عندما أعطى من لا يملك حقاً في أرضهم لمن لا يستحق؟ من بلفور إلى ترامب، وخلال بناء الكيان الصهيوني على الأرض الفلسطينية منذ مائة عام وأكثر على إعلان بلفور، وكذلك أكثر من سبعين عاما على صدور قرار التقسيم 181 في الأمم المتحدة، بات 80% من أرض فلسطين هو "دولة إسرائيل"، ومن ثَمَّ أصبحت كلها تحت السيطرة الصهيونية.
منذ عام 1948 وخلال العقود السبعة، كل محاولات إنهاء الصراع من القوى الدولية ومن القيادات العربية والفلسطينية التي راهنت وعولت على الدور الأميركي وسلمت بحلول التسوية وحل الدولتين باءت بالفشل، وأتت المنح الأميركية عبر الرئيس السابق دونالد ترامب من خلال صفقة القرن لتستكمل الوعد البلفوري الذي يعني عدم إنهاء الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي عبر أوسلو، وإنما تغيير مسار الصراع وتحجيم أهداف الفلسطينيين ومحاصرتها ضمن حدود الحكم الذاتي المحدود في أقل من 20% من مساحة الضفة الغربية.
كانت أولى تلك المنح من خلال الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل في ديسيمبر/نانون الأول 2017، ثم أعقبت ذلك إجراءات تعسفية بسحب تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة (أونروا)، وإيقاف الدعم المالي للسلطة الفلسطينية في رام الله، ثم جاءت المنحة الكبرى الأخرى، الاعتراف بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان السورية المحتلة، واعتبارها من حق دولة الاحتلال، في سابقة تاريخية للخروج على القانون الدولي والقرارات الدولية، وذلك في 25 مارس/ آذار 2019. وأخيرا قام وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، بجولة في مستوطنة إسرائيلية بالضفة الغربية المحتلة، وذلك في سابقة لمسؤول أميركي رفيع المستوى حيث صرح برؤية الولايات المتحدة الجديدة التي تقر بأن المستوطنات لا تشكل انتهاكا للقانون الدولي.
لم تقم "الدولة الصهيونية" من أجل "حل إنساني" لمشكلة يهود مشردين، بل أتت في سياق المشروع الإمبريالي للسيطرة على الوطن العربي، كدولة حاجز، و"قاعدة عسكرية" تتغلّف بمجتمع مدني. وهدف وجودها هو تكريس تفكك الوطن العربي ومنع تقدمه. لذا فإن دورها لا يزال قائما كما أهداف صانعيها، أي هي غير معنية بـ" السلام" بل بالهيمنة، وتحتاج الى التوسّع لكي تصبح قوة كبيرة. الامر الذي يعني أن فلسطين هي إسرائيل والأرض هي أرض إسرائيل فقط، وعليها التعامل مع مشكلة الفلسطينيين، عبر التخلص منهم داخل ما تعتبره أرضها، كي يخرجوا من إطار مسؤولية الدولة المصطنعة "إسرائيل".
ركزت الدولة الصهيونية منذ نشأتها عبر الهيمنة على الأرض والسكان في كامل فلسطين، أي ليست تلك التي منحت لها عبر قرار التقسيم فحسب، بل تلك الأرض التي بقيت للجانب الفلسطيني أيضا. وكانت كل مناوراتها بعد احتلال سنة 1967 تركز على قضم الأرض وحصار السكان، وبالتالي لم تكن معنية وهي تسلك المسار التفاوضي منذ أواسط الثمانينيات سوى بكسب الوقت من أجل مزيد من الهيمنة والاستيلاء على "الأرض" وإخضاع الأخر. لذا كان مشروع "حل الدولتين" مشروعا فاشلا منذ البداية ولا يعطي الدولة الصهيونية إلا مزيدا من الوقت لتخفيف الضغط عليها من قبل المجتمع الدولي، والتعمية على سياساتها التي تهدف إلى إحكام السيطرة على كل فلسطين وتحييد السكان الفلسطينيين من بنية النظام السياسي والقانوني للدولة الصهيونية عبر " حكم ذاتي" في الضفة الغربية وقطاع غزة كخطوة أولى بل أخيرة أيضا.
كان تحييد الشعب الفلسطيني وتحييد حقوقه الشغل الشاغل لذلك الكيان الصهيوني، خاصة بعد أن هيمن شعار العودة وتحرير فلسطين على النضال الفلسطيني منذ أواخر الستينيات، فكانت الحلول التسووية التي طرحها المجتمع الدولي خاصة أميركا، حلقة في حلقات تغيير مسار الصراع العربي الإسرائيلي لصالح الدولة الصهيونية، وباتت قيادات المقاومة الفلسطينية نفسها هي التي تطرح برنامجاً يقبل بجزء من فلسطين (20% فقط) من أجل إقامة دولة فلسطينية عليها، مع الاعتراف بالوجود وبالدولة الصهيونية على باقي أرض فلسطين. فقامت في المرحلة الأولى خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي على "تبليع" الشعب الفلسطيني فكرة "حل الدولتين"، ومن ثم جرى عقد اتفاق أوسلو سراً، ومن ثم سارت الأمور في متاهة مفاوضات لا طائل منها إلا أن أوقفت الولايات المتحدة الأميركية في عهد ترامب ذلك المسار لعدم الحاجة إليه بعد أن أخذت الدولة الصهيونية ما تريده من الاتفاق، وهو تشكيل كيان فلسطيني يقوم بدور الأمن وضبط الشعب في الضفة الغربية وقطاع غزة، ليخضع الشعب الفلسطيني لرؤية مشروع الكيان الصهيوني نفسه. فتحييده عن الصراع وقمعه ومنعه من المقاومة ملقاة على كاهل قيادته المتناحرة عبر كيانين فلسطينيين تحت الاحتلال
خلال هذا المسار التفاوضي ومتاهات الحلول التسووية، كانت الدولة الصهيونية تعمل جاهدة على السيطرة على الأرض في الضفة الغربية خصوصاً، وتزيد من بناء المستوطنات فيها، لتقضم الكثير من الأراضي تحت مسميات متعددة. أعطى اتفاق أوسلوا سيطرة السلطة الفلسطينية على المدن بالأساس، وأن يكون وضع القرى تحت سيطرة مشتركة، وتكون باقي الأراضي تحت السيطرة الصهيونية (وتبلغ مساحتها 60% من أرض الضفة الغربية تقريباً). وهي الأرض التي توسّع الاستيطان فيها أصلاً. وبنت الدولة الصهيونية سورا حول المدن واقامت طرقا التفافية وحواجز فرضت "تقطيع" التواصل بين المدن الفلسطينية، الأمر الذي قاد عمليا إلى فشل حل الدولتين. أما مشروع ترامب ووعوده في ما سمي بـ"صفقة القرن" فقد وضعت حجر الأساس لبداية مرحلة جديدة تقود إلى حل "الدولة الواحدة " الصهيونية.
كان واضحاً منذ البدء أن الصراع مع الدولة الصهيونية هو صراع عربي ضد المشروع الإمبريالي وأدته هذه الدولة. لكن القيادات الفلسطينية عبر ما سمي بالفلسطنة أدخلت المشروع الوطني الفلسطيني في مآزق، فانطلاق حركة فتح من مبدأ فلسطنة القضية، أغرق المقاومة الفلسطينية في صراع مع دول الطوق العربية أكثر مما قاوم الدولة الصهيونية، ومن ثم انحسر وضعها كثيراً، الى أن انتهت فعلياً مع اتفاق أوسلو. وظهر جليا بعد قرابة ثلاثة عقود من الاتفاقية ضعف القدرة على المواجهة داخل فلسطين، حيث تهيمن القوة الصهيونية، وتساعدها سلطة فلسطينية تشكلت لضبط السكان في الضفة الغربية وقطاع غزة.
لم يكن حل الدولتين ممكناً في الواقع العملي، بل كان مناورة لتحقيق ما أشرت إليه للتو. فالدولة الصهيونية تعتبر فلسطين دولة واحدة هي "إسرائيل"، لكنها لا تريد كثافة سكانية فلسطينية، لهذا تعمل بعد ضم الكثير من مناطق الضفة الغربية خاصة إعلانها ضم غور الأردن إخراج أكبر قدر من فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة عبر سياساتها، لهذا فإن السيناريو الوحيد القائم هو أن تكون فلسطين دولة واحدة، لكن هل هي دولة "يهودية" أو عربية؟ الصراع يجري في هذه النقطة وعليها، وكل انحراف عنه هو تضييع للمسألة وتغطية على ما تفعله الدولة الصهيونية لحسم الصراع نحو دولة واحدة صهيونية.
ليس وعد بلفور وثيقة جرى تقديمها بناءً على إلحاح الحركة الصهيونية، بل هو الخطوة الأولى لتكريس مشروع من صناعة إنكليزية- دولية، بغرض فتح الباب لتطبيقه عملياً. وبالتالي، ليست المسألة متعلقة بموظفٍ في الخارجية الإنكليزية، بل هي مسألة سياسة استعمارية بريطانية كانت بحاجة إلى هذا الوجود لليهود في فلسطين، بالضبط لأنها تريد منع توحّد المنطقة العربية، الوحدة التي تعني التطور والاستقلال. حيث كانت تريد أن يبقى العرب في حالة تفكّك وتخلف، ومجال نهب من خلال السيطرة على الأسواق والمواد الأولية. وهذا ما كان قد تحقق قبل وعد بلفور في الاتفاقات التي فرضت تقاسم البلدان العربية بين الدول الاستعمارية.
بالأساس، فإن فكرة إقامة "دولة يهودية" في فلسطين هي فكرة بريطانية، نتجت عن رؤية الرأسمالية الإنكليزية، بعد أن تخلصت من خطر محمد علي باشا، إثر هزيمته وفرض استسلامه. عبر وضع حاجز في فلسطين يمنع هذا التمدّد في أي وقت لاحق. لهذا، كان توقيع محمد علي باشا على وثيقة الاستسلام سنة 1840 هي السنة التي أطلق بالمرستون الذي بات وزيراً للخارجية في "بريطانيا العظمى" تصريحه عن إقامة "وطن قومي" لليهود في فلسطين. للتخلص من اليهود في أوروبا، وبناء حاجز يمنع توحيد المنطقة العربية، ويشلّ مصر بما يُجهض كل إمكانية لميلها إلى تحقيق التطور.
لم تتغير الطبيعة الرأسمالية لا في إنكلترا ولا في الولايات المتحدة الأميركية الوريث الشرعي للمشروع الإمبريالي، لذا مازالت الحاجة إلى "الدولة الصهيونية" قائمة. ولاستمرارها وتمددها تطلب الأمر معالجة وضعين، الأول يتعلق بطبيعة هذه الدولة الواحدة والثاني طبيعة تطور الصراع ليصل إلى حد فرض الحل البديل.
جاءت وعود ترامب من خلال صفقته لتضع حجر الأساس حول طبيعة الدولة الواحدة المطروحة منذ بلفور وهي دولة صهيونية واحدة، لذا كانت قراراته الأخيرة قبيل مغادرته البيت الأبيض حول شرعية المستوطنات الاسرائيلية في الضفة الغربية. لتضع بذلك بدء التطبيق العملي للدولة الواحدة، بدأت بحسم مسألة القدس واعلانها عاصمة للدولة الصهيونية ضاربا كل القرارات الدولية بخصوص ذلك، وصولا إلى الإقرار بسيطرة الكيان الصهيوني علي هضبة الجولان المحتل ضمن حدود الدولة في طورها الجديد، ممهدا الطريق إلى ترسيم حدود تلك الدولة الواحدة في المنطقة وقبولها قبولا طبيعيا ضمن الشرق الأوسط الجديد، وبذلك ضمن وقف الصراع العربي – الإسرائيلي وقبول تلك الدولة باعتبارها أمرا واقعيا بديلا لانطلاق قطار التنمية الواهمة، وما يجري من اتفاقيات بين الكيان الصهيوني ودول الخليج العربي، ومن ثم باقي الدول العربية ما هو إلا قبول للدولة الواحدة خاصة بعد تحييد الشعوب العربية وإخراجها من معادلة الصراع، عبر نظمها الاستبدادية التي استولت علي ثورات الربيع العربي وأجهضتها.
يمكن أن نطلق على هذه المرحلة الطور الثاني للدولة الصهيونية، ذلك الكيان الذي لا يمكن له الحياة والاستمرار إلا على أنقاض البديل الشرعي، أي دولة فلسطينية واحدة على أرض فلسطين التاريخية، والاعتقاد بأنه يمكن الوصول إلى "سلام" بتحقيق حل الدولتين سيكون مضيعة للوقت وكسباً للدولة الصهيونية ذاتها. فوجود أي حلول أخرى غير الدولة الصهيونية الواحدة يعتبر تشويها في مسار ذلك الكيان وفشلا كاملا. ويعرقل المشروع الإمبريالي الأميركي في المنطقة.
كل المشكلات الناجمة عن الكيان الصهيوني في طوره الأول ظلت مستعصية أمام الحلول الأميركية رغم خطاب المجتمع الدولي الإنساني الذي ساد منتصف القرن الماضي كـ"حق الشعوب في تقرير المصير"، واعتبار المستوطنات غير شرعية، وعودة اللاجئين"، إذ باتت غير مجدية أمام القرارات الأميركية والقبول العربي لها. لكنها تظل قائمة في وجدان الشعوب مما يعيق فرض الحل البديل الاميركوصهيوني. أي ليس من خيار سوى سيناريو واحد هو إنهاء هذه الدولة الصهيونية وإقامة دولة فلسطين العلمانية الديمقراطية الواحدة.
إما نحن أو هم؟ أي إما دولة فلسطينية أو دولة صهيونية. فكل ميل لتجاهل ذلك لا يقدم أي حلول ناجعة للمنطقة، وستكون عائقا أمام مسارات التطور والتقدم والحداثة في المنطقة العربية، وعائقا أمام الديمقراطية في مواجهة الظلامية والماضوية في الوطن العربي. فلن تحل الدولة الصهيونية مجمل المشكلات التي نتجت عن الصراع العربي – الإسرائيلي طيلة السنوات الماضية، ولن تستطيع بكل الطرق التخلص من السكان الفلسطينيين ولا الإبقاء علي تحييدهم والسيطرة عليهم وتهجيرهم وإعادة توطينهم في دول أخرى، ولن يكون وجودها " الطبيعي" في المنطقة مدخلا رئيسا لإقرار مطالبات الشعوب العربية في الحق والعدل والمساواة أي المبادئ المؤسسة لدول المواطنة. وبالتالي يجب أن تكون دولة العلمانية، هذه المسألة هي ضرورة في كل البلدان العربية، ولا شك ان الثورات العربية رغم انحسارها أفضت إلى عالم مختلف والصراع ضد الدولة الصهيونية جزء منها بالضرورة، ما دامت هي أداة كبح التطور والوحدة، وفرض التبعية والنهب. وفي فلسطين هو أشد
ضرورة – أيضا- وإلى أن يتحقق ذلك، يبقى دور الفلسطينيين أساسياً في المقاومة، رغم الاختلال الكبير في ميزان القوى.