وقع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف ونظيره الصيني وانغ يي، اليوم السبت، على "وثيقة برنامج التعاون الشامل بين إيران والصين لـ25 عاماً"، في خطوة لافتة لتعزيز الروابط والعلاقات بين البلدين.
ويأتي التوقيع على الوثيقة على أعتاب الذكرى الخمسين للعلاقات الدبلوماسية بين طهران وبكين خلال زيارة لوزير الخارجية الصيني إلى طهران تستمر ليومين. وانطلقت المباحثات بين الطرفين بشأن الوثيقة عام 2015 خلال زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى طهران، واستغرقت نحو ست سنوات قبل إعدادها نهائياً والتوقيع عليها اليوم السبت.
وتغطي "وثيقة برنامج التعاون الشامل" بين إيران والصين لفترة 25 عاماً مختلف المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية والدفاعية والزراعية والثقافية والإعلامية والشعبية.
وتؤكد الوثيقة، بحسب النسخة المسربة منها، خلال العام الماضي، أن بكين وطهران تسعيان من خلالها إلى "توجيه الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الصين وإيران على أساس ربح ـ ربح في المجالات الثنائية والإقليمية والدولية".
كذلك تنصّ الوثيقة على تعزيز التعاون العسكري والأمني الثنائي وتبادل الخبرات العسكرية وإجراء المناورات المشتركة، مشيرة إلى أن "الطرفين في إطار الحفاظ على مبدأ التعددية سيحافظان على تنفيذ مضمونها في مواجهة الضغوط غير القانونية للأطراف الثالثة".
ولم ينشر نص الوثيقة بالكامل بعد، لكن ما نشر منها يشير إلى التركيز على البعد الاقتصادي والاستثمارات الصينية الهائلة في الاقتصاد الإيراني، يقدرها مراقبون بنحو 450 مليار دولار.
وعن الدوافع قال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زادة، مساء الجمعة، إنه أثناء زيارة بينغ قررت طهران وبكين "توجيه العلاقات إلى المستوى الاستراتيجي والشامل"، مؤكداً أن العلاقات الإيرانية الصينية "متعددة المستويات وعميقة وزاخرة بمختلف الأبعاد، وكان من الضروري تنظيم هذه العلاقات في إطار وثيقة".
وبحسب خطيب زادة، تشكّل هذه الوثيقة خريطة طريق للأعوام الـ25 المقبلة بين إيران والصين لرسم آفاق التعاون بينهما في مختلف المجالات.
أسباب التأخير
وتأخرت عملية إعداد الوثيقة واستغرقت نحو ست سنوات، ليربط مراقبون ذلك بالظروف السياسية والاقتصادية الناتجة عن الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي عام 2018 والعقوبات الشاملة التي فرضتها واشنطن على طهران، فضلاً عن انتظار الصين نتائج الانتخابات الأميركية التي أوصلت المرشح الديموقراطي جو بايدن إلى الرئاسة، وهو ما أثار توقعات باحتمال تبنيه مقاربة أخرى مع طهران، تنبني على الدبلوماسية والحوار.
وفي السياق، يرى هؤلاء المراقبون أن الصين تستبق أي انفراجة محتملة في الأزمة بين إيران والغرب وبالذات الولايات المتحدة بتمتين حضورها في إيران وعلاقاتها معها لجني ثمار هذه الانفراجة، بالإضافة إلى أنها أيضاً تهدف من خلال هذه الخطوة إلى توطيد أقدامها في الشرق الأوسط لمزاحمة السياسة الأميركية على ضوء تصاعد خلافاتها مع واشنطن وتأكيد الإدارة الأميركية الراهنة أنها ستعطي الأولوية لمواجهة المنافس الصيني.
غير أنه "لا يوجد تعمّد من الجانبين الصيني والإيراني في التأخر الحاصل في إعداد الوثيقة بشكل نهائي"، كما يقول مدير قسم الدراسات العالمية في مركز الدراسات الاستراتيجية بالرئاسة الإيرانية دياكو حسيني، لـ"العربي الجديد"، عازياً ذلك إلى "استكمال الإجراءات الإدارية والتعديلات التي كان ينبغي أن يجريها الطرفان خلال هذه السنوات".
وعلى الرغم من ذلك، فالتوقيع على الوثيقة في هذا الظرف الزمني فيه رسالة للولايات المتحدة، حسب الخبير حسيني، قائلاً إنه "في ظل التردد الذي يبديه الرئيس الأميركي جو بايدن بشأن تدارك أخطاء الانسحاب من الاتفاق النووي، فالصين وإيران تؤكدان من خلال الوثيقة أنهما بصدد تعزيز العلاقات".
ويضيف حسيني أن "الصينيين بالنظر إلى رؤيتهم طويلة الأمد تجاه هذا الجزء من آسيا يرسلون رسالة إلى الجانب الأميركي، مفادها بأنهم ليسوا بصدد تعطيل هذه الرؤية أو تغييرها وأن على أميركا أن تتأقلم مع العالم الذي قيد التغيير".
استدارة نحو الشرق
ولا شك في أن الوثيقة بين إيران والصين تكشف عن تسارع وتيرة استدارة إيرانية نحو الشرق، وهو توجه مدفوع بالأساس بتعليمات رأس هرم السلطة في إيران، المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، إذ دعا الحكومة الإيرانية، في شباط/ فبراير 2018، إلى "ضرورة تفضيل الشرق" عند حديثه عن أولويات العلاقات الخارجية الإيرانية. وبالإضافة إلى ذلك، ثمة رأي يرى أن السبب وراء هذه الاستدارة هو إحباط الحكومة الإيرانية من انفراجة علاقاتها المتأزمة مع الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة بعد فشل الاتفاق النووي في اختراق الأزمة.
وفي الإطار، يرى مدير قسم الدراسات العالمية في مركز الدراسات الاستراتيجية في الرئاسة الإيرانية دياكو حسيني، لـ"العربي الجديد"، أن "التفسيرين لهما أنصار في الداخل الإيراني، فالبعض يعتقد أن الوثيقة خطوة كبيرة باتجاه التوجه نحو الشرق لتدارك الخلل الذي أحدثته الدول الغربية، ولا سيما بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، وآخرون يرون أنه حتى إن لم يحدث هذا التطور، فإيران عليها الاستفادة من الفرص التي يخلقها النظام العالمي الجديد على ضوء صعود نجم آسيا وبالذات القفزة الصينية".
وهنا يؤكد الخبير حسيني أن إيران بسبب موقعها الجغرافي الاستراتيجي الرابط بين الشرق والغرب والشمال والجنوب في أورآسيا "ينبغي أن تخلق الموازنة في العلاقات مع الدول الغربية والدول الشرقية وخاصة الصين، ولذلك وفق هذا الرأي حتى لو لم تنسحب أميركا من الاتفاق النووي فقد كانت طهران تسلك هذا المسار".
لكن الحسيني لا يُنكر أن الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي والضغوط القصوى ضد إيران قد سرّعا وتيرة هذا الاتجاه في السياسة الإيرانية لتعزير العلاقات مع الصين وروسيا.
عقبات
مع ذلك، يجد التوجه الإيراني نحو الشرق عقبة كبيرة، وهي العقوبات والضغوط الأميركية، التي خفضت حجم تبادلها التجاري مع الصين خلال العام الماضي إلى أدنى مستوى منذ 16 عاماً بعد بلوغه نحو 20 مليار دولار.
وعن هذه العقبة، يقول حسيني لـ"العربي الجديد" إنها مرتبطة بـ"مدى استعداد الصين لمواجهة هذا التحدي الأميركي"، متوقعاً أنه "إن استمرت الضغوط الأميركية على الصين فستكون لديها دوافع تحفيزية أكثر لتجاوز هذه العقبات ومتابعة مصالحها في العالم كله مع اهتمام أقل بمطالب أميركا وملاحظاتها".
ويوضح أنه "في هذه الحالة ستحاول إيران والصين تنفيذ الاتفاقيات التي تتضمنها الوثيقة على نحو يتجاهل الضغوط والعقوبات الأميركية بشكل أكبر"، مشيراً إلى أن التعاون الإيراني الصيني "ربما تشهد وتيرته بطئاً لكنه لن يتوقف".
وعما إذا كان من شأن هذه التطورات في العلاقات الإيرانية الصينية أن تشكل دافعاً لدى الولايات المتحدة وأوروبا لاتخاذ خطوات إيجابية نحو إيران عبر بوابة إحياء الاتفاق النووي، منعاً لتوطيد علاقاتها أكثر مع الصين، استبعد الخبير الإيراني هذا الأمر "إلا إذا قررت الإدارة الأميركية التحرر من رؤيتها الضيقة للقضايا تحت تأثير العامل الإسرائيلي وعوامل أخرى، ونظرت برؤية شاملة منفتحة للتطورات ومصالحها في العالم والمنطقة".
سجال داخلي
تواجه وثيقة التعاون الشامل بين إيران والصين انتقادات وسجالاً في الداخل الإيراني لدرجة شبهها البعض بمعاهدة "تركمان جاي" بين إيران والإمبراطورية الروسية عام 1828، تخلت فيها طهران عن أجزاء من الأراضي الإيرانية، وهي انتقادات تعود بالأساس إلى الخلافات بين المدرستين الإصلاحية والمحافظة في السياسة الخارجية الإيرانية، إذ ترغب المدرسة الإصلاحية في الانفتاح نحو الغرب بينما المدرسة المحافظة أو الأصولية تؤكد على التوجه نحو الشرق.
لكن اللافت هنا أن الحكومة الحالية المدعومة بالأساس من الإصلاحيين والتيار الاعتدالي هي التي قادت المفاوضات مع الصين بشأن إعداد الوثيقة، في تطور يشير على ما يبدو إلى وصولها لحالة إحباط من الانفتاح مع الغرب، الذي سعت إليه جاهدة من خلال المفاوضات التي انتهت إلى الاتفاق النووي عام 2015، لكنه فشل في تسجيل اختراق مهم على هذا الصدد.
وما زاد من الانتقادات هو حالة الغموض التي تلف مضمون اتفاقية التعاون الشامل لعدم نشرها في وسائل الإعلام رغم تسرب بعض نقاطها وأطرها، وهو ما أدّى إلى رواج أنباء عن تسليم إيران جزراً لبكين، وامتيازات هائلة أخرى، لكن سبق أن نفى وزير الخارجية الإيراني صحة هذه الأنباء، مؤكداً أنه "لا الحكومة الحالية ولا أي حكومة أخرى ستسلّم شبراً واحداً من الأراضي الإيرانية لأحد".
ويعزو مدير قسم الدراسات العالمية في مركز الدراسات الاستراتيجية في الرئاسة الإيرانية دياكو حسيني، لـ"العربي الجديد"، أسباب السجال الداخلي في إيران حول الوثيقة مع الصين إلى "مخاوف بنيوية من الخلل الذي يمكن أن يصيب التوازن في العلاقات مع الغرب والشرق"، مضيفاً أنّ "إيران ليست بلداً غربياً أو بلداً شرقياً، فهي تمزج في داخلها عناصر غربية وشرقية".
ويوضح حسيني أن "النخب الإيرانية لديها هاجس عدم الحفاظ على هذا التوازن وهي تريد بقاء هذا التوازن في العلاقات مع الشرق والغرب"، عازياً هذه المخاوف إلى هواجس تاريخية في العلاقات مع القوى العظمى، سواء الشرقية أو الغربية.
و"تحول سوء الظن هذا إلى ثقافة سياسية في إيران"، كما يقول حسيني، مضيفاً أن "الشعب الإيراني يريد الاطمئنان من عدم الاتكال على الشرق والغرب وهذا كان رسالة الثورة الإسلامية أيضاً" عام 1979.