يقول الشهيد باسل الأعرج في إحدى مقالاته "إن الفكرة، كل الفكرة أن لا تنكسر من الداخل؛ أن لا يصبح وجود العدو "طبيعياً"، عادياً، يومياً، معاشاً". هذا ما تفعله جنين ومخيمها على الدوام، فهي باتت نموذجا للمقاومة العصية على التفكيك من قبل الأجهزة الأمنية الفلسطينية لسلطة أوسلو أو الهزيمة من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلية وحكومتها، فليس مصادفة أن يطلق عليه العدو "عش الدبابير" حيث يجد العقل الاستعماري نفسه عاجزا أمامها، وأمام هذا الغضب الشعبي في فلسطين المحتلة، ولا يمكن السيطرة عليه أو تحييده أو القضاء عليه، هكذا تخبرنا أرنديت رغم معارضتها لأفكار فانون في مواجهة العقل الاستعماري أنّ "ثمّة أوضاعا تكون فيها القدرة التّدميريّة للعنف هي التّرياق الوحيد… إنّ العنف في ظروف معيّنة أي ذلك الفعل المنجز من دون استشارة العقل، من دون كلام، ومن دون إعمال الفكر في النّتائج يصبح هو الوسيلة الوحيدة لإعادة التّوازن لميزان العدالة".
وعليه تتواصل الهبة الشعبية في مختلف أنحاء الضفة الغربية إسناداً لجنين بعد اقتحام قوات الاحتلال لها على أثر عملية ديزنغوف الأخيرة التي قام بها شاب فلسطيني من مخيم جنين، الذي أشعل بتلك العملية روح المقاومة واستعاد الأعمال الفدائية الرادعة في العمق الإسرائيلي، في عملية يبدو أنها لن تنحسر قريبا وستؤسس لمرحلة جديدة في الصراع ضد المستعمر الصهيوني من جهة، وتطور قدرات المقاومين في جنين وفي مدن الضفة الغربية ومواجهة جنود الاحتلال والمستوطنين في كل فلسطين.
في جنين يجد العدو نفسه عاجزاً إلّا عن اقتحامات محدودة للمخيّم، وبات الفلسطينيون في المدينة متمرّسين في مواجهته، فالعمليات الفردية الفلسطينية تنطلق من هذه المدينة التي تقع في شمال الضفة الغربية متحصنة ببيئة حاضنة للمقاومة، كما أنها منطقة خارجة نسبياً عن السطوة الأمنية لأجهزة السلطة الفلسطينية ليس من الشارع الفلسطيني في جنين بل من داخل تنظيم حركة فتح نفسه، الأمر الذي يفقد السلطة الفلسطينية القدرة على التحرك والتحكم والقبضة الأمنية والاستخباراتية لصالح الاحتلال.
تنمو البيئة المثلى للمقاومة من خلال توفير وسائل القتال في مخيم جنين ومحيطه
ولبعد جنين عن اليد الطولي لوكلاء الاحتلال الإسرائيلي، تنمو البيئة المثلى للمقاومة من خلال توفير وسائل القتال في مخيم جنين ومحيطه، خاصة من قبل حركة الجهاد الإسلامي التي تعد الجهة التي تستقطب كثيرا من شبان المقاومة، تحديدا المنشقين والمتململين من حركة فتح ومن أداء السلطة الفلسطينية، كما تمثل "الجهاد الإسلامي" في جنين عاملا رئيسيا اجتماعيا واقتصاديا مساندا وداعما لأسر وأهالي الفدائيين.
جغرافية جنين عامل آخر في مقاومتها حيث تقع في شمال الضفة المحتلة، قريبة جدّاً من وسط إسرائيل، حيث العمق الاستراتيجي للعدو خاصة الحكومي، بما يشمل غوش دان وفي وسطها تل أبيب. الأمر الذي يعني وجود خلل وثقوب في الجدار الأمني على اختلاف اشكاله، مما أتاح للفلسطينيين الانتقال من وإلى أراضي عام 1948 بسهولة نسبية، لأغراض وأهداف مختلفة.
كل تلك الأسباب تجعل جنين ومخيمها عصيين على الردع الإسرائيلي وعقوباته الأمنية والجماعية وتمثل نموذجا للمحاكاة في المدن القريبة من خطوط التماس مع العدو، ثم انطلاقا منها إلي مدن الضفة الغربية كل حسب جغرافيته خاصة مع ازدياد الرفض الجماهيري للسلطة الفلسطينية وضعف بنيويتها المتنامية.
في جنين يهزم العقل الاستعماري وبدوره يتحول العدو إلى مزيد من العنف الأمر الذي يعني مزيداً من الاحتكاك مع الفلسطينيين، مما يحفّز بدوره مزيدا من العمليات الفدائية النوعية ليس في أو من جنين وحدها، الأمر الذي يعني مزيدا من الخسائر البشرية الإسرائيلية لا سيما في حالة اقتحام المخيم الذي يستدعي ما حصل في عام 2002 في العقل الجمعي الاستعماري من خسائر بشرية خلال المواجهات، ويستدعي أيضاً خطر جر غزة إلى المواجهة على غرار ما جري في معركة "سيف القدس"، مما يعني أن تسقط الحكومة الإسرائيلية الحالية بسرعة فائقة وتخسر الحرب التي تعد لها من فبراير/ شباط الماضي لإنقاذ نفسها.
يكشف الكاتب الإسرائيلي "يارون فريدمان" في مقاله على موقع "زمن إسرائيل" حجم التخوُّفات الإسرائيلية من منطقة جغرافية فلسطينية بعينها هي مخيم جنين ومدينته الواقعة شمالي الضفة الغربية، التي تبرز إلى الواجهة دوما بوصفها جبهة عصية على الاحتلال خلال المواجهات والسجالات، وآخرها حادثة هروب الأسرى الستة في أغسطس/آب الماضي، إذ حطَّ اثنان منهم رحالهما في جنين بالفعل.
جنين دحرجت كرة الثلج إلى الضفة
ثمة حقيقة قائمة لا يستطع الإسرائيليون أنفسهم إنكارها، وهي أن مخيم جنين جعل المقاومة الفلسطينية تستنهض حالها في كل مرة اعتقد فيها الإسرائيليون أنها ضعفت أو انهارت، لا سيما في الضفة الغربية.
ومن جنين انطلقت كرة الثلج إلي مدن الضفة الغربية ذات الحضور الأمني الفلسطيني أقوى لكن لم يعد الجمهور الفلسطيني الشاب مباليا بها، وتكاثرت ساحات المواجهة أمام العدو الإسرائيلي، وتكاثف حضور المواجهات إلى مستويات يتهيّب منه الاحتلال نفسه في ظلّ تسجيل عدد من العمليات التي تستهدفه ومستوطنيه، فضلاً عن الاشتباكات التي باتت شبه يومية في نابلس وطولكرم وبيت لحم والخليل وضواحي رام الله نفسها.
كثّف العدو عمليات الاعتقال خاصة في ساحات الأقصى الأيام الماضية وفي بلدة سلواد التي شهدت اشتباكات عنيفة على هذه الخلفية، في وقت أعلنت فيه سلطات الاحتلال فرض إغلاق شامل على منطقة الضفة، وكذلك على المعابر مع قطاع غزة. ويبدو أن الأجواء باتت تشبه أجواء معركة "سيف القدس"، وأن التصعيد الجاري ليس إلا هبّة شعبية حقيقية كسرت الصمت في ظلّ تغوّل المستوطنين وتصاعد جرائم جيش العدو، فيما تثبت الضفة جاهزيتها لإسناد غزة وبقية الساحات.
الجميع يعلم الأزمة الداخلية في دولة وحكومة الاحتلال التي تعد الأغرب مند تأسيسها، حيث فقدت الحكومة الحالية أغلبيتها البرلمانية ولا ينقصها غير حجر واحد لتموت فعليا، فكان خيارها إشعال حرب انتقائية في مدن الضفة الغربية بؤرتها المركزية جنين تستدعي الالتفاف الشعبي والأمني الصهيوني معها.
سقوط تلك الحكومة قادم لا محال فالعقوبات الجماعية والفردية التي تنتهجها في مواجهة الفلسطينيين هي نفسها التي تؤدي إلى مزيد من العمليات الفدائية، فيما تراجع دولة الاحتلال عن هذه الإجراءات يعني أن تفقد سيادتها علي الأراضي المحتلة، كما هو في حال منع أو تجميد تمكين المستوطنين من دخول الأقصى وإقامة شعائرهم من أجل الحيلولة دون أيّ مواجهات، سيؤدي بدوره محفزا إلى هجمات جديدة وعمليات أخرى من الفلسطينيين ضد الاحتلال مما يولّد انطباعاً بأن الفعل الفلسطيني يدفع إسرائيل إلى التنازل مما يفضي إلى تفكّك الائتلاف الحكومي الهش.
جنين تاريخ من الاستعصاء
دوما كانت جنين عصية على الهزيمة، ويمكن لها إحراق الأخضر واليابس إذا ما شعر أهلها بالخسارة، ففي عام 1799، لم يتردَّد سكان جنين الواقعة عند سفح تلال جبل النار "نابلس" في حرق بساتين الزيتون التي يقتاتون منها بُغية وقف القوات الفرنسية الزاحفة بقيادة "نابليون بونابرت" على أراضيهم، فأتى الرد الفرنسي على مقاومة جنين بحرق المدينة ونهبها.
وفي الحرب العالمية الأولى، حين وقعت جنين تحت الاحتلال البريطاني كانت آخر مدن فلسطين التي خسرت أمام المستعمر الإنكليزي ونظمت أول مقاومة مسلحة عام 1935 بقيادة "عز الدين القسَّام" أحد كبار المقاومين للاحتلال البريطاني آنذاك، الذي وجد في جنين حاضنة شعبية من الفلاحين تؤمن بالثورة وتدعمها. وتتحول بعدها جنين إلى مركز التمرد الفلسطيني وكان من أبرز عمليات المدينة ضد الاحتلال قتلها قائدا بريطانيا كبيرا في مكتبه بجنين عام 1938.
تخلَّصت جنين من احتلال قصير نال منها بفضل الدفاع الشرس من قِبَل المتطوعين الفلسطينيين والجيش العراقي، ثم آلت المدينة إلى حكم الإدارة الأردنية عام 1949، وفي أوائل الخمسينيات أُنشئ مخيم جنين لإيواء النازحين ممَّن استولت إسرائيل على منازلهم بعد طردهم، وسرعان ما صار المخيم الواقع في ضواحي المدينة معقلا للمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي خاصة أثناء السبعينيات والثمانينيات.
وبعد مقاومة شرسة من أهالي مخيم جنين في 2002، واستعصائها أمام جيش الاحتلال خلال عشرة أيام من الحصار والمواجهة، قصفت إسرائيل المخيم بطائرات "إف-16" وبالمدفعية؛ مما أدَّى إلى استشهاد 52 فلسطينيا، وتدمير 150 بناية بالكامل، كما قُتِل 23 جنديا إسرائيليا على يد عناصر من المقاومة في جنين.
منذ أغسطس/ آب 2021 وبعد اقتحام قوات الاحتلال بعض مناطق جنين ومخيمها، والمواجهات العنيدة التي قابلها شباب المقاومة في جنين، لم يتمكن جيش الاحتلال من السيطرة على المدينة التي تعود لتقود العمل الفدائي والمقاومة في كل الضفة الغربية في مواجهة ليست الأخيرة ولن تكون، ولكنها جنين وعملياتها الفدائية ومقاومتها الشرسة تخبرنا بأن الوضع وصل إلى طريق مسدود، ويشكل عامل ضغط على القيادة الفلسطينية بأن تراهن على الشعب الفلسطيني، وتضع استراتيجية مواجهةٍ تقوم على المقاومة والتحرير، بدلا من سياسة الرهانات على حصول تغيير في السياستين الأميركية والإسرائيلية.