يستغرب الكثير من الموريتانيين حالة العداء بين الرئيس الموريتاني السابق محمد ولد عبد العزيز، والحالي محمد ولد الغزواني، وتحوّل العلاقة بينهما من النقيض إلى النقيض في فترة قصيرة، ولأسباب غير مقنعة، على الأقل في جانبها العلني. فقد استباحت خلافات السياسة 40 عاماً من الصداقة والزمالة العسكرية والثقة الكاملة بين الرجلين في فترة الانقلابات العسكرية، وحوّلت الرئيسين الصديقين إلى عدوين، كل منهما يحاول النيل من الآخر بشتى الطرق، بدءا بالسعي لبناء تحالفات مضادة وتحطيم وتبخيس الإنجازات السياسية، وانتهاء بكيل الاتهامات بالفساد والخيانة.
وكشفت تصريحات ولد عبد العزيز، أخيراً، عن مدى سوء العلاقة بين الطرفين. فقد أكد، في أول مؤتمر صحافي نظّمه عقب إطلاق سراحه بعد احتجاز دام أسبوعاً، أنه ليس متفائلاً بخصوص استعادة علاقته مع صديقه السابق الرئيس الحالي محمد ولد الغزواني، متهماً إياه بالجمع بين السلطات والانشغال بتصفية الحسابات. وطالب ولد عبد العزيز بالتحقيق في الفساد الحالي قبل فتح ملفات فترة حكمه وما قبلها، معتبراً أن المفسدين عادوا إلى الحكم، ويقدمون أنفسهم كمحاربين للفساد. وقال إن رفع ميزانية رئاسة الجمهورية بنسبة 88 في المائة، والبرلمان بنسبة 30 في المائة، وحصول النواب على زيادة في الرواتب بقيمة 250 ألف أوقية (نحو 6 دولارات ونصف)، فساد ورشوة على عملهم في لجنة التحقيق التي شُكلت لجمع أدلة استشراء الفساد في فترة حكمه.
طالب ولد عبد العزيز أن يكون هو مرجعية حزب "الاتحاد من أجل الجمهورية" الذي أسسه قبل سنوات
يرى مراقبون أن الخلاف بين الرئيسين يعود إلى رغبة ولد عبد العزيز في العودة إلى العمل السياسي من جديد، وتأكيده أكثر من مرة أنه سيدافع عن حقه في ممارسة السياسة. ويعتبرون أن الخلاف بدأ بـ"أزمة مرجعية الحزب الحاكم"، حين طالب ولد عبد العزيز بأن يكون هو مرجعية حزب "الاتحاد من أجل الجمهورية" الذي أسسه قبل سنوات، وهو ما أثار حفيظة ولد الغزواني ومخاوف المحيطين به، من أن يلجأ الرئيس السابق إلى التحكم في مفاصل الدولة خلال ترؤسه الحزب الحاكم، الذي يشكل أعضاؤه غالبية مجلس النواب والحكومة.
ويقول الباحث السياسي محمد يحيى ولد الغوث، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن الحرب حول مرجعية الحزب الحاكم، والتي اندلعت نهاية العام الماضي، كانت سبباً مباشراً لكل ما تشهده الساحة السياسية منذ عدة أشهر، معتبراً أن لجنة التحقيق البرلمانية، وما تلاها من تطورات في ملف التحقيقات، حول عشرية الرئيس السابق، لم تكن لتجد لها مكاناً لو التزم ولد عبد العزيز بالابتعاد عن المشهد السياسي. ويؤكد أنه على الرغم من ذلك، فإن التحقيق في مصادر ثروة ولد عبد العزيز وما يُقال عن تربحه من صفقات عمومية واختلاسه أموال الدولة وثرواتها، قرار جيد ومطلب شعبي، إلا أن ذلك لا يعدو كونه تصفية حسابات سياسية لجأ إليه المقربون من الرئيس الحالي بعد سوء العلاقة بين "الرئيسين الصديقين".
ويشير ولد الغوث إلى أن التلويح بمحاكمة الرئيس السابق تزامن مع خروجه عن نسق النظام الحاكم، وإعلانه السعي للعمل السياسي، تارة بالرغبة في ترؤس الحزب الحاكم وتارة أخرى بالسعي لإحياء الحزب "الوحدوي الاشتراكي". ويضيف "ارتبطت تطورات التحقيق مع الرئيس السابق، واتهامه بالفساد، واحتجازه وانتقال ملف التحقيق من اللجنة البرلمانية إلى شرطة الجرائم الاقتصادية ثم إلى القضاء، بمدى سوء علاقته بالرئيس الحالي ولد الغزواني. وكأنها جرعات وأساليب يتم تهديده بها كل فترة حسب ما يعلنه للإعلام وما يقدم عليه من تأليب للرأي العام ضد النظام الحالي".
وبدأت علاقة الصداقة بين الرئيسين السابق والحالي منذ أكثر من 40 عاماً، تزامناً مع بداية مشوارهما المهني في مؤسسة الجيش، حيث تدربا معاً في عدة مدارس ومعاهد في موريتانيا وخارجها، وتدرجا في سلم الوظائف العسكرية بصفة شبه متزامنة. واتسمت علاقتهما بالتفاهم الكبير والود، وتوطدت علاقاتهما الشخصية والعائلية.
انهارت الثقة بين الرجلين بعد شهرين من تولي ولد الغزواني رئاسة البلاد
وتقلد الرئيسان عدة مناصب هامة في الجيش. وفي 2005 شاركا، إلى جانب مجموعة من الضباط، في انقلاب عسكري أطاح بحكم الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع، الذي حكم البلاد لأكثر من 19 سنة. وبعد 3 سنوات قام ولد عبد العزيز، وبمساعدة صديقه ولد الغزواني، بانقلاب آخر أصبح بموجبه رئيساً للبلاد، قبل أن ينتخب لولايتين متتاليتين عقب استقالته من الجيش (2009-2019)، في حين عيّن ساعده الأيمن آنذاك محمد ولد الغزواني قائداً للأركان العامة للجيش، ثم وزيراً للدفاع. وبعد أن استنفد ولد عبد العزيز عدد الولايات الرئاسية التي يسمح بها الدستور، وفشل في تعديله ليتمكن من الترشح مجدداً، خاض حرباً ضروساً خلال نهاية ولايته لإقناع الأغلبية الرئاسية بترشيح رفيقه ولد الغزواني. وقاد حملة انتخابية ناجحة لصالحه، حيث استطاع تغليب كفته، وسط منافسة شديدة من خمسة مرشحين مثلوا جهات سياسية قوية.
يرى مراقبون أن ولد عبد العزيز كان يفكر في إعادة السيناريو الروسي بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الحكومة الأسبق ديمتري ميدفيديف، حين رشح صديقه ورفيق دربه ولد الغزواني للانتخابات الرئاسية العام الماضي، ووقف أمام الناخبين طالباً منهم التصويت له، باعتباره الأفضل لقيادة المرحلة، ولأنه أيضاً صمام أمان أمام أي محاولات تهدف لفتح ملفات الماضي، السياسية والمالية والحقوقية. وعلى عكس كل التوقعات انهارت الثقة بين الرجلين بعد شهرين من تولي ولد الغزواني رئاسة البلاد، وبدأت المعادلة السياسية في التشكل من جديد، وسط حالة ارتباك داخل الأغلبية الرئاسية.
ويقول الباحث أحمد سالم ولد شيخاني، لـ "العربي الجديد"، إن "العلاقة بين الرجلين مرت بعدة اختبارات ومحن طيلة المسار العسكري والسياسي الذي جمع بينهما، كان آخرها حادث إطلاق النار الذي تعرض له ولد عبد العزيز بسبب خطأ من ضابط شاب اشتبه في سيارته التي كانت تمر بجوار قاعدة عسكرية. فأرغم الرئيس على مغادرة البلاد لتلقي العلاج في فرنسا لمدة شهرين، ضمِن خلالها ولد الغزواني لصديقه ولد عبد العزيز تسيير أمور البلد بشكل اعتيادي، رافضاً مطالب البعض إعلان شغور منصب الرئيس ومتجاهلاً دعوات الانقلاب على الصديق الجريح".
ويرى الباحث أن بوادر الخلاف بين الرجلين بدأت تتكشف شيئاً فشيئاً، حين قام ولد الغزواني بإحداث تغييرات على القيادات العسكرية والأمنية بشكل شبه كامل، وتفكيك قوة الحرس الرئاسي، وهو ما أثار غضب ولد عبد العزيز. ويضيف "اتخذ الخلاف أبعاداً أخرى، حين رفض ولد عبد العزيز حضور العرض العسكري المقام بمناسبة ذكرى الاستقلال، في حين حضر جميع الرؤساء السابقين وزعماء المعارضة. فرد ولد الغزواني بعقد لقاءات مع أطياف المعارضة، التي كان ولد عبد العزيز يُكن العداء لها، وإعلان الرئيس استعداده توسيع دائرة التشاور مع المعارضة في مجمل القضايا الوطنية. وهنا حاول ولد عبد العزيز الرجوع إلى الحياة السياسية من بوابة رئاسة الحزب الحاكم، فتفجرت أزمة المرجعية الشهيرة داخل أروقة الحزب الحاكم".
ويؤكد أن خروج التوتر بين الطرفين إلى العلن تسبب في الكثير من اللغط داخل الساحة السياسية، وباعد بين صديقي الأمس حتى أصبحا عدوين حقيقيين. ويشير إلى أن ولد عبد العزيز أصبح في مأزق كبير بعد إحالة ملفات التحقيق في سنوات حكمه للقضاء بشبهة الفساد والاختلاس والخيانة العظمى، ومن المتوقع اعتقاله برفقة بعض أفراد أسرته والمقربين منه قريباً، إذا لم تحدث مصالحات أو تنازلات لبدء مرحلة جديدة وإنهاء حالة الخلاف بين الرئيسين.