في منطقة غنية بالذهب على بعد 200 ميل (322 كلم) شمال العاصمة السودانية الخرطوم، حيث تقبع الثروات في صخور الصحراء؛ تهيمن منشأة أجنبية غامضة على أعمال التنقيب. يسميها السكان المحليون "الشركة الروسية"، وهي مصنع يخضع لحراسة مشددة بأبراج مزودة بأنوار كاشفة، في أعماق الصحراء، يعالج أكوام الصخور الخام الغنية بالذهب شبه الخالص.
وتنقل "نيويورك تايمز" الأميركية، في تقريرها المفصل، عن أحد عمّال التنجيم والوجهاء المحليين من بلدة العبيدية، قوله: "الروس يدفعون أفضل.. ونحن لا نعرف الكثير عنهم".
وبحسب "نيويورك تايمز"، فإن سجلات الشركة والحكومة السودانية، تُظهر أن هذه المنشأة هي إحدى البؤر الأساسية لمجموعة "فاغنر"، وهي شبكة غامضة من المرتزقة الروس وشركات التعدين وعمليات التأثير السياسي، يسيطر عليها حليف مقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقد أخذ نشاطها يتصاعد بقوة في أفريقيا.
وظهرت "فاغنر" لأول مرة في عام 2014، بوصفها فرقة من المرتزقة المدعومين من الكرملين، في شرقي أوكرانيا، وانتشرت لاحقاً في سورية. وتقول الاستخبارات البريطانية إن ما لا يقل عن 1000 من مقاتليها عادوا للقتال في أوكرانيا في الأشهر الأخيرة. ويقود عملياتها يفغيني بريغوجين، المعروف بلقب "طباخ بوتين"، والذي وجهت إليه لائحة اتهام في الولايات المتحدة بتهمة التدخّل في الانتخابات الرئاسية لعام 2016.
وبحسب "نيويورك تايمز"، فإن "فاغنر" أكثر من مجرد بنادق مرتزقة في أفريقيا، والفحص المعمّق لأنشطتها في السودان، ثالث أكبر منتج للذهب في القارة، يكشف عن مدى نفوذها.
في شرقي السودان، تدعم "فاغنر" مساعي الكرملين لبناء قاعدة بحرية على البحر الأحمر، لاستضافة سفنها الحربية التي تعمل بالطاقة النووية. وفي غربي السودان، تعد "فاغنر" منصة انطلاق لعمليات المرتزقة في البلدان المجاورة، ومركزاً محتملاً لاستخراج اليورانيوم.
ومنذ استيلاء الجيش السوداني على السلطة إثر انقلاب أكتوبر/تشرين الأول؛ عمّقت "فاغنر" شراكتها مع الفريق "المتعطش للسلطة"، محمد حمدان دقلو.
وقد نفى الكرملين ويفغيني بريغوجين أي علاقة لهما بـ"فاغنر". ويعمل بريغوجين على إخفاء أنشطته السرية، محاولاً إخفاء علاقاته مع "فاغنر" من خلال شبكة من الشركات الوهمية، والسفر عبر القارة الأفريقية على متن طائرة خاصة لعقد اجتماعات مع الرؤساء والقادة العسكريين. لكن وزارة الخزانة الأميركية والخبراء الذين يتتبعون أنشطته يقولون إنه يمتلك، أو يتحكم في معظم الشركات التي تتكون منها شركة "فاغنر"، إن لم يكن كلها.
وتكشف سجلات الجمارك الروسية والسودانية، والتي حصلت عليها "نيويورك تايمز" من مركز الدراسات الدفاعية المتقدمة (C4ADS)، وهو منظمة غير ربحية مقرها في واشنطن، وكذلك وثائق التعدين وسجلات الطيران والمقابلات مع المسؤولين الغربيين والسودانيين التي أجرتها الصحيفة خلال الإعداد لتقريرها، عن حجم إمبراطورية "فاغنر" في السودان، والأهمية الخاصة للذهب فيها.
وفي رد مكتوب مطول على الأسئلة التي وجهتها له "نيويورك تايمز"، نفى بريغوجين وجود أي نشاط له في التعدين في السودان، وندد بالعقوبات الأميركية ضده، وقال: "لسوء الحظ، لم تكن لدي أبداً شركات لتعدين الذهب.. أنا لست رجلاً عسكرياً". مضيفاً: "فاغنر هي محض أسطورة".
مفتاح أفريقيا
بدأت عمليات "فاغنر" في السودان في عام 2017، فمع فقدان الرئيس السوداني عمر حسن البشير قبضته على السلطة، سعى إلى تحالف جديد مع روسيا، مقترحاً أن يكون السودان "مفتاح روسيا لأفريقيا" مقابل مساعدته في التصدي للاحتجاجات السودانية، بحسب تصريحات الكرملين.
وخلال أسابيع قليلة، بدأ الجيولوجيون وعلماء المعادن الروس المنتدبون من شركة سودانية جديدة تحمل اسم "مروي غولد"، في الوصول إلى السودان، وفقاً لسجلات الرحلات التجارية التي حصل عليها مركز "ذا دوسيير سينتر" التابع للمعارض الروسي ميخائيل خودوركوفسكي.
وبحسب وزارة الخزانة الأميركية، فإن شركة "مروي غولد" يسيطر عليها يفغيني بريغوجين، وقد فرضت الوزارة عقوبات على الشركة في عام 2020، كجزء من العقوبات التي تستهدف "فاغنر" في السودان. وقالت وزارة الخزانة إن مدير شركة "مروي غولد" في السودان، ميخائيل بوتبكين، كان يعمل سابقاً في "وكالة أبحاث الإنترنت"، المعنية بخلق التأثير عبر الإنترنت من أجل المصالح التجارية والسياسية الروسية، والممولة من بريغوجين.
وتبع الجيولوجيين الروس مسؤولون دفاعيون، بدؤوا مفاوضات بشأن إنشاء قاعدة بحرية روسية محتملة على البحر الأحمر.
وعلى مدى الأشهر الـ18 التالية، استوردت "مروي غولد" 131 شحنة إلى السودان، كما تظهر سجلات الجمارك الروسية، كانت عبارة عن معدات تعدين وبناء، وشاحنات عسكرية ومركبات برمائية وطائرتي هليكوبتر للنقل. تم تصوير إحداها بعد عام في جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث كان مقاتلو "فاغنر" يحمون رئيس البلاد، بعد حصول بريغوجين على امتيازات تعدين الماس هناك.
وتورد "نيويورك تايمز"، أنه مع اندلاع ثورة شعبية في أواخر عام 2018، مهددة بالإطاحة بنظم البشير؛ أرسل مستشارو "فاغنر" مذكرة تحث نظام البشير على إطلاق حملة على وسائل التواصل الاجتماعي لتشويه سمعة المتظاهرين، ونصحوا البشير بإعدام بعض المتظاهرين علانية ليكون ذلك بمثابة رسالة للآخرين.
وقد حصل مركز "ذا دوسيير سينتر" على هذه الوثائق من مصادر داخل منظمة بريغوجين، بحسب ما أكده المركز لـ"نيويورك تايمز".
ولكن بعد الإطاحة بالبشير ووضعه رهن الإقامة الجبرية في إبريل/نيسان 2019، غيّر الروس مسارهم بسرعة، وبعد أسبوع، وصلت طائرة بريغوجين إلى العاصمة السودانية وعلى متنها وفد من كبار المسؤولين العسكريين الروس. وعادت إلى موسكو مع كبار مسؤولي الدفاع السودانيين، بمن فيهم شقيق الفريق محمد حمدان دقلو، وفقاً لبيانات الرحلة التي حصلت عليها صحيفة "نوفايا غازيتا" الروسية.
بعد ذلك بستة أسابيع، وفي 3 يونيو/حزيران 2019، شنت قوات دقلو عملية دموية لتفريق المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية وسط الخرطوم، قُتل فيها ما لا يقل عن 120 شخصاً خلال الأسبوعين التاليين. وفي 5 يونيو/حزيران استوردت شركة "مروي غولد" 13 طناً من دروع مكافحة الشغب، فضلاً عن الخوذات والهراوات، لصالح شركة تسيطر عليها عائلة دقلو، كما تظهر وثائق الجمارك التي اطلعت عليها "نيويورك تايمز".
وفي ذلك الوقت تقريباً، سعت حملة تضليل روسية باستخدام حسابات وهمية على وسائل التواصل الاجتماعي إلى زيادة الانقسامات السياسية في السودان، وهو أسلوب مشابه لذلك الذي استخدمته "وكالة أبحاث الإنترنت" للتدخل في الانتخابات الأميركية لعام 2016. وقد أغلق "فيسبوك" 172 من هذه الحسابات في أكتوبر/تشرين الأول 2019 ومايو/أيار 2021، بعد ربطها مباشرة ببريغوجين.
عمال مناجم الذهب
كان يقوم العمال الفقراء في بلدة العبيدية، مركز تعدين الذهب شمال الخرطوم على ضفاف النيل، بجمع الصخور الغنية بالذهب من الصحراء وإحضارها للمعالجة في سوق البلدة الفقيرة، باستخدام تقنيات تعتمد على الزئبق وتشكل مخاطر كبيرة على صحة العمال.
ولكن هؤلاء بات لديهم الآن خيار آخر، يمكن أن يحقق لهم أرباحاً أكبر بكثير، من خلال نقل المواد الخام ذاتها إلى مجموعة من المنشآت الصناعية التي تقع على مقربة من البلدة، وأكبرها تديره "مروي غولد".
وفي المقابلات التي أجرتها "نيويورك تايمز"، وصف التجار المحليون كيف يأتي الروس إلى السوق لأخذ العينات وشراء الذهب الخام، حيث يدفعون ما يصل إلى 3600 دولار مقابل حمولة شاحنة تزن تسعة أطنان من الصخور، ويضيف هؤلاء أن الروس في بعض الأحيان كانوا يأتون بحماية جنود من "قوات الدعم السريع" التابعة للفريق دقلو.
وبحسب تقديرات بنك السودان المركزي، فقد ارتفع إنتاج الذهب في السودان بعد عام 2011، لكن قلة قليلة فقط من السودانيين أصبحت غنية. ويذكر خبراء ومسؤولون سودانيون، أن عائلة حمدان دقلو تهيمن على تجارة الذهب، ويتم تهريب حوالي 70% من إنتاج السودان منه.
وبحسب "نيويورك تايمز"، يمر معظم هذا الذهب عبر الإمارات العربية المتحدة، المركز الرئيس للذهب الأفريقي غير المصرح به. وتنقل الصحيفة عن لاكشمي كومار، من منظمة النزاهة المالية العالمية (GFI)، وهي منظمة غير ربحية مقرها واشنطن، تبحث في التدفقات المالية غير المشروعة، قوله: "يمكنك الذهاب إلى الإمارات العربية المتحدة بحقيبة يد مليئة بالذهب، ولن يطرحوا عليك أي أسئلة".
كما قد يتجه بعض الذهب السوداني مباشرة إلى موسكو، وفي الفترة من فبراير/شباط إلى يونيو/حزيران 2021، قام مسؤولو مكافحة الفساد السودانيون بتتبع 16 رحلة شحن روسية هبطت في بورتسودان قادمة من اللاذقية السورية. سيرتها جميعاً وحدة الطيران رقم 223 التابعة للجيش الروسي.
وللاشتباه في أن هذه الطائرات كانت تستخدم لتهريب الذهب؛ داهم المسؤولون رحلة واحدة قبل إقلاعها في 23 يونيو/حزيران. ولكن قبل الكشف على الحمولة تدخل ضابط سوداني كبير، بأمر من عبد الفتاح البرهان شخصياً. ويقول أحد مسؤولي مكافحة الفساد عن هذه الواقعة: "نُقِلت الطائرة إلى القسم العسكري في المطار وغادرت إلى سورية بعد ساعتين دون تفتيش".
من روسيا مع الكوكيز
منذ عام 2016، فرضت الولايات المتحدة ما لا يقل عن سبع حزم من العقوبات على يفغيني بريغوجين وشبكته، كما عرض مكتب التحقيقات الفيدرالي، مكافأة قدرها 250000 دولار مقابل معلومات تؤدي إلى اعتقاله، ولكن ذلك كله لم يعق توسعه في أفريقيا.
وفي محاولة ماكرة منه للحصول على الدعم السوداني؛ تبرع بريغوجين بـ198 طناً من المواد الغذائية لفقراء سودانيين العام الماضي خلال شهر رمضان، وعلى علب الأرز والسكر والعدس، كان يمكنك قراءة عبارة "هدية من يفغيني بريغوجين"، والذي يذكر بالعبارة التي استخدمتها روسيا مع الحركة ذاتها أيام الحرب الباردة: "من روسيا مع الحب".
وتضمنت التبرعات التي قدمتها شركة "مروي غولد"، 28 طناً من الكوكيز، تم استيرادها خصيصاً من روسيا. وقد حُوّل قسم من هذه المساعدات (10 أطنان) إلى بورتسودان، حيث كانت روسيا تضغط من أجل الحصول على منفذ بحري.
وبالطريقة نفسها يسعى الحليف العسكري لـ"فاغنر" في السودان" الفريق محمد حمدان دقلو، للحصول على الدعم الشعبي، من خلال التقرّب من الزعماء التقليديين باستخدام الأموال والسيارات، والأمر نفسه مع القوى الأجنبية الصديقة مثل روسيا.
حيث تنقل "نيويورك تايمز" عن اثنين من كبار المسؤولين الغربيين، أن "فاغنر" نظّمت زيارة دقلو في فبراير/شباط إلى موسكو، وعلى الرغم من أن الرحلة كانت ظاهرياً لمناقشة حزمة مساعدات اقتصادية؛ فإن دقلو حمل سبائك ذهبية على متن طائرته، وطلب من المسؤولين الروس المساعدة في الحصول على طائرات عسكرية بدون طيار، وعند عودته إلى السودان بعد أسبوع؛ أعلن أنه "لا مشكلة لديه" مع إنشاء روسيا قاعدة على البحر الأحمر.
دعم الانقلاب "لسرقة الذهب"
وبحسب "نيويورك تايمز"، فإن الجزء الأكثر كآبة من أنشطة "فاغنر" في السودان هو دارفور، المنطقة التي يمزقها الصراع والغنية باليورانيوم. ففي هذه المنطقة يمكن للمقاتلين الروس التسلل إلى القواعد التي تسيطر عليها "قوات الدعم السريع" التابعة للفريق محمد حمدان دقلو، بحسب ما تنقله الصحيفة عن مسؤولين غربيين وفي الأمم المتحدة، كما يستخدم عناصر "فاغنر" هذه القواعد لعبور الحدود إلى جمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا وأجزاء من تشاد.
وبحسب مسؤول غربي، فإن فريقاً من الجيولوجيين الروس زار دارفور في العام الحالي، لتقييم إمكانات اليورانيوم فيها.
وتنقل الصحيفة عن أميل خان، من "فالنت بروجيكتس (ValentProjects)، وهي شركة مقرها لندن تراقب تدفق المعلومات المضلِّلة، أنه منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، أطلقت شبكات التضليل الروسية في السودان تسعة أضعاف الأخبار المزيفة عما كانت عليه من قبل، في محاولة لصنع موقف اجتماعي داعم للكرملين.
ولكن يبدو أن هذه الجهود لا تؤتي أكلها، حيث اندلعت عدة احتجاجات ضد عمليات شركة "مروي غولد" في مناطق التعدين، بعدما اجتذبت شخصية سودانية على موقع "يوتيوب" تُعرف باسم "الثعلب" عدداً كبيراً من المتابعين عبر نشر مقاطع فيديو تدعي أنها ترفع الغطاء عن أنشطة "فاغنر". كما يعتقد المتظاهرون المؤيدون للديمقراطية أن موسكو كانت وراء الانقلاب العسكري في أكتوبر/تشرين الأول الماضي على الحكومة السودانية.