لا يزال التوتر العسكري بين طرفي الصراع الليبيين في مناطق التماس، وسط البلاد، وقريباً منها، مستمراً. وفيما يستعد أعضاء الملتقى السياسي لعقد جولة جديدة، اليوم الخميس، لاستئناف مشاوراتهم بشأن الاتفاق على آلية لاختيار شاغلي السلطة التنفيذية الجديدة، يرى محللون ليبيون أن الحالة الليبية لا تزال تعيش مراوحة سياسية وعسكرية رهينة لصراعات إقليمية لا يمكن التنبؤ بنتائجها.
عواقب وخيمة
وحرّكت حادثة احتجاز سفينة تركية من قبل مليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، الإثنين الماضي، برك المياه السياسية الراكدة في ليبيا منذ أشهر، حيث هدّدت الخارجية التركية مليشيات حفتر بـ"عواقب وخيمة"، وأننا "سنعتبر من يستهدف المصالح التركية هدفاً مشروعاً"، وفقاً لبيانها الثلاثاء الماضي، قابله تأكيد من جانب حفتر، الذي زعم أن احتجازه للسفينة التركية جاء حماية "للمياه الإقليمية"، وأنه مستعد للرد، بل واتهم أنقرة بـ"زعزعة استقرار أمن المنطقة وليبيا. وعلى وجه الخصوص بنقلها وتمويلها للمرتزقة والإرهابيين والمعدات العسكرية إلى الأراضي الليبية".
وفي الجانب الآخر، قال المتحدث الرسمي باسم غرفة عمليات تحرير سرت – الجفرة التابعة لحكومة الوفاق، الهادي دراه، إن مليشيات حفتر لا تزال مستمرة في نقل المقاتلين والأسلحة إلى مناطق سرت والجفرة.
وفي بيان وزعه مكتب دراه، أشار إلى أن مليشيات حفتر استقبلت، أمس الأربعاء، طائرة شحن عسكرية محملة بالذخائر والعتاد العسكري في مطار القرضابية جنوب سرت، و11 حافلة متوسطة النقل على متنها مقاتلون سوريون وصلت في اليوم ذاته إلى معسكرات مناطق الجفرة.
عودة سلاح الجو الروسي
بدورها، كشفت عملية "بركان الغضب" التابعة لحكومة الوفاق، عبر صفحتها الرسمية، عن عودة حركة طائرات سلاح الجو الروسي عبر رحلات من روسيا إلى ليبيا عن طريق سورية"، مؤكدة رصد "رحلة لطائرة شحن إليوشن إل-76 رقم التسجيل RA-78850 من موسكو إلى اللاذقية، لمدة 3 ساعات ثم غادرت باتجاه ليبيا"، الثلاثاء الماضي، ورجحت هبوط الطائرة في قاعدة الخادم، شرق ليبيا، قبل مغادرتها باتجاه قاعدة القرضابية، جنوب مدينة سرت.
صراع المناصب
وفي الشأن، يرى أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الليبية، خليفة الحداد، أن تغيراً طرأ في مشهد أوضاع ليبيا على صلة بالمواقف الدولية والإقليمية المتصلة بالتوتر في شرق المتوسط، معتبراً أن "تراجع صوت السياسيين وبروز التصريحات العسكرية له علاقة أيضاً بالخلافات المكتومة في الجانبين الليبيين".
ويوضح الحداد، في حديثه لـ"العربي الحديد"، أن معسكر حفتر يعيش حالة من الارتباك، سببه محاولة الأخير الرجوع بقوة لساحة المشهد، من جانب، ومن جانب آخر يبدو صراع المناصب لا يزال قوياً في ردهات وكواليس حكومة الوفاق وحلفائها غربي البلاد.
ووفق تحليل الحداد فإن بروز الخلافات مجدداً في شرق المتوسط، بعد عودة الخلافات التركية الأوروبية والانخراط المصري إلى جانب أوروبا، حدا بحلفاء حفتر إلى الاستعانة به مجدداً، للضغط على تركيا في الملف الليبي الذي تمتلك فيه أنقرة أهم أوراقها المتصلة بالصراع في شرق المتوسط، وهي فرصة لحفتر لوأد نشاط خصمه التقليدي عقيلة صالح (رئيس مجلس نواب طبرق)، الذي كان قريبا من تولي منصب بازر في السلطة التنفيذية الجديدة، وسعى لحشد الدعم الدولي لصالحه، آخرها زيارته لروسيا وزياراته المتعددة لمصر.
وبينما لا يرجح الحداد وقوع صدام مسلح في مناطق التماس بين قوات الحكومة التي تقف الى جانبها تركيا، ومليشيات حفتر التي تدعمها أطراف أهمها روسيا، بسبب العلاقة المعقدة بين الجانبين التركي والروسي، يرى أن حلف أنقرة بطرابلس بات أضعف بكثير بسبب التشظي الذي تعيشه طرابلس، خصوصا بعد الخلافات بين أقطاب السلطة حول مكاسب إيرادات النفط، ومساعي رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج لإقصاء محافظ البنك المركزي بإثارة خلاف بينه، وبين رئيس مؤسسة النفط، اضطر محافظ البنك للقبول، أخيراً، بضغط دولي وأممي، للتفاوض مع فرع البنك في البيضاء (شرقاً) حول توحيد إدارتي البنك، ما يعني أن الإطاحة به من منصبه محافظا للبنك منذ عام 2014 بات قريباً".
وبمزيد من التوضيح يقول الحداد إن "وزير دفاع حكومة الوفاق صلاح النمروش الأقرب لسياسات أنقرة، غير الراضية عن الاتفاق العسكري، هدد في الأيام الماضية بالانسحاب منه، خصوصاً بعد تعدي حفتر على السفينة التركية، أما فايز السراج (رئيس حكومة الوفاق) فقد عقد اجتماعاً موسعاً مع ممثلي الحكومة في اللجنة العسكرية، لبحث تنفيذ بنود الاتفاق".
رد ضمني
ومساء أمس الأربعاء، قال المكتب الإعلامي للمجلس الرئاسي في طرابلس، إن السراج عقد اجتماعاً مع ممثلي حكومته في اللجنة العسكرية المشتركة، لبحث "تفاصيل الترتيبات الأمنية المتعلقة بوقف لإطلاق النار، وعملية تأمين المنطقة والآليات التنفيذية على الأرض". وعلى الرغم من أهمية الاجتماع الذي يصب في صالح الدفع بالاتفاق العسكري نحو التطبيق، إلا أن الحداد يرى أن اجتماع السراج جاء كرد ضمني على تهديدات وزير دفاعه، صلاح الدين النمروش، بالانسحاب من الاتفاق العسكري، لموازنة الأوضاع والتهدئة حفاظاً على خيط التواصل الرفيع مع مسؤولي فرع البنك، في البيضاء شرق البلاد، الموالي لحفتر، استمرارا لأهدافه المتصلة بالسيطرة على مكاسب النفط، أهم أوراق الصراع المكتوم حول المناصب والبقاء في مشهد الحكم.
ويتابع الحداد وصفه لتفاصيل الخلافات داخل طرابلس، بالإشارة إلى وجود خلافات عميقة بين وزير الدفاع صلاح الدين النمروش، الذي برز للواجهة، أخيراً، كداعم أول لقوات الحكومة المتواجدة في خطوط التماس، ووزير الداخلية فتحي باشاغا الذي تشير سياساته للجنوح لمهادنة كل الأطراف، خصوصاً أنه زار القاهرة وباريس، أبرز حلفاء حفتر.
باشاغا يهادن
وأعلن باشاغا عن عدّة إجراءات أمنية، أخيراً، من بينها تقديم الدعم الأمني اللازم لتأمين اجتماع مجلس النواب في غدامس، والإعلان عن خطط مكثفة من أجل رفع المستوى الأمني في طرابلس ومناطق أخرى بغرب ليبيا، ويلفت الحداد إلى إعلان آخر من جانب باشاغا يتعلق باستقباله، بمقره في طرابلس، أمس الأربعاء، ممثلين لشركة أمنية فرنسية، لبحث إمكانية الاستفادة من خبراتها وتقنياتها في كشف تزوير جوازات السفر والهويات لـ"منع التزوير في العمليات الانتخابية"، معتبراً أن اللقاء مؤشر على استمرار سعيه لتمتين علاقته مع باريس، في إطار حشد المواقف والأصوات الداعمة لتوليه منصب الحكومة الجديد.
وفي شأن ذي صلة، دعت البعثة الأممية في ليبيا أعضاء ملتقى الحوار السياسي الليبي لاجتماع عبر الاتصال المرئي، اليوم الخميس، لـ"متابعة النقاش حول التوافق على آلية اختيار السلطة التنفيذية انطلاقاً من نتائج التصويت على الآليات المقترحة".
وفي كل هذا المشهد المعقد ومتعدد الاتجاهات، يعتقد الباحث الليبي في العلاقات الدولية مصطفى البرق، من جانبه، استمرار جمود الأوضاع العسكرية والسياسية في البلاد "انتظاراً لمستجدات تتعلق بسياسات دول إقليمية في ملفات أهم من الملف الليبي".
ويوضح البرق، متحدثاً لـ"العربي الجديد"، بالقول "إذا سلمنا بأن كل الأطراف الداخلية باتت رهينة لقرارات أطراف إقليمية ودولية لها أياد ومشاركة في ملفات أخرى، فلا يمكن فصل الملف الليبي عن رؤية تلك الدول المتعلقة بالمنطقة كلها"، مشيراً إلى أن الضبابية تسود أوضاع العديد من المناطق.
المسار السياسي بعيد
وفيما يتساءل البرق "كيف نعتقد أن تركيا وروسيا اللتين تدعمان الطرفين المتصارعين في ليبيا ستسمحان لهما بصدام مسلح؟ وهما متقاربتان في الوقت ذاته في ملفات أخرى في سورية مثلاً، ونسبيا في ملف الطاقة في شرق المتوسط. وكيف يمكن لدول غرب أوروبا أن ترسم سياستها دون وضوح رؤية البيت الأبيض الذي لا يزال يرتب أوراقه في ظل الإدارة الجديدة؟"، مرجحاً أن الجمود السياسي والعسكري في ليبيا وغيرها على علاقة بغياب رؤية دولية بشأن ليبيا واختلاف المصالح فيها.
ويعتقد البرق أن المسار السياسي لا يزال بعيدا عن النتائج لإنتاج مرحلة سياسية جديدة بالاتفاق على آلية الترشح، ستحتاج معها البلاد إلى مرحلة أخرى للترشح والتصويت والتوافق على سلطة جديدة، كما هو الحال في مجلس النواب، الذي يرى البرق أنه سيحتاج لوقت ليتفق ويستطيع إنجاز قرارات مهمة.
وفي كلا المستويين السياسي والعسكري يؤكد البرق أن الوضع يعيش حالة مراوحة، وأن التصعيد العسكري وحشد القوات لن يتجاوز مرحلة الضغط لمكاسب تتعلق بمصالح أخرى بعيدة عن واقع الأزمة الليبية التي يبدو أنها تسير في طريق طويل سينتهي إلى تكريس الحل وفق منطق الأقاليم الثلاثة، وينتهي إلى أن الوضع الليبي لا يزال مفتوحاً على كل السيناريوهات، بسبب عدم القدرة على التنبؤ بنتائج الصراع الإقليمي في البحر المتوسط.