في الثاني من إبريل/نيسان الماضي، بدأ الناشط المصري علاء عبد الفتاح إضراباً عن الطعام احتجاجاً على الأوضاع غير الإنسانية التي يعيشها في سجن شديد الحراسة في مصر. لم تتوقّف عائلته منذ اعتقاله الأول عام 2013، الذي استمرّ ست سنوات، إلى اعتقاله الثاني بعد بضعة أشهر من الإفراج عنه عام 2019، وحتى هذه اللحظة، عن المطالبة بالعدالة له، وعن السعي لدى المنظمات الحقوقية والهيئات الدولية لرفع قضيته.
علاء المدوّن والناشط الذي ثار على نظام حسني مبارك في ثورة يناير 2011 فاعتقل حينها، لم تشفع له السنوات الست التي أمضاها في سجن تغيب عنه أبسط الحقوق التي تنص عليها القوانين الدولية. منشور على "فيسبوك" كان كفيلاً بزجه مجدّداً في السجن ذاته وفي ظروف صعبة.
سبعة أسابيع مرّت وعلاء ما يزال مضرباً عن الطعام، وسط مخاوف حقيقية على حالته الصحية الهشة أصلاً، بعد كل ما تعرّض له من تعذيب وحرمان من أبسط الحقوق خلال السنوات التسع الماضية. لكن علاء لم يعد سجيناً مصرياً بعد نيله الجنسية البريطانية قبل بضعة أشهر، فهل ستنقذه هذه الجنسية من هذا الجحيم؟ وهل ستطالب به الحكومة البريطانية بشكل جدي وحاسم كأي مواطن بريطاني، وكأي مواطن محكوم بالسجن بسبب "جرأته" في التعبير عن الرأي؟
للإجابة على هذه الأسئلة وغيرها، والاطلاع على حالة علاء، التقت "العربي الجديد" شقيقته الناشطة منى سيف التي تزور لندن لبحث قضيته.
علاء مستمرّ في الإضراب عن الطعام حتى تحقيق مطلبين واضحين أعلن عنهما
ما هي آخر مستجدات قضية علاء؟
أكمل علاء 50 يوماً من إضرابه عن الطعام. قبل يومين، زارته والدتي وخالتي وخالي في السجن الجديد إلى حيث نُقل أخيراً (نُقل من سجن شديد الحراسة 2 بمجمع سجون طرة بالقاهرة إلى سجن وادي النطرون) كاستجابة للضغوط التي تعرّضت لها السلطات المصرية، سواء تلك التي مارستها السفارة البريطانية في مصر أو التدخل الذي قامت به الحكومة البريطانية وأعضاء في البرلمان. وهذه الخطوة المتأخّرة جداً جاءت بعد سنتين ونصف من تعرّضه لظروف اعتقال بشعة للغاية ولا علاقة لها بالقانون، إذ يخضع لحراسة رهيبة، تُمنع عنه الشمس ويُحرم من ممارسة الرياضة أو من قراءة الكتب، وحيداً في زنزانته. نقله إلى سجن وادي النطرون قد يجعل الوضع أقلّ سوءاً.
لا نعرف بعد ما إذا كانوا سيسمحون بإدخال الكتب إليه مثلاً. إلا أن الإنجاز الأكبر هو أن أخي علاء نام على فراش للمرة الأولى منذ سنوات. لم نفقد الأمل، لكن علاء مستمرّ في الإضراب عن الطعام لأنه أعلن عن مطلبين واضحين: انتداب قاضي تحقيقات مستقلّ للتحقيق في كل الشكاوى والبلاغات التي تقدمنا بها منذ اعتقاله في سبتمبر/أيلول 2019 وما تعرّض له من تعذيب واعتداء، فضلاً عن مطالبته، كمواطن بريطاني، بزيارة تجريها القنصلية البريطانية لمناقشة الإجراءات القانونية.
هل ثمة ما تغيّر بعد حصوله على الجنسية البريطانية؟
على الرغم من كم الاتصالات الحكومية التي قام بها الجانب البريطاني، إلا أن شيئاً لم يتغيّر في الواقع. عملية نقل علاء من سجن إلى آخر جرت بعد أكثر من أربعين يوماً على إضرابه عن الطعام. والقنصلية تحاول الحصول على إذن زيارة رسمية منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي، أي قبل خمسة أشهر، من دون جدوى. ومما دفعني للمجيء إلى لندن هو للقاء مسؤولين بريطانيين، بينما توجّهت أختي سناء إلى واشنطن حيث نُشر كتاب لعلاء حديثاً.
نحاول أن نحصل على المزيد من الاهتمام. كل هذه الجهود ساهمت في تحسين الوضع ولو قليلاً، ونقل علاء من السجن شديد الحراسة إلى سجن النطرون، لكننا لا نعرف بعد ما إذا كان سيحصل على بعض حقوقه، هو الذي سُجن ظلماً بسبب مشاركة "بوست" على "فيسبوك".
عملية نقل علاء من سجن إلى آخر جرت بعد أكثر من أربعين يوماً على إضرابه عن الطعام
صرّحتم في بيان عائلي أن الإضراب مختلف هذه المرة، لماذا؟
صحيح، مختلف تماماً. كان علاء يضرب عن الطعام فيما مضى لتحسين ظروف كانت أفضل من ظروفه الحالية. عاش علاء في سجن شديد الحراسة وضعاً لا يمتّ للقوانين بصلة، مثله مثل باقي السجناء هناك. كما أن مستوى العنف الذي تعرّض له وتعرضنا له كعائلة، من دون أي تدخل من السلطات، فاقم الإحساس بالظلم وبالإرهاق.
وعندما صدر الحكم بحق علاء في ديسمبر الماضي (بالسجن مدة خمس سنوات لإدانته بنشر أخبار كاذبة)، كان قد حصل على الجنسية البريطانية، أي خضع للمحاكمة كمواطن بريطاني. كانت لدينا تجربة سابقة في هذا الشأن، عندما صدر جواز أختي سناء البريطاني وكانت مسجونة في ذلك الحين، فسمحت السلطات على الفور بزيارة للقنصلية. علاء ينتظر منذ ديسمبر هذه الزيارة، لكن من دون جدوى.
هذا عدا عن أن علاء عاش معاناة مضاعفة في سجن شديد الحراسة، حيث كان ضابط الأمن الوطني الملقب بأحمد فكري، واسمه الحقيقي وليد الدهشان، يتلذذ بالتنكيل به وبباقي السجناء. حتى إنه كان يحضر في الزيارات النادرة التي تجمع علاء بابنه الوحيد خالد، ما دفع علاء للاستغناء عن تلك الزيارات، فكان جارحاً اللقاء بابنه البالغ من العمر عشر سنوات بحضور الشخص المشرف على تعذيبه وفي مكان تُرتكب فيه الانتهاكات بشكل فجّ وعلني.
تلك العوامل دفعت بعلاء إلى محاولة وضع حدّ لما يعيشه عبر إضرابه عن الطعام. أراد أن ينتهي من كل هذا العبث إما عبر الانهيار التام، أو عبر استجابة السلطات لمطالب رفع الظلم الواقع عليه منذ سنوات وتسليمه للبريطانيين. أراد علاء أن تنتهي علاقته بالسجن، وعلاقتنا بالسجن يجب أن تنتهي أيضاً مهما كان السبيل إلى ذلك. نحاول كعائلة أن نضمن خروج علاء من السجن بصحة جيدة.
بات علاء هزيلاً وضعيفاً، لكن ذهنه ما زال متّقداً
هل لديكم معلومات دقيقة عن وضعه الصحي اليوم بعد سبعة أسابيع من بداية الإضراب؟
جسدياً بات علاء هزيلاً وضعيفاً، لكن ذهنه ما زال متّقداً. من المفترض أن يجروا له فحصاً طبياً بعد أن نقل إلى السجن الجديد، وبالتالي سنعرف خلال أيام تفاصيل أوفى عن حالته الطبية. ما يقلقنا هو أن تدهور حالته قد يكون مفاجئاً بشكل كبير بعد أربعين أو خمسين يوماً على الإضراب عن الطعام. كما أننا نفتقر لمعلومات دقيقة عن صحته بشكل عام بعد أن أمضى سنتين بعيداً من الشمس، ومن دون ممارسة أي نوع من الرياضة، ما يؤثر على صحته بكل تأكيد. إلا أن الأمر الإيجابي هو أن علاء بات أفضل على الصعيد النفسي منذ بدئه الإضراب.
كعائلة، علاقتنا بالسجون طويلة جداً ومريرة. وفي سبتمبر/أيلول الماضي، تحدّث علاء للمرة الأولى عن الموت والانتحار. حتى عندما كان والدي في السجن، ثم على فراش الموت، لم يتّخذ علاء موقفاً بهذه الحدّية، وهو ما أرعبنا. عبر إضرابه عن الطعام، يشعر علاء أنه يقاوم وأنه يرشدنا وأنه يقود معركته بنفسه من دون استسلام للتعذيب النفسي والجسدي.
هل كان الإضراب قراراً جماعياً؟
عادة تكون القرارات هذه جماعية في عائلتنا. هذه المرة كان الأمر مختلفاً. نعرف أن علاء كان يفكر بالإضراب، لكننا تخيلنا أننا سنناقش الخطوة مع كل التعقيدات المحيطة بالزيارات والنقاشات. فمنذ جائحة كوفيد-19، باتت الزيارة الشهرية مسموحة فقط لشخص واحد ولا تتعدّى عشرين دقيقة. إضافة إلى أن عازلاً زجاجياً يفصل بيننا وبينه وتبادل الأحاديث يجرى عبر سماعة الهاتف. ومع ذلك، كنا نناقش هذه الأمور سابقاً. هذه المرة اتخذ علاء القرار بمفرده واكتفى بإبلاغنا بعد أن بدأ الإضراب.
أذكر أنني زرته في 5 إبريل/نيسان الماضي، وقال لي إنه بدأ إضرابه منذ اليوم الأول من شهر رمضان، أي في 2 إبريل، ولم أطلب منه التراجع عن قراره لأن دورنا يكمن في دعم معارك بعضنا البعض، حتى لو اختلفنا حول التوقيت والتكتيك. إلا أنني طلبت منه التريّث لاعتقادي بأن الاتصالات التي يقوم بها السفير البريطاني قد تسفر عن أمر ما.
كان لدى علاء بُعد نظر أكثر مني بكثير. فكان حاسماً في موقفه، هو الذي صبر أشهراً طويلة، وثمة سلطة بأكملها تخوض معركة على جسده وعقله. وهذا صحيح، فالدبلوماسية الناعمة بين إنكلترا ومصر لم تنجح حتى الآن في أن تُدخل إليه مجرّد كتاب! من حق الحكومة البريطانية، استناداً للقانون المصري والدولي والاتفاقات الدولية الملزمة لمصر، أن تزور مواطناً بريطانياً في السجن. الجانب المصري لم يرفض طلبهم، لكنه يماطل.
إصرار علاء على الإضراب وعلى أن نعلن عن حصوله على الجنسية وكل الإجراءات الرسمية التي نقوم بها، هو ما دفع القضية إلى مكان آخر، وهو ما دفع الناس إلى المساعدة والتضامن. كل ما أريده هو أن نستطيع إخراج علاء قبل أن يتدهور وضعه الصحي وقبل أن يفقد فرصة التعافي.
اتخذ علاء القرار بمفرده واكتفى بإبلاغنا بعد أن بدأ الإضراب
تتحدثين عن جهود تبذلها الحكومة البريطانية، ماذا عن وزيرة الخارجية ليز تراس؟ هل تمكنتم من الوصول إليها؟
ثمة تقصير من الجانب البريطاني. وأنا عندما تحدثت عن تواصل عالي المستوى، أردت إنصاف الفريق القنصلي في القاهرة الذي قدّم الكثير وفقاً لقدراته، لكن صلاحياته محدودة ولن يستطيع القيام بالمزيد من دون إرادة سياسية تقدمها الخارجية البريطانية للضغط أكثر والمطالبة بإطلاق سراح علاء فوراً.
المشكلة أننا لا نتحدث عن دولة لديها مشاكل مع دولة أخرى، بل عن بلدين حليفين، وبريطانيا هي أكبر مستثمر في مصر ولديهما علاقات دولية متينة. قبل يومين فقط، كانت وزيرة التعاون الدولي المصرية رانيا المشاط في بريطانيا للتحضير لقمة المناخ العالمية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. نتحدث إذاً عن دولتين وعن مصالح تجارية وسياسية مشتركة. لديّ أمل وزيارتي إلى لندن هي جزء من هذا الأمل.
آمل أن نشهد تحركاً كافياً وأن يلتفت المعنيون إلى خطورة الوضع. آخر المساعي في الوصول إلى وزيرة الخارجية تراس كان عبر إرسال رسالة موقّعة من عشرة أعضاء في البرلمان البريطاني و17 عضواً في مجلس اللوردات، تطالبها بالتحرك العاجل.
هل تمكن الاستفادة من قضية علاء المواطن المصري البريطاني لإنقاذ سجناء آخرين في السجون المصرية؟
الوضع في مصر سيئ جداً لدرجة غياب أي جهود أو إرادة سياسية جادة لدى نظام عبد الفتاح السيسي لإيجاد حلول لملف المعتقلين، وبالتالي تبقى المساعي الفردية هي السبيل الوحيد. لكن علاء أخي، ولم يعد الدفاع عن حقوق الإنسان خياراً بالنسبة لي، بل أجد نفسي مجبرة على العمل بشكل دائم للدفاع عن حقوق المعتقلين والتواصل مع أهاليهم. هويتي باتت أهالي المعتقلين. علاء وغيره من السجناء كالمرآة، يعكسون سوء الوضع القانوني والإنساني في مصر.
علاء محاط بعائلة نشيطة في هذا الملف، وثمة شبكة تدعمه من لجان حقوق الإنسان ولديه جنسية ثانية وحكومة ثانية تسانده، ومع ذلك، لم يحمه كل هذا من التعرّض لانتهاكات، ولم يحم عائلته من التعرّض للضرب أمام سجن طرة! أنا وأمي تعرّضنا للضرب أمام السجن وأختي سناء سجنت سنة ونصف فقط لأننا نحاول الاطمئنان على علاء. وكل هذا لم يؤمّن له أدنى الحقوق بغضّ النظر عما أدين من أجله. وبالتالي، ما هو حال المعتقلين الذين لا يملكون ما يملكه علاء من دعم واحتضان؟!
تعاملنا كعائلة مع سجون كثيرة، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يتعرّض فيها علاء للتعذيب
تعاملنا كعائلة مع سجون كثيرة، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يتعرّض فيها علاء للتعذيب. وهذا مؤشر على كيفية تعاملهم مع الآخرين الذين لا صوت لهم. الصحافي المستقل محمد أوكسجين حكم مع علاء في القضية نفسها، وهو منذ اعتقاله (عام 2018) لم يحظَ بزيارة عائلية، فحاول الانتحار. ولم تكن هذه محاولة الانتحار الأولى في السجن. هذا فضلاً عن حالات الوفيات المتزايدة بسبب الإهمال الطبي أو الإهمال المتعمّد.
أثناء وجود علاء في السجن، شهد على وفاة معتقلين اثنين، أحدهما أحمد صابر وكان في الأربعينات، وأذكر أننا قدمنا بلاغاً نيابة عن علاء بعد أن روى لنا كيف أن أحمد أصيب بالتعب منتصف النهار، فراح السجناء يطرقون باب الزنزانة من دون جدوى. وبعد خمس ساعات من الطرق المستمرّ، توفي أحمد. هذا المستوى المرعب هو الحالة العامة.
هل تتعرّضون لمضايقات من المحيط العام بسبب الخوف من قضيتكم؟
بالعكس، فاجأني تفاعل الناس معنا. نظام السيسي قرّر أننا كعائلة نمثل عدواً له لأننا نعبّر عن أفكارنا. ومقرّبون منا كانوا يتعرضون لمضايقات لمجرد معرفتهم بنا. لكنني أُفاجأ بأنه على الرغم من الخوف المخيّم على مصر وعلى المصريين، تصل إلينا كمية كبيرة من الدعوات والتضامن. في الشارع وفي المحال التجارية وفي المواصلات العامة يتعرفون إلينا ويتعاطفون، حتى وإن امتنعوا عن ذلك بشكل علني. ولولا هذا الاحتضان لما استطعنا تحمّل هذا الكمّ من العنف.