من "كامب ديفيد" إلى "أبراهام": في تطبيع ما هو غير طبيعي

25 سبتمبر 2022
دعت معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية إلى إقامة علاقات "طبيعية وودية" بين الجانبين (Getty)
+ الخط -

رغم خروقات عربية لـ"لاءات" ثلاث في قمة الخرطوم عام 1967 (لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف) ظلت مشاريع التسوية "تابوهات" عربية، كانت الحركة الوطنية الفلسطينية قادرة على تعطيلها أو إبقائها طي الدبلوماسية السرية، حتى إنها تمكنت من تأليب الرأي العام العربي في غير عاصمة على جمال عبد الناصر؛ رغم ما تمتع به من كاريزما وجماهيرية، وصل الأمر إلى حد اتهامه بـ"الخيانة"، بعد قبوله مبادرة روجرز لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي (وقف إطلاق النار وتطبيق القرار 242) في عام 1970، متراجعاً عن شعاره الشهير "ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة"، واضطر الزعيم المصري، في يونيو/حزيران من العام نفسه، إلى أن يصدر أمراً بوقف إذاعة صوت فلسطين، التي كانت تبث محرّضة عليه في حينه من القاهرة. ولّى ذلك الزمن العربي، ويقف الفلسطينيون اليوم عاجزين عن وقف قطار التطبيع الذي انطلق يجتاز محطة بعد أخرى.

في عام 1979؛ دعت معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية إلى إقامة علاقات "طبيعية وودية" بين الجانبين، بعد إتمام انسحاب إسرائيل من سيناء إلى ما وراء الحدود الدولية بين مصر و"فلسطين تحت الانتداب".

حينها بلغ رفض التطبيع المصري عربياً وفلسطينياً حد مقاطعة مصر ونقل مقر الجامعة العربية من القاهرة إلى تونس، لم يحظ تطبيع عام 2020 ممثلاً باتفاقيات "أبراهام" برفض أغلب الأنظمة العربية، رغم أن الفلسطينيين اعتبروه "طعنة في الظهر".

وضعت "كامب ديفيد" أولى العربات على سكة التطبيع، لكنها بقيت حبيسة المستوى الدبلوماسي، وحافظت الاتفاقية على مبدأ "الأرض مقابل السلام"، وعلى تسلسل منطقي بين المقدمات والنتائج، فظل التطبيع نتيجة للسلام لا سبباً له، وهدفاً تسعى إليه دولة الاحتلال قبل أن يتحول أداة بيدها تكرّس بها مشروعها الكولينيالي الإحلالي.

رغم تحييد الجيش المصري عن حلبة الصراع العربي الإسرائيلي، بقيت فلسطين قضية أمن قومي مصري، ولم تصبح "عقبة في وجه السلام" تتعارض مع المصلحة الوطنية، ينبغي التخلص منها (في فبراير/ شباط من عام 2019 صرح وزير الخارجية البحريني بأن مواجهة التهديد الإيراني أهم من القضية الفلسطينية).

على خلاف مصر، التي اشتركت مع دولة الاحتلال بخط مواجهة بطول 200 كيلومتر، وطبّعت علاقاتها معها بعد أن استعادت أراضي مصرية، بالانسحاب الإسرائيلي بموجب المعاهدة أو بالتحكيم الدولي، وأحدثت تحولاً في الاستراتيجية الإسرائيلية نحو مصر، أضفت "أبراهام" طابعاً رسمياً على علاقات طويلة الأمد بين دولتين لم تنخرطا في أعمال عدائية، وكثفتها في مجالات ومستويات مختلفة تؤسس لتحول في الرأي العام العربي تجاه فكرة إسرائيل الكبرى.

في حين ظل التطبيع المصري ("كامب ديفيد") والأردني ("وادي عربة") في أضيق الحدود، تهيمن عليه قضايا الاقتصاد والأمن التي تفرضها الجغرافيا (لم يتجاوز حجم التبادل التجاري بين مصر وإسرائيل في عام 2018 أكثر من 149 مليون دولار)، ولم يتمكن من اختراق وعي الشارعين المصري والأردني، وحوصرت لوبيات التطبيع بمحركات أيديولوجية وقيمية ممانعة لتطبيع ما هو غير طبيعي، لدى كتلة سكانية ضخمة في الحالة المصرية، كانت حاملاً اجتماعياً تاريخياً للمشاريع الأيديولوجية العربية الكبرى (القومي والإسلامي والاشتراكي)، ودفعت ثمن خمس حروب مع إسرائيل، ولدى كتلة سكانية في الحالة الأردنية، كانت لسنوات حاضنة شعبية لحركة التحرر الوطني الفلسطيني، وحاملاً اجتماعياً لمشروعها الوطني، تداخلت معها ديمغرافياً، حين ضمّت اللاجئين والنازحين بفعل الاحتلال.

ياسر عرفات يلقي من عمان بيانا يرفض فيه مبادرو وليام روجرز للسلام في الشرق الأوسط (Getty)
ياسر عرفات يلقي من عمّان بيانا يرفض فيه مبادرة روجرز الأميركية للسلام في الشرق الأوسط (Getty)

انفردت مصر بالسلام مع إسرائيل، لكن "كامب ديفيد" قامت على أساس مبدأ "الأرض مقابل السلام"، الذي هيمن على مساعي التطبيع في مسار للتسوية السلمية بمنظور كلي، عربي إسرائيلي (مدريد 1991، وادي عربة 1994، مبادرة السلام العربية 2002)، قبل أن يتحول الصرع من صراع عربي إسرائيلي شامل إلى صراع فلسطيني إسرائيلي، بعد تمكن دولة الاحتلال من فرض شعاراتها على الفلسطينيين: "الأمن مقابل السلام"، وعلى العرب: "السلام مقابل السلام" أو "التطبيع مقابل التطبيع".

في سبتمبر من عام 2020 خرج التطبيع السري مع الاحتلال إلى العلن ليصبح مشروع تحالف إقليمي، بعد أن تماهى التطبيع الإماراتي مع "صفقة القرن" التي أعادت صياغة موقف اليمين الإسرائيلي في شكل إعلان أميركي، ومضت الإمارات أو "إسبرطة الصغرى"؛ كما وصفها وزير الدفاع الأميركي الأسبق جيمس ماتيس، في ذلك المسار راغبة بتعزيز دورها في الإقليم الذي هيمنت عليها القوى التقليدية؛ السعودية ومصر، لعقود طويلة.

لم يتوقف التطبيع الإماراتي عند المستويات الرسمية أو الأمنية الضيقة، بل طاول جميع القطاعات السياسية والثقافية والاقتصادية والتكنولوجية. يسعى التطبيع الخليجي عموماً، والإماراتي خصوصاً، إلى اختراق الوعي العربي عبر حملات ترويج سياسي إعلامي حثيثة، تقوم على لوم الضحية (الفلسطينيون)، وتبنّي السردية التاريخية الصهيونية، وتبرير ذلك دينياً، بفتاوى تجعل من التطبيع الإبراهيمي ديناً جديداً.

بدءاً من عام 1974 قلصت حركة التحرر الوطني بقيادة "فتح" سقفها التحرري بتبنيها "البرنامج المرحلي"، وصولاً إلى سلطة تحت الاحتلال تتبنى حل الدولتين مشروعاً سياسياً، مكبلةٍ بالاتفاقيات مع إسرائيل، وبشروط المانحين، وبدهاليز التفاوض، دون أي مشروع للمقاومة.

تماهى التطبيع الإماراتي مع "صفقة القرن" التي أعادت صياغة موقف اليمين الإسرائيلي في شكل إعلان أميركي، ومضت الإمارات في ذلك المسار راغبة بتعزيز دورها في الإقليم الذي هيمنت عليها القوى التقليدية؛ السعودية ومصر، لعقود طويلة.

أما "حماس"؛ فركّزت في انطلاقتها على الأيديولوجي، قبل إدراكها أهمية تبني خطاب سياسي يوفر مساحة للعمل في مواجهة شرعية تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية، تزامناً مع انطلاق مسار مدريد، لتعلن في بداية التسعينيات استعدادها للحوار مع أي دولة "خدمة للقضية الفلسطينية". مقابل سعيها لانتزاع اعتراف عربي بشرعيتها، والحصول على الدعم السياسي والمالي، كان عليها التزام سياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية لتلك الدول.

ازدادت حاجة "حماس" إلى الاعتراف العربي والإقليمي بعد عام 2007 لتعزيز سيطرتها على قطاع غزة، في ظل صراع دموي على السلطة مع حركة فتح. "الاعتراف" انتهى بـ"حماس" إلى ما انتهت إليه "فتح" بقبولها دولة على حدود العام 1967، واختزال استراتيجيتها في الكفاح المسلح، تدريجياً، في تكتيك يخدم بالدرجة الأولى تعزيز سلطتها والحفاظ على شرعيتها. وكما كانت الحال مع حركة فتح، لم تصمد سياسة عدم التدخل في شؤون الآخرين، في ظل صراع المحاور، وحالة الاستقطاب السياسي في المنطقة، التي فرضت على "حماس" اصطفافات توجبّ عليها دفع ثمنها.

تتحمل سلطتا حماس وفتح مسؤولية صمتهما حيال علاقات عربية إسرائيلية قبل أن يخرج بعضها إلى العلن. هجانة السياسة لدى "حماس" وعجز السلطة لا يوفران أدوات كافية لمواجهة مشاريع التطبيع، فبعد وصف التطبيع الإماراتي بـ"الخيانة"، ومن دون كثير من تباطؤ، تراجعت السلطة عن خطواتها الدبلوماسية الاحتجاجية. بعدها، بدت عاجزة عن الإدانة الصريحة للتطبيع التركي الإسرائيلي الأخير.

أما بالنسبة لـ"حماس"، التي تسعى للتخلص من الإرث الأيديولوجي لـ" الإخوان المسلمين"، ولم يكن لديها ما تخسره في علاقتها بالإمارات، فوصفت غير مرة خطوة التطبيع الإماراتي بـ"المخزية"، واعتبرتها "مشروعاً صهيونياً أميركياً بامتياز"، إلا أنها كانت أقل حدة في إدانة التطبيع التركي، وهي إدانة جاءت بكل حال في معرض تكذيب "حماس" لبيان نسب لها تعلن فيه ترحيبها بالخطوة التركية.

لم تنج "حماس" من التخبط، وبسياسة تنوس ما بين السياسي والأيديولوجي، وما بين البراغما والثوابت، تراجعت عن موقفها السابق من المسألة السورية، لتعلن أخيراً عن عودة علاقاتها مع النظام في سورية. لكن، إذا كان التعويل على الشعوب العربية أملاً أخيراً في مقاومة التطبيع، ومواجهة آثاره، فيكف أمكن لحماس أن توفّق بين رفضها التطبيع مع نظام استعماري استيطاني إحلالي، وبين قبولها التطبيع مع نظام استبدادي ضحى ويضحي بكل ما هو سوري حفاظاً على بقائه؟

لا تكمن الخطورة في ما أنجز حتى الآن من صفقات تطبيع عربي إسرائيلي فقط، بل أيضاً في أن تلك الصفقات تمهد لأخرى قادمة، تكون أكثر شمولاً، تتورط فيها دول أكبر وزناً (السعودية مثلاً)، وتنفّذ مباشرة على حساب الفلسطينيين.

على الفلسطينيين، والأصوات المخلصة الداعمة لهم، أن يبرهنوا على أن التطبيع هو نتيجة للسلام، وأن لا سلام من دون استعادة الفلسطيني حقوقه المشروعة. يكون ذلك بدءاً بتصحيح المسار السياسي، ليكون إنهاء الاحتلال، وانتزاع حق تقرير المصير، شرطين لـ"الدولة" والاستقلال الوطني، لا العكس، فلا يمكن استمرار التضحية بحقوق فلسطينية لصالح "دولة" تُستَجْدَى بوصفها هبة إسرائيلية أو دولية.

لكن استعادة التحرير مشروعاً وطنياً لكل الفلسطينيين غير ممكنة في ظل الصراع/ التنافس على السلطة، وما كرسه من حالة الانقسام في الساحة الفلسطينية.

ينبغي توحيد جهود حركات المقاطعة العربية والفلسطينية، وتكثيف ورشات العمل، للوصول إلى استراتيجية موحدة لمقاومة التطبيع، والبروباغاندا الصهيونية (والعربية أيضاً) المصاحبة له، التي تريد إقناع الرأي العام بأن رفض التطبيع معادل للكراهية، ومعاداة للسامية.

في مواجهة هذه المغالطة، لا مجال لمزيد من الرومانسية الثورية، ولردود الأفعال غير المدروسة، كذلك بحكم الفوضى الدولية والنزاعات الإقليمية، والواقع العربي المتردي، بعد فشل ربيع العرب، وتفتت مجتمعاتهم تحت ضربات الاستبداد والثورات المضادة.

بات من الضروري تقنين كفاح الشعب الفلسطيني عبر المقاومة الشعبية المدنية الشاملة، وبها تستعيد الحركة الوطنية الفلسطينية وحدتها، وفاعليتها في إخراج القضية الفلسطينية من حلبة الصراعات الإقليمية، وتوحيد الأطراف المتصارعة حولها. وإن لم يكن ثمة فرصة تلوح في الأفق لنسف اتفاقيات التطبيع القائمة حتى الآن أو محو جسيم أضرارها، فإن هناك فرصة متاحة للحد من نطاقها، وعرقلة أي اتفاقيات قادمة.

التطبيع يقوم في العلاقات الطوعية لا القسرية، وعلاقات الفلسطينيين بمستوييهم الرسمي والشعبي مع دولة الاحتلال تظل علاقات قسرية غير طبيعية يفرضها الواقع القائم بفعل الاحتلال

هناك مغالطة أخرى تسعى إعلامياً لتبرر التطبيع العربي مع الاحتلال الإسرائيلي بالعلاقات الفلسطينية الإسرائيلية، بوصف الأخيرة نوعاً من التطبيع. لكن التطبيع يقوم في العلاقات الطوعية لا القسرية، وعلاقات الفلسطينيين بمستوييهم الرسمي والشعبي مع دولة الاحتلال تظل علاقات قسرية غير طبيعية، يفرضها الواقع القائم بفعل الاحتلال، تتغير طبيعة هذه العلاقات الاستعمارية بتغير الديمغرافيا الفلسطينية، حيث تقتضي حالة التشابك غير الطبيعية هذه بعض العلاقات مع السلطات الإسرائيليّة. لتعمل مؤسسات السلطة الفلسطينية فهي مجبرة على التنسيق مع سلطات الاحتلال، ويحتاج الفلسطينيون في حياتهم اليومية تحت الاحتلال إلى تصاريح وموافقات إسرائيليّة في مجالات عديدة.

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

الجوهري هنا أن يظل المنخرطون بهذه العلاقات، أفراداً ومؤسسات، واعين أنَّ الوضع غير طبيعي وينبغي الانقلاب عليه، والحيلولة دون أن يصبح أمراً طبيعياً. هذه العلاقات القسرية الفلسطينية مع الاحتلال لا تمس بأي حال حقوق أي دولة عربية، على خلاف تطبيع عربي تَستَكمِل معه وبه دولة الاحتلال مشروعها الكولينيالي الاستيطاني للسيطرة على فلسطين، وتغييرها سرديتيها التاريخية والديمغرافية، لتكريس نظام أبارتهايد يعطي الفلسطينيين جيوباً منفصلة الأراضي دون استقلال حقيقي أو حقوق سياسية. جوهر هذا المشروع يمس بالحقوق الفلسطينية، والتطبيع معه هو مساس بها أيضاً.

غير الطبيعي هو الاحتلال، وللعودة إلى الطبيعي يجب إنهاء هذا الاحتلال، ليكون هناك سلام يجب منح الفلسطينيين حقوقهم المشروعة، لكن "إشراك الفلسطينيين" أو "عدم المس بحقوقهم" بل و"الدفاع عنها" أيضاً، هي حلقات مسلسل من الكذب يتستر به التطبيع العربي، منذ "كامب ديفيد" وحتى "أبراهام".

المساهمون