يحاول مثقفون وناشطون سياسيون سوريون معارضون "توحيد الخطاب الجماهيري الوطني المناهض للنظام السوري، ومنع الانجرار نحو الأهداف الانفصالية والتعصبية"، بحسب تعبيرهم، مع اقتراب الذكرى السنوية للثورة السورية في 15 مارس/آذار الحالي، وفي ظل أكثر من حراك شعبي ضد سلطات الأمر الواقع في البلاد. وأطلق هؤلاء المثقفون في مناطق السويداء ودرعا، في الجنوب السوري، وفي ريف حلب الشمالي، أمس الأول الجمعة، مبادرة تحت مسمى "وثيقة المناطق الثلاث"، تنهض على عدة مرتكزات، أبرزها: "تأميم السياسة، أي عدم تسليم القرار العمومي السوري لأي قوة أجنبية، أو دولة أخرى، أو مليشيا، أو جماعات حزبية، أو عصبية، وعدم مصادرة قرار السوريين"، وفق ما جاء في نص المبادرة. والمرتكز الثاني الذي شددت عليه المبادرة هو أن "الحياة، والحرية، والأمان، والكرامة، حقوق مصونة للسوريين كلهم، تقع في مركز تفكير السياسة السورية.
وتناهض كل فعل، أو خطاب يدعو إلى الكراهية، أو يروج للقبول بمصادرة الحريات والكرامة ومقايضتهما بالاستقرار". كما أكد القائمون على المبادرة أن "الدولة الوطنية لجميع أبنائها، وليست دولة ملّة، أو طائفة، أو جماعة عرقية، أو حزب، أو تيار سياسي"، مشددين على "رفض العصبيات والتحزبات". وجاء في ختام المرتكزات الأساسية للمناطق الثلاث أن "الثقة هي أداة تأسيس سياسية تؤطر الاجتماع الوطني".
سبب بروز "وثيقة المناطق الثلاث"
وتشي "وثيقة المناطق الثلاث" بأن السوريين، خصوصاً في الشارع المعارض، يستشعرون مدى الخطر الذي بات يهدد وحدة البلاد، في ظل توزعها على العديد من سلطات الأمر الواقع، إذ يتمركز النظام في جنوب وغرب ووسط سورية، و"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) في الشمال الشرقي، و"هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً) وفصائل المعارضة في الشمال والشمال الغربي.
وتندرج هذه المبادرة ضمن سلسلة طويلة من المبادرات السياسية التي انبثقت عن الحراك الثوري في سورية والذي بدأ في ربيع عام 2011 وما يزال مستمراً في أغلب مناطق السيطرة والنفوذ في البلاد.
ولكن هذه المبادرات لم تحدث فرقاً جوهرياً في المشهد السوري، وما تزال القضية السورية تعاني ركوداً طويلاً في ظل تراجع الاهتمام الإقليمي والدولي، ورفض النظام أي حل سياسي يقوم على تطبيق القرارات الدولية ذات الصلة وفي المقدمة القرار 2254 الذي تؤكد عليه قوى الثورة والمعارضة السورية داخل البلاد وخارجها.
أحمد القربي: تُشكّل الوثيقة أول تناغم على المشتركات بين الجنوب والشمال في سورية
وأوضح الناشط السياسي نصر أبو نبوت، وهو أحد القائمين على المبادرة، أن "هذه الوثيقة بمثابة إعلان مشترك من ثلاث مناطق لها رمزية وإجماع وطني وأهمية لدى السوريين"، مضيفاً: "فيها استحضار للتاريخ من خلال الإعلان عنها في ذكرى استقلال سورية في 8 مارس/آذار 1920".
وأضاف في حديثٍ لـ"العربي الجديد" أن أهمية هذه الوثيقة "تنبع من خلال مضمونها ومبادئها التي انطلقت منها"، مضيفاً: فيها دعوة إلى وحدة السوريين وتأميم السياسة وعدم الاتكال على الخارج، كما تدعو إلى الخطاب الوطني الجامع والبعد عن التجاذبات ونبذ الطائفية والمناطقية والاعتماد على السوريين أنفسهم.
في السياق، قال أحد القائمين وعضو لجنة الصياغة، فضّل عدم ذكر اسمه، في حديث مع "العربي الجديد"، إن هناك جملة من الأسباب دفعت إلى طرح وثيقة المناطق الثلاث "على رأسها توحيد الخطاب في الحراك السلمي في السويداء ودرعا والشمال السوري وفتح باب التنسيق والعمل المشترك"، مضيفاً: النظام يراهن على عزل السويداء حتى وصول الحراك السلمي فيها إلى الإحساس بعدم الجدوى.
وتابع: "الهدف الثاني هو القطع على مشاريع الانطواء المحلي والذهاب نحو الحكم الذاتي. وهناك محاولات متنوعة لاستثمار الحراك السلمي في السويداء للدفع نحو استنساخ تجربة الإدارة الذاتية في شمال شرقي سورية، في استعادة لذاكرة التقسيم الذي قام به الانتداب الفرنسي في سورية في عشرينيات القرن الماضي، ومواجهة هذه المشاريع هو أحد أهداف الوثيقة الرئيسية".
كما أوضح أن هناك هدفاً للمبادرة وهو "استعادة السوريين زمام المبادرة خارج الأطر السياسية التي تعاني من ضعف تمثيلها للمجتمع السوري واستفراد الجهات الدولية بالقرار السياسي"، مضيفاً: "هدفنا ألا يُترك مصير السوريين للآخرين".
وأشار إلى أن "وثيقة المناطق الثلاث تنطلق من المجتمع الأهلي (أبناء هذه المناطق) وليس من التنظيمات السياسية، وهو ما يعكس بحق إرادة شعبية يمكن البناء عليها"، معتبراً أن الوثيقة ستكون نقطة ارتكاز جديدة في الحراك السلمي الذي لا يزال حياً في هذه المناطق الثلاث، من أجل جمع المناطق الأخرى حوله.
هشام اسكيف: الوثيقة تعيد الثورة السورية إلى سرديتها الأصيلة القائمة على بناء الدولة
وتأتي هذه المبادرة مع اقتراب الذكرى الـ13 للثورة السورية، في 15 مارس الحالي، وفي ظل أكثر من حراك شعبي ضد قوى الأمر الواقع، حيث تشهد السويداء في مناطق النظام احتجاجات مستمرة منذ منتصف العام الماضي، في حين بدأ حراك شعبي مناهض لـ"هيئة تحرير الشام" في شمال غربي البلاد، وهو ما يؤكد أن الأسباب التي فجرت الثورة السورية ما تزال قائمة، بل ازدادت مع تردي الأوضاع المعيشية في كل المناطق السورية.
عودة الثورة السورية لأصل شعاراتها
من جهته، كشف مسؤول الدائرة السياسية لـ"اتحاد ثوار حلب"، هشام اسكيف، في حديث مع "العربي الجديد"، أن ما دفع الاتحاد إلى تبنى المبادرة والفكرة "هو أنها تعيد الثورة السورية لأصل شعاراتها ألا وهو (واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد)، أي رفض أي مشاريع سلطوية وكيانات مشبوهة وطارئة وإعادة الثورة السورية إلى سرديتها الأصيلة القائمة على بناء سورية الدولة". وأمِل اسكيف أن تُحدث هذه المبادرة فرقاً في المشهد السياسي السوري، مضيفا: سنكون حاضرين في أي تطوير لهذه الوثيقة كما كنا حاضرين في تبنيها.
أما المحلل السياسي أحمد القربي، فرأى في حديث مع "العربي الجديد"، أن المبادرة "حاولت في النقاط التي حددتها التركيز على المبادئ الوطنية الجامعة والتي ليست محل خلاف بين السوريين".
وتابع: "غالبية الوثائق التي صدرت في الثورة بدءاً من البرنامج السياسي للمجلس الوطني، مروراً بالرؤية السياسية لائتلاف قوى الثورة والمعارضة، ووثائق هيئة التنسيق الوطنية، وصولاً إلى بيان رياض 1 ورياض 2، كلها تتقاطع بشكل أو بآخر مع مبادرة المناطق الثلاث، خصوصاً رفض التقسيم ورفض التدخل الخارجي، واعتماد آليات الحوار والعمل المشترك".
واعتبر القربي أنه في المضمون "لا جديد في وثيقة المناطق الثلاث سوى بناء الثقة بين السوريين، وهذه نقطة مهمة تحسب للمبادرة"، مضيفاً: "من حيث الشكل تلاوة البيان من جنوب سورية وشمالها نقطة إيجابية ولأول مرة تحدث في الثورة، وهذا أول تناغم وتوافق على المشتركات بين الجنوب والشمال".
ولكن القربي أشار إلى أن المبادرة "جاءت خالية من برنامج عمل"، مضيفاً أنه "كان من المفترض طرح خطوات عملية وسبل للوصول إلى الأهداف التي يتفق عليها السوريون". وتساءل القربي: "أين إدلب وحلب ودمشق وشرق سورية من المبادرة؟ كان من المفترض أن تكون هذه المبادرة شاملة لكل المناطق السورية".
وتوقّع حصول مساعٍ من قبل جهات شعبية ونقابية من أجل توسيعها لتشمل مناطق أخرى، خصوصاً في الشمال الغربي والشمال الشرقي، لتكون محل توافق في كل المناطق السورية، مضيفاً: "لن ترى المبادرة النور طبعاً في مناطق النظام في دمشق وحلب والساحل، لأن هذا النظام يرفض أي مبادرة لحل سياسي للقضية السورية".