تدل التطورات الأخيرة على أن فرص التوصل إلى تهدئة طويلة الأمد بين الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة وإسرائيل، تضمن توفير ظروف تسمح بإحداث تحوّل إيجابي كبير على الأوضاع الاقتصادية في القطاع، لم تكن في يوم من الأيام أكبر مما هي عليه الآن. ويبدو الحرص الإسرائيلي على إنجاح الجهود التي تبذلها كل من مصر والأمم المتحدة، والهادفة للتوصل إلى هذه التهدئة، واضحاً. فعلى الرغم من أن المستوى السياسي والمؤسسة الأمنية في تل أبيب يواظبان على تحميل نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، صالح العاروري، المسؤولية المباشرة عن العمليات التي تخطط لها حماس أو تنفذها في الضفة الغربية، إلا أن هذا لم يحلْ دون سماح الحكومة الإسرائيلية للعاروري بالوصول إلى قطاع غزة للمشاركة في المشاورات التي تجريها قيادة الحركة بشأن المقترحات المقدمة من مدير الاستخبارات العامة المصرية، عباس كامل، ومبعوث الأمم المتحدة للمنطقة، نيكولا ملادينوف، بشأن التهدئة.
ليس هذا فحسب، بل إن إسرائيل تخشى أن تفضي مواجهة مع المقاومة إلى اضطرارها إلى إسقاط حكم حركة حماس، مما يعني إما تورّطها في الوحل الغزي لأمد طويل، مع كل ما ينطوي عليه ذلك من كلفة سياسية وأمنية واقتصادية، أو الانسحاب من قطاع غزة وترك حالة من الفوضى تفاقم الأوضاع الأمنية سوءاً في جنوب فلسطين المحتلة. ويتضح أن كلا من مصر والأمم المتحدة ستركزان على إحراز التهدئة بين إسرائيل والمقاومة، وبدرجة أقل على تطبيق اتفاق المصالحة بين حركتي فتح وحماس، وذلك في ظل الطريق المسدود التي انتهت إليه الجهود المصرية الهادفة إلى إقناع "فتح" بقبول الورقة التي أعدتها القاهرة بشأن شروط تطبيق هذا الاتفاق.
من هنا، فإنه على الرغم من أن قيادات الخارج والداخل في حماس ستبحث في اجتماعاتها في غزة أيضاً ردود حركة "فتح" على الورقة المصرية، إلا أن كل المؤشرات تدل على أنه في ظل تشبث "فتح" بالشروط التي وضعتها، لا سيما في كل ما يتعلق بـ"تمكين" حكومة رام الله من إدارة قطاع غزة، واستمرار الخلاف بين الجانبين بشأن مستقبل أوضاع منتسبي أجهزة حكومة غزة الأمنية، فإن حماس ستركز بشكل أساسي على التوصل إلى التهدئة مع إسرائيل.
وعلى الرغم من أن كل الأطراف ذات العلاقة بالجهود الهادفة للتوصل إلى التهدئة تتكتم على مركبات الخطة الهادفة إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية والإنسانية، والتي يفترض أن يشملها اتفاق التهدئة غير المباشر بين المقاومة والاحتلال، إلا أن كل المؤشرات تدل على أن هذه الخطة تقوم على المقترحات التي بلورها ملادينوف، والتي تتضمن تدشين مشاريع بنى تحتية وإعادة إعمار، تهدف إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية والإنسانية وتضمن في الوقت ذاته توفير فرص عمل جديدة إلى جانب حل مشكلة موظفي حكومة غزة التي ترفض السلطة الاعتراف بهم، ومعالجة تبعات قرار رئيس السلطة محمود عباس تقليص رواتب موظفي حكومة رام الله في غزة بنسبة 50 في المائة.
وكشفت مصادر مطلعة لـ "العربي الجديد"، أن "ملادينوف نجح حتى الآن في جمع 650 مليون دولار لتنفيذ مشاريع بنى تحتية عدة تهدف إلى تحسين الأوضاع في القطاع، وقد تعهّد بمواصلة تحركاته بهدف جمع مليار دولار لتنفيذ هذه المشاريع". أما فيما يتعلق برواتب الموظفين، فإنه في حال لم يحدث تحوّل على موقف قيادة السلطة، فإن الأطراف ذات العلاقة بالجهود الهادفة للتوصل إلى التهدئة لا تستبعد أن يتم اقتطاع "حصة" غزة من عوائد الضرائب التي تجبيها إسرائيل لصالح السلطة، والتي تسمح بدفع الرواتب وتوفير الموازنات التشغيلية للوزارات والمؤسسات الحكومية المختلفة في القطاع.
لكن على الرغم من أن تدهور الأوضاع الاقتصادية ومواقف قيادة السلطة المتشددة تقلص هامش المناورة أمام المقاومة وتدفعها إلى التجاوب مع الجهود المصرية والأممية بمعزل عن إشراك السلطة، فإن هذا التحرك ينطوي على مخاطر. ففي حال لم يتم إبقاء الباب مفتوحاً لناحية إشراك السلطة في الجهود الهادفة إلى إعادة إعمار القطاع وتحسين أوضاعه الاقتصادية والإنسانية، فإن قيادة هذه السلطة يمكن أن ترد بسلسلة من العقوبات الجديدة التي قد تقلص من تأثير مشاريع إعادة الإعمار، وإسهامها في إحداث تحوّل على الواقع المعيشي في القطاع.
إلى جانب ذلك، فإن تاريخ اتفاقات التهدئة الطويل بين المقاومة وإسرائيل يدل على أن تل أبيب يمكنها ببساطة الإخلال بالتزاماتها، لا سيما وأن التجربة تدل على أن الوسيط المصري لا يوظف أوراق الضغط التي يملكها لدى تل أبيب في محاولة إجبارها على الوفاء بتعهداتها التي تضمنتها الاتفاقات التي رعاها النظام المصري نفسه. وحتى لو لم تتحقق هذه المخاوف، فإن التوصل إلى تهدئة من دون إشراك السلطة الفلسطينية يعني عملياً تكريس الفصل السياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة.
من ناحية ثانية، فإن نجاح تطبيق التهدئة سيُفضي إلى المسّ بمكانة قيادة السلطة الفلسطينية، وإلحاق ضرر كبير بمكانتها التمثيلية، لا سيما في ظل الخلافات الكبيرة التي تفجرت أخيراً بين عباس وفصائل منظمة التحرير الرئيسية، تحديداً الجبهتين الشعبية والديموقراطية.