة من المواطنين اليهود بجيل 20 وما فوق عن رضاهم تجاه وضعهم الاقتصادي مقابل 51.1 في المائة من العرب. ويبيّن المعطيان أن 64.4 في المائة من الرجال و61.6 في المائة من النساء اليهود يعملون، مقارنة بـ50.4 في المائة من الرجال و28.3 في المائة من النساء العربيات.
أما في معدلات الدخل، فقد بلغ دخل الأسرة اليهودية 1.5 ضعف دخل الأسرة العربية، بينما بلغ دخل الفرد اليهودي الواحد 1.9 ضعف دخل الفرد الواحد العربي. وبلغ معدل الإنفاق الشهري على الاستهلاك (يشمل كلفة السكن)، للأسر اليهودية 15467 شيكلاً (قرابة 4.5 آلاف دولار)، و14282 شيكلاً (قرابة 4 آلاف دولار)، لدى الأسر العربية، مع العلم أن معدل عدد الأفراد في الأسر العربية أعلى من الأسر اليهودية. بينما يزيد إنفاق الفرد الشهري في الأسرة اليهودية 1.5 مرة عن إنفاق الفرد في الأسرة العربية، بواقع 5072 شيكلاً للمنازل اليهودية، و3421 شيكلاً لإنفاق الفرد في المنازل العربية.
تؤكد المعطيات الواردة في التقرير أن نسبة اليهود وغيرهم، الذين تمكنوا من تغطية نفقات أسرتهم الشهرية في عام 2021، أعلى بكثير من نسبة العرب، بواقع 76.5 في المائة، مقابل 53.7 في المائة على التوالي. كما أوضح التقرير أن احتمال الفقر لدى المجتمع العربي أعلى بـ2.9 مرة، من احتمال الفقر بين اليهود.
فروقات في الأوضاع الصحية والعمر المتوقع
تتجلى التفاوتات بين المجتمعين العربي واليهودي في متوسط العمر المتوقع لكل من المواطنين العرب واليهود، إذ بلغ متوسط العمر المتوقع بين عموم السكان في عام 2021، 82.6 عاماً. وفيما كان متوسط العمر المتوقع بين اليهود والمواطنين الآخرين (باستثناء العرب) 81.3 سنة للرجال، و85.1 سنة للنساء، كان العمر المتوقع عند العرب 76.3 سنة للرجال، و81.2 سنة للنساء. وفي عام 2021، كانت معدلات وفيات الرضع لكل ألف ولادة 5.2 لدى العرب، بينما بلغت النسبة بين اليهود وغيرهم 2.0 لكل ألف مولود.
فجوات في مستويات التعليم
كما أكد التقرير وجود فجوات كبيرة في مجال التعليم، إذ أظهرت المعطيات أن 16.2 في المائة من العرب حاصلون على شهادات جامعية، مقابل 36.3 في المائة من اليهود، و41.2 في المائة من العرب حصلوا على تعليم أقل من ثانوي، أو لا تتوفر معلومات بشأن تعليمهم، مقابل 14.1 في المائة فقط من اليهود وغيرهم من المواطنين. وبالإضافة إلى ذلك، فإن نسبة الطلاب المتسربين من صفوف السابع وحتى الثاني عشر أعلى بين العرب من نسب المتسربين من الطلبة اليهود.
أظهرت المعطيات أن 16.2 في المائة من العرب حاصلون على شهادات جامعية، مقابل 36.3 في المائة من اليهود
بطبيعة الحال لم يشمل تقرير دائرة الإحصاء المركزية كافة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، لكنه يشير بوضوح إلى فروق في الحالتين الاقتصادية والاجتماعية بين المجتمعين العربي واليهودي. هذه المعطيات تشير إلى أن السياسات الاقتصادية، على الرغم من التغيرات في السياسات الاقتصادية الحكومية تجاه المجتمع العربي، هي استمرار للسياسات والأهداف الاقتصادية المعمول بها تجاه الأقلية العربية منذ إقامة الدولة.
وترتكز تلك السياسات على مبدأ تجنيد الاقتصاد لمتطلبات النفوذ القومي والأهداف القومية والسياسية، وحجب الموارد الاقتصادية عن المجتمع العربي بهدف ضمان تعلقه في الموارد الاقتصادية وبأماكن العمل التي تنتجها مجموعة الأغلبية أو الدولة، والسيطرة على رأس المال والمعرفة والتقنيات الحديثة.
أما التغيير في السياسات فيدل على تغير ما في احتياجات الاقتصاد الإسرائيلي، خصوصاً اعتبار الوضع الاقتصادي للسكان الفلسطينيين معيقاً للتنمية الاقتصادية الإسرائيلية وقد يُلحق ضرراً بمصالح اقتصادية استراتيجية إسرائيلية، كما يدل على تغيير في الأهداف السياسية للحكومات الإسرائيلية، أبرزها محاولة تحويل عناوين النضال السياسي للفلسطينيين في إسرائيل إلى نضال مدني يتمحور حول الحاجات الاقتصادية والمعيشية المدنية، وإبعادهم عن النضال القومي ومطلب الحقوق الجماعية وإنهاء الاحتلال، وتفتيت العمل السياسي الجماعي العربي كما حصل فعلاً عام 2019 حين تفككت القائمة المشتركة، بسبب وعود نتنياهو للقائمة العربية الموحدة في الجوانب المدنية والاقتصادية.
بعبارة أخرى، تهدف الحكومات الإسرائيلية إلى معالجة سطحية للضائقة والدونية الاقتصادية للسكان الفلسطينيين، لكنها في الوقت ذاته تريد أن تحقق ذلك مع الحفاظ على تبعية الاقتصاد العربي للاقتصاد الإسرائيلي وارتباطه بالاقتصاد الإسرائيلي، ومصادر رأس المال الحكومي والخاص، والحفاظ على الفجوات في الحالة الاقتصادية بين المواطنين العرب واليهود. السياسات الاقتصادية تجاه المجتمع العربي تتناسق، أولاً وأخيراً، مع مصالح الدولة وأهدافها، ناهيك عن أنها ساهمت في تشويه المشاريع والمطالب السياسية لعدد من الأحزاب العربية في الداخل، وساهمت في تفكيك القائمة المشتركة عام 2019.