عادت مذبحة ارتكبها تنظيم "داعش" بحق المئات من أبناء ريف دير الزور الشرقي، منتصف 2014، إلى واجهة الحدث السوري، مع اكتشاف مقبرة جماعية جديدة، تضم جثث عدد من أفراد عشيرة الشعيطات. وكانت العشيرة حاولت الوقوف في وجه التنظيم الذي صعد في ذاك العام بشكل دراماتيكي، بحيث فرض سيطرة كاملة على نحو نصف مساحة سورية، وارتكب العديد من المجازر، التي تتكشف تباعاً بعد عام ونصف العام من إعلان القضاء عليه في شرق سورية.
وانتشلت فرق، الثلاثاء الماضي، 26 جثة من مقبرة جماعية في بلدة جمة بريف دير الزور الشرقي لعدد من أفراد عشيرة الشعيطات قتلهم "داعش" منتصف 2014. وأشار الناشط أبو محمد الجزراوي، لـ"العربي الجديد"، إلى أن من قام بعملية استخراج الجثث فريق يتبع لما يسمى "جمعية شهداء الشعيطات"، والتي تعمل على كشف مصير المفقودين من أبناء العشيرة على يد التنظيم.
ليست المرة الأولى التي تُكتشف فيها مقابر جماعية لقتلى التنظيم في ريف دير الزور الشرقي
وهذه ليست المرة الأولى التي تُكتشف فيها مقابر جماعية لقتلى التنظيم في ريف دير الزور الشرقي، حيث سبق أن وجد أهالي المنطقة مقبرة تضم نحو 50 جثة مقطوعة الرؤوس. وتعد المذبحة، التي عُرفت لاحقاً بـ"مذبحة الشعيطات"، من أكثر المجازر حضوراً في ذاكرة أبناء المنطقة الشرقية من البلاد، نظراً للعدد الكبير من القتلى بين أبناء هذه العشيرة التي تنتمي إلى قبيلة العقيدات. وتنتشر الشعيطات في 3 بلدات في ريف دير الزور الشرقي شمال نهر الفرات، وهي غرانيج، وأبو حمام، والكشكية، والتي باتت حالياً تحت سيطرة "قوات سورية الديمقراطية" (قسد). وخرجت هذه البلدات مبكراً عن سيطرة النظام، حيث انتشرت فيها فصائل "الجيش السوري الحر" في 2012، وهو العام الذي شهد بداية تراجع قوات النظام أمام فصائل المعارضة السورية.
ولكن عام 2014، شهد صعوداً دراماتيكياً لتنظيم "داعش"، الذي خاض معارك ضارية في ريف دير الزور الشرقي، نجح بعدها في إخضاع هذا الريف الغني بالبترول، حيث يضم واحداً من كبريات حقول النفط في سورية، وهو "العمر". وانسحبت فصائل "الجيش الحر" من محافظتي الرقة ودير الزور وريف الحسكة الجنوبي باتجاهات مختلفة، بينما اختار عدد من مقاتلي هذا "الجيش" البقاء في مناطقهم معتمدين على "أمان" منحهم التنظيم إياه.
ووفق شهادات متقاطعة، نشرت في عدة وسائل إعلام، فقد انتفضت بلدات في ريف دير الزور الشرقي إثر قيام عناصر من التنظيم بقتل أحد أبناء بلدة أبو حمام. واستطاع أهالي المنطقة إخراج عناصر "داعش" من عدة بلدات، قبل أن يتبع الأخير سياسة الإبادة الجماعية، حيث استقدم قوات كبيرة وأسلحة نوعية لإخضاع المنطقة. وفي التاسع من أغسطس/آب 2014 سيطر "داعش" على البلدات، لتبدأ عمليات إعدام جماعي بحق أفراد عشيرة الشعيطات، عقب فتوى من القيادي في التنظيم "أبو عبد الله الكويتي" بقتل رجال وشباب العشيرة. ولاحقاً أعدم التنظيم الكويتي بتهمة العمالة لأميركا.
لا يوجد عدد دقيق للقتلى والمختفين في مذبحة عشيرة الشعيطات
ولاحق التنظيم أبناء عشيرة الشعيطات في كل أماكن سيطرته اعتقالاً وتصفية، وهو ما يجعل تحديد عدد القتلى والمفقودين بشكل دقيق غير ممكن. وأوضح مدير مركز "الشرق نيوز" فراس علاوي، لـ"العربي الجديد"، أنه "لا يوجد عدد دقيق للقتلى والمختفين في مذبحة عشيرة الشعيطات"، مضيفاً أن عدد القتلى يتراوح ما بين 700 و900 شخص. وأشار إلى أن المقبرة المكتشفة "تضم جثثاً لأشخاص مدنيين قتلوا على يد تنظيم داعش"، موضحاً أن الأخير كان ينقل جثث قتلاه بين مناطق سيطرته، وأن بعض الجثث تعود لعراقيين تمت تصفيتهم في سورية. وقال إن هناك جثثا في كل المناطق التي كان يسيطر عليها التنظيم تقريباً.
وأشار علاوي، وهو من أبناء ريف دير الزور الشرقي، إلى أن التنظيم تعامل "بقوة مفرطة" مع هذا الريف لـ"إيصال رسالة لباقي المناطق، وبالفعل نجح في ذلك". وأوضح أن التنظيم ليس الطرف الوحيد الذي ارتكب مجازر بحق السوريين، مضيفاً أن الخاسر الأكبر في هذه الحرب هم المدنيون على كافة المستويات، وهذه المجازر تسببت في مشاكل قد تمتد طويلاً في عمق المجتمع السوري، الذي يحتاج إلى عمل طويل من أجل بناء عقد اجتماعي جديد بين مكوناته.
وتأتي دير الزور في مقدمة المحافظات السورية التي تعرضت لمجازر من مختلف أطراف الصراع، خصوصاً النظام وتنظيم "داعش"، ومن المليشيات الإيرانية التي تسيطر على قسم كبير من ريف المحافظة جنوب نهر الفرات، وتحاول تغيير هويته. ومنذ أكثر من شهر مرت ذكرى المجزرة التي ارتكبتها قوات النظام في حيي الجورة والقصور في مدينة دير الزور، حيث اقتحمت هذه القوات، صباح 25 سبتمبر/أيلول 2012، الحيين وقتلت أكثر من 400 مدني بالرصاص أو ذبحاً بالسكاكين، أو حتى حرقاً، حيث أبيدت عائلات بأكملها، وفق شهادات ناجين منشورة في وسائل الإعلام، أكدت أن مصير العشرات مجهول حتى اللحظة. وتصف منظمة "عدالة من أجل الحياة"، وهي منظمة سورية تعمل على توثيق الانتهاكات، مجزرتي الجورة والقصور بـ"المذبحة المنسية". ونقلت عن أحد الشهود تأكيده أن "بعض الجثث كانت متفحمة تماماً ولم نستطع التعرف على أصحابها"، بينما أكد آخر أن قوات النظام حجزت عمال أحد الأفران في المنطقة في أحد المنازل، ثم أحرقتهم جميعاً.
وتعد دير الزور ثاني أكبر المحافظات السورية لجهة المساحة (33 ألف كيلومتر مربع)، وهي اليوم موزعة ما بين "قسد"، التي تسيطر على ريفها الواقع شمال نهر الفرات في المنطقة التي تُعرف بشرق الفرات". وتسيطر قوات النظام ومليشيات إيرانية ومحلية على مدينة دير الزور مركز المحافظة وريفها الغربي وبعض باديتها مترامية الأطراف. وتتحكم المليشيات الإيرانية بالجانب الأكبر من ريفها الشرقي، خصوصاً الممتد من الميادين إلى البوكمال، حيث بدأت أخيراً بارتكاب مجزرة من نوع آخر، وهي تغيير وجه المنطقة طائفياً.