رغم انتهاء عملية سيف القدس العسكرية إلا أن معركة المدينة نفسها بين أهلها والغزاة الغرباء لا تزال مستمرة. وتاريخياً كانت قد انطلقت منذ قرون طويلة ثم تجددت مع الاحتلال الإسرائيلي لها إثر نكبة حزيران/ يونيو 1967 وتأججت في السنوات الأخيرة إثر قرار الرئيس الأميركي المنصرف دونالد ترامب الاعتراف بها عاصمة لإسرائيل، واحتدمت في شهر رمضان الكريم مع هبّات الأقصى وباب العامود وحي الشيخ جراح الذي يتعرض أهله لتهجير قسري عنصري حسب توصيف الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية.
بالعودة إلى الفصل الأخير وليس الآخر لمعركة القدس فقد كنا نعرف جميعاً أن عملية سيفها التي أطلقتها المقاومة من غزة ردّاً على اعتداءات وممارسات الاحتلال الإسرائيلي في المدينة لن تنتهي أو تُحسم معركتها، وأعتقد أن رئيس أركان حركة حماس محمد الضيف "أبو خالد" نفسه يعي هذه الحقيقة، لكن عَزّ عليه وعلى المقاومة بشكل عام عدم تلبية نداء واستغاثة المقدسيين لنجدتهم. وصحيح أن التضحيات والأثمان الباهظة التي قدّمها أهل غزة ومقاومتها خلال العملية، والتي تضمنت مئات الشهداء وآلاف الجرحى ومليارات الدولارات لم تنه أو تَحسم المعركة في القدس، إلا أنها رفعت الروح المعنوية للمقدسيين وأشعرتهم أنهم فعلاً ليسوا وحدهم في الميدان، ناهيك عن تحقيق العملية أهدافا أخرى مهمة وذات طابع استراتيجي من قبيل استعادة وحدة الشعب الفلسطيني وتجاوز الانقسامات السياسية والحغرافية وتحديداً منذ انطلاق اتفاق أوسلو في تسعينيات القرن الماضي، إضافة إلى دحر العدوان ومنعه من تحقيق أهدافه أو فرض الاستسلام على المقاومة. وفي السياق إعادة الاعتبار لخيار المقاومة المسلّحة والتأكيد على إمكانية هزيمة إسرائيل عسكرياً، كما إعادة القضية الفلسطينية إلى محور الاهتمام ككل بعدما أهملت وأزيحت عن جدول الأعمال الإقليمي والدولي، وهي كلها مكاسب معنوية ومادية مهمة لمعركة المقدسيين المستمرة دفاعاً عن أنفسهم ومدينتهم وحقوقهم متعددة المستويات فيها.
إذن معركة القدس مستمرة، وهي لن تحلّ عسكرياً أقله في المدى المنظور، غير أن الصمود فيها يبدو في متناول اليد - إلى حين الانتصار- عبر اعتماد خيار المقاومة الشاملة متعددة المستويات والأشكال، وعدم ترك المقدسيين وحدهم فيها، وإنما انخراط كافة فئات الشعب الفلسطيني إلى جانبهم، كما رأينا فعلاً خلال الشهر الأخير الذي شهد هبّات الأقصى وباب العامود والشيخ جراح.
بتفصيل أكثر، لا بد من خوض معركة القدس ميدانياً وبشكل مستمر عبر مقاومة شعبية عنيدة ومصممة، واشتباك يومي مع جيش الاحتلال لمنعه من فرض أجندته وإرادته على المقدسيين وهؤلاء يجب ألّا يتركوا وحدهم بأي حال من الأحوال – ولا حتى يشعروا نفسياً أنهم كذلك – ذلك يتحقق عبر الانخراط الدائم معهم في اعتصاماتهم ونضالاتهم اليومية، وتحديداً من إخوانهم في الضفة الغربية، كما أهلنا في الأراضى المحتلة عام 1948 الذين أثبتوا خلال الشهر الماضي ليس فقط ذاكرتهم وهويتهم الوطنية، وإنما كونهم جزءاً أساسيا وجوهريا في المعركة ضد المشروع الاستعمارى الصهيوني في فلسطين ككل، مع اعتبار المعركة في القدس عنوانا أو رمزا للاشتباك المصمم والصلب مع هذا المشروع.
بموازاة ذلك تدار المعركة سياسياً عبر التأكيد على كون المدينة محتلة، وأن إسرائيل لا تملك أي شرعية لحسم مصيرها أو فرض إرادتها أو خلق الوقائع فيها بالقوة الجبرية المسلحة، وهي جزء من الأراضي المحتلة في حزيران/ يونيو 1967 وعاصمة للدولة الفلسطينية المستقبلية، كما يجمع العالم كله تقريباً.
يفترض أن تدار المعركة إعلامياً أيضاً عبر انخراط فلسطيني واسع فيها من كافة فئات المجتمع الفلسطيني في أماكن تواجده المختلفة تحديداً في الشتات - الذي همشته القيادة الفلسطينية واستعاد حضوره ودوره الفترة الماضية رغماً عنها - وحشد الدعم العربي والإسلامي والدولي الواسع لها أيضاً، وعرض ما يتعرض له المقدسيون من جرائم وتمييز عنصري، ونقل ذلك للعالم كله عبر وسائل الإعلام المختلفة بقديمها وجديدها كما جرى فعلاً خلال هبّات المدينة الثلاث خلال الشهر الماضي.
لا بد أن تخاض المعركة قضائياً وقانونياً أيضاً عبر استنفاد كافة الخطوات والإجراءات القانونية ليس فقط أمام محاكم الاحتلال، وإنما أمام المحاكم الدولية. هنا يجب تذكر فتوى محكمة العدل الدولية-2004- باعتبار أن كل ما تفعله إسرائيل في الأراضي المحتلة في حزيران/ يونيو 1967 بما فيها القدس طبعاً، باطل وغير شرعي، كما قرار مجلس الأمن رقم2334-2016- الذي جرّم الاستيطان في تلك المناطق، مع الإشارة إلى القرار المتأخر للسلطة الفلسطينية بنقل ملف حي الشيخ جراح - يفترض أن يتم تعميم الأمر على سلوان وما تفعله إسرائيل في المدينة بشكل عام - إلى المحكمة الجنائية الدولية ومتابعة ذلك بشكل دؤوب عبر جهد وطني عام تنخرط فيه مؤسسات متعددة أيضاً، وتتم الاستفادة فيه من قدرات وإمكانات الفلسطينيين والعرب والمسلمين والمتعاطفين في أماكن تواجدهم المختلفة.
لا يقل أهمية عما سبق الاهتمام بالجانب الاقتصادي للمعركة، أيضاً لدعم صمود المقدسيين في مناحي الحياة المختلفة التعليمية والصحية والتجارية والخدماتية. هذا أمر جدّ جوهري وللأسف يبدو أحياناً أنه غائب عن التضامن مع المقدسيين الذين تعرضوا للتنكيل والتضييق من قبل الاحتلال خلال عقود، وزادت الظروف سوءا في ظل تبعات وتداعيات جائحة كورونا ولا ينبغي ترك الأمر لمساعدة خبيثة للمطبّعين العرب تسعى أيضاً إلى خداع المقدسيين والالتفاف على نضالهم وتركيعهم سياسياً وإجبارهم على قبول الأمر الواقع الذي يفرضه الاحتلال.
هذا كله يحتاج بالضرورة إلى قيادة فلسطينية موحدة ليس فقط للمقاومة الشعبية، وإنما لمعركة القدس والقضية الفلسطينية بشكل عام. وهنا نعود إلى واحدة من أهم دلالات هبّات القدس الثلاث وعملية سيفها العسكرية المتمثلة بعجز القيادة الحالية عن القيام بواجباتها وضرورة استبدالها بقيادة جديدة يجب أن تكون شابة منتخبة خالية من الاستبداد والفساد، ولا بأس من التذكير أيضاً بهروب القيادة الحالية من الانتخابات التشريعية والرئاسية وتأجيلها إلى أجل غير مسمى بحجة عدم موافقة الاحتلال على إجرائها في القدس، ما يعطي فيتو للاحتلال على حقوقنا ومصالحنا الوطنية، كما يتجاهل كل ما فعله المقدسيون خلال الشهر الأخير تحديداً لجهة التصويت اليومي الصاخب لصالح مواطنيتهم الفلسطينية ورفض ممارسات الاحتلال وجرائمه، وفرض إرادتهم كأصحاب المدينة وأهلها الأصليين في دلالة واضحة على إمكانية بل حتمية الانتصار في معركة القدس باعتبارها عنوانا واختزالا لمعركة فلسطين بشكل عام.