مظلة الردع النووي الأوروبي: التخوّف من التخلي الأميركي

22 اغسطس 2024
تدريبات عسكرية على استخدام أسلحة نووية، تولوز، 11 فبراير 2018 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **الشك الفرنسي في الحليف الأمريكي**: يعود الشك الفرنسي في التزام أمريكا بالدفاع عن أوروبا إلى عام 1961، ويتجدد اليوم وسط التوترات مع روسيا بعد غزو أوكرانيا، مما يدفع الأوروبيين للبحث عن "مظلة ردع نووي" خاصة بهم.

- **التفاوت النووي بين القوى العالمية وأوروبا**: تمتلك روسيا وأمريكا أكبر ترسانات نووية، بينما تمتلك أوروبا 545 رأساً فقط، مما يثير قلق الأوروبيين خاصة بعد انسحاب روسيا من معاهدة "نيو ستارت".

- **التحركات الأوروبية نحو تعزيز الردع النووي**: تسعى فرنسا وبريطانيا لتحديث قدراتهما النووية، وألمانيا تتجه نحو قبول تقاسم التكاليف المالية لتأمين مظلة ردع نووية أوروبية، رغم التحديات في تحقيق توافق داخل الاتحاد الأوروبي.

عام 1961، وخلال ذروة الحرب الباردة، طرح الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول سؤالاً على نظيره الأميركي جون كينيدي: "هل أنت مستعد للتضحية بنيويورك لأجل باريس إذا وقع هجوم نووي سوفييتي عليها؟". بحسب البعض في أوروبا فإن الشك الفرنسي القديم حيال استعداد الحليف الأميركي للدفاع عن بلدهم يُعتبر حجر زاوية البرنامج النووي العسكري الفرنسي. ووفقاً لباحثين وخبراء أوروبيين، فإن الشك يعود مجدداً حيال الردع النووي الأوروبي وسط السجال الحالي حول العلاقة بين دول أوروبا والولايات المتحدة، لا سيما في ظل الغزو الروسي لأوكرانيا، والبحث عن "مظلة ردع نووي" لقارتهم.

وبغض النظر عمن سيحكم البيت الأبيض، أكان المرشّح الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترامب أم مرشحة الحزب الديمقراطي، ونائبة الرئيس الأميركي، كامالا هاريس، فإن التأخر الأوروبي النووي، يفرض نفسه على نقاشات القارة بشأن تسلحها المستقبلي، وردع روسيا تحديداً. ومع أن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، ينس ستولتنبرغ، وجّه على هامش اجتماع وزراء الدفاع لدول الحلف، في يونيو/حزيران الماضي، بصورة غير اعتيادية، رسالة مفادها أن ترسانة الحلف النووية "جاهزة إذا لزم الأمر"، معتبراً أنها "وسيلة الردع النهائية"، إلا أن ذلك لا يبدو كافياً للقارة التي تواجه بصورة متزايدة تهديدات نووية من قبل موسكو.

وقد زادت روسيا من منسوب قلق أوروبا بعد إعلانها، العام الماضي، نشر أسلحة نووية في بيلاروسيا، وسط مواصلة تحديث أسلحتها والصواريخ العابرة للقارات القادرة على حملها. ويدرك ستولتنبرغ أن الاتحاد الأوروبي، باستثناء بريطانيا النووية بعد الخروج من الاتحاد، يعتمد بصورة رئيسية على الحليف الأميركي، الذي ينشر رؤوساً حربية نووية في بعض دوله، وسط ضبابية سياسات باريس النووية لناحية تضحيتها من أجل دول المعسكر الأوروبي، مثل دول البلطيق وإسكندنافيا.

علماً أن الترسانات النووية في العالم وصلت إلى أكثر من 60 ألف رأس حربي في عام 1986، حسبما تظهر الأرقام الواردة في موقع عالمنا. ومنذ ذلك الحين، حدث انخفاض ملحوظ في عدد الرؤوس الحربية النووية، إذ انخفض إلى أقل من 20 ألف رأس في العقد الأول من القرن الـ21. لكن تباطأ بعد ذلك اتجاه نزع السلاح النووي، ولا يزال العدد الإجمالي اليوم نحو 12 ألف رأس حربي، حتى أن بعض الدول وسّعت ترسانتها. وتتوزع رؤوس تلك الأسلحة، استراتيجية وتكتيكية ومنشورة وغير منشورة، على تسع دول نووية، على رأسها كل من روسيا بنحو 5580 رأساً نووياً، وأميركا بنحو 5044، ثم الصين 500 وفرنسا 290 وبريطانيا 255 وباكستان 170 والهند 170 وإسرائيل 90 وكوريا الشمالية 50.

ويطرح الأوروبيون، الذين يعرفون تخلّفهم بنحو ألف رأس نووي، في الاتفاقية الاستراتيجية الجديدة لخفض التسلح عام 2010 (نيو ستارت)، والساعية لحصر الرؤوس الحربية عند حد أقصى بـ1550 رأساً لدى أميركا وروسيا وأوروبا، معضلة أن روسيا تتربع على العرش النووي بنحو 5580 رأساً نووياً حربياً. بالمقابل تمتلك الولايات المتحدة 5044 رأساً نووياً، فيما تمتلك أوروبا كلها، أي بالسلاحين النوويين الفرنسي والبريطاني 545 رأساً حربياً فقط، وفق تقديرات اتحاد علماء البحث الأميركيين (أف إي أس).

سد ثغرات الردع النووي الأوروبي

يبدو أن انسحاب روسيا في فبراير/شباط 2023 من معاهدة 2010، وبالتزامن مع إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في يونيو/حزيران الماضي، أن بلاده ستوسع قدراتها النووية للحفاظ على توازن القوى العالمية، يُعجل النقاشات الأوروبية حول كيفية جسر الهوة واللحاق بسباق التسلح، وسد ثغرات الردع النووي الأوروبي. فأوروبا تعيش اليوم مرحلة شك عميق في قدرتها تلك، وفقاً لكبير باحثي مركز ثينك تانك أوروبا (Think Tank EUROPA)، ياكوب كورسبو.

ياكوب كورسبو: فرنسا وبريطانيا تسابقان الزمن لتحديث قدرتهما على امتلاك غواصات نووية

ويشير كورسبو، وهو خبير بمجال سباق التسلح النووي، لـ "العربي الجديد"، إلى أن "أوروبا دخلت الآن في مناقشة معضلة وسائل مواجهتها سيناريوهات تزايد التوتر النووي مع روسيا، واحتمالية استخدامها قنابل نووية تكتيكية في الحرب الأوكرانية". ويضيف أنه "على الرغم من أن ناتو أرسل رسالة واضحة أنه سيرد بحال استخدمت موسكو قنابل نووية تكتيكية، بأسلحة تقليدية مدمرة داخل روسيا، إلا أن أوروبا باتت على قناعة بحاجتها لسياسات خلق مظلة ردع يكون فيه النووي التكتيكي والاستراتيجي جزءاً منها". ومن بين السيناريوهات التي يقدمها كورسبو في سياق الردع النووي الأوروبي أن "تتغلب أوروبا على عجزها في وسائل إيصال وقصف الرؤوس النووية الحربية لأهدافها، والتي تشمل القنابل التكتيكية، إذ لا تساوي قدرة إيصالها اليوم أكثر من 20%". ويلفت إلى أن "كلاً من فرنسا وبريطانيا تسابقان الزمن لتحديث قدرتهما على امتلاك غواصات نووية".

ويشير باحثون أوروبيون، وبينهم كورسبو، إلى أن القارة ظلت طيلة العقود التالية للحرب الباردة تنظر إلى سباق التسلح "نظرة ساذجة وغير واقعية، ما خلق هذا الاعتماد على حليف الضفة الأخرى من الأطلسي، واشنطن". وبحسب كورسبو فإن الأمر لم يعد يتعلق بما إذا كان ترامب سيعود إلى البيت الأبيض أم أن هاريس ستفوز "فأوروبا مضطرة إلى أن تفكر استراتيجياً، إذ سنكون بعد أربع سنوات من الانتخابات المقبلة (نوفمبر/ تشرين الثاني) مع انتخابات أخرى، ولا شيء مضمونا في الاستراتيجيات الأميركية المقبلة، التي توجه أنظارها أكثر نحو الصين".

قضايا وناس
التحديثات الحية

ويوضح أن مسألة الانعزالية الأميركية تتزايد في المجتمع الأميركي ولدى نخبه، وهو ما يفرض على الأوروبيين "وضع كل الاحتمالات على الطاولة إذا ما أرادوا بالفعل الحفاظ على قوة ردع بوجه موسكو". في غضون ذلك تتعالى الأصوات الداعية إلى ضرورة عودة فرنسا إلى التدريبات النووية الأوروبية على مستوى حلف شمال الأطلسي. وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد كرر تمسكه بالعقيدة النووية الفرنسية القائلة إن سلاحها النووي هو لردع التعرض لمصالحها القومية من أي طرف، وإنه سلاح يملك أبعاداً أوروبية.

تقاسم الكلفة المالية

ومن بين السيناريوهات المطروحة على طاولة المناقشة الأوروبية يأتي سيناريو جعل القوة النووية جنباً إلى جنب مع القوة العسكرية التقليدية "ليشكلا معاً حالة ردع" بأبعاد أوروبية. يتطلب ذلك بالطبع، وفق كورسبو، فتح أوروبا خزائنها المالية لجذب النووي الفرنسي والبريطاني ليشكلا مظلة الردع النووي الأوروبي. وحتى بدايات 2030 ستكون الغواصات النووية البريطانية في حالة عمليات، وبتكلفة مالية تقدر بنحو 41 مليار جنيه إسترليني (53.38 مليار دولار)، بحسب الأرقام الرسمية على موقع البرلمان البريطاني. ويقدر الاستثمار الفرنسي لتحديث التسلح النووي وعمليات إطلاقه من غواصات حديثة، بنحو 10 مليارات يورو (11.12 مليار دولار)، أو حوالي 10 إلى 11% من موازنة الدفاع.

ويبدو أن كواليس النقاشات الأوروبية، أو على الأقل بين "الدول الراغبة"، أصبحت تضع على الطاولة سيناريو تحمّل التكلفة المالية لتأمين مظلة ردع نووية فرنسية-بريطانية للقارة الأوروبية، لتعزيز الردع النووي الأوروبي. ويلفت كورسبو إلى أن "ألمانيا صارت أكثر ميلاً لقبول تقاسم التكاليف المالية". وتذهب تصريحات الساسة الألمان، إلى السياق نفسه، مظهرين دعمهم لهذا التوجّه، وهو ما عبر عنه، صيف العام الحالي، وزير ماليتها الليبرالي كريستيان ليندنر، في مقال بصحيفة فرانكفورتر ألغيماينه. وشدد ليندنر على ضرورة فتح حوار استراتيجي مع القوتين النوويتين في أوروبا، بريطانيا وفرنسا، لخلق مظلة ردع نووي.

ألمانيا متجهة بخطوات متسارعة نحو إلغاء تابو مناقشة التسلح النووي

وعليه، تبدو ألمانيا متجهة بخطوات متسارعة نحو إلغاء تابو مناقشة التسلح النووي، وهي بالطبع تملك القدرات والمؤهلات لتصنيعه، لكن الدستور والقانون يمنعانها من إنتاج الأسلحة النووية، على الرغم من قبولها نصب بعض الرؤوس النووية الأميركية على أراضيها، فيما تعبّر بعض نخبها عن رغبة في إحالة الردع النووي إلى سياسات أوروبية مشتركة. ويبرز بينهم وزيرا الخارجية السابقان زيغمار غابرييل ويوشكا فيشر، وكلاهما يعتقد أن أوروبا يجب أن تمتلك ترسانة ردع نووي إلى جانب التقليدي.

وتذهب عضو البرلمان الأوروبي كاتارينا بارلي، الشخصية البارزة في حزب المستشار الألماني أولاف شولتز، "الاجتماعي الديمقراطي"، إلى اعتبار أن المرحلة المقبلة ذاهبة نحو مناقشة السلاح النووي و"تأسيس الجيش الأوروبي المشترك"، واعتبارها أن عودة ترامب إلى البيت الأبيض وسياسات أميركا المستقبلية تستوجب مناقشة البدائل والتحديات. وفي غمرة هذا السجال دعت بارلي، وفقاً لما نقلت عنها في فبراير/شباط الماضي مجلة دير شبيغل الألمانية، إلى التخلص التام من سياسات العقود الثلاثة الماضية، وضرورة أخذ تهديدات روسيا على محمل الجد.

يأتي ذلك، وغيره على مستوى ألمانيا، وسط تغير ملحوظ في نظرة الشارع الألماني للسلاح النووي، أن يوافق نحو 52% على نشره فوق أراضيهم، بينما لم تتجاوز النسبة قبل عامين 14%، (وفق استطلاع رأي لمؤتمر ميونخ للأمن عام 2022). في كل الأحوال، وبغض النظر عن واقعية تحقيق "مظلة ردع نووي" في أوروبا، فإن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها عند الخبراء وصنّاع القرار تتمثل في التغير الكبير الذي أحدثته الحرب الأوكرانية على المزاج العام، المتجه تدريجياً نحو القبول بسباق تسلح غير تقليدي، بحجة الردع. ومع ذلك، يبقى غياب التوافق في الاتحاد الأوروبي على تبني تلك السياسات على المديين المتوسط والبعيد، أحد معوقات نقل النقاشات والسجالات مسألة الردع النووي الأوروبي وأهمية القضية النووية، إلى مرحلة سياسات مشتركة بين كل دوله، وذلك بمعزل عن نتائج الانتخابات الأميركية المقبلة.

المساهمون