حين أغلق الاحتلال قبل أيام المدخل الرئيسي لبلدة عناتا من ناحيتها الشمالية، بالتوازي مع إغلاق الحاجز الرئيسي الآخر الذي يشكل مدخلها الغربي الوحيد إلى القدس، كان متوقعاً أنّ يؤدي حصار هذين المدخلين لأكثر التجمعات الفلسطينية ازدحاماً في القدس وإغلاقهما، إلى معاناة نحو 150 ألف نسمة يقطنون عناتا ومخيمها اللصيق بها المعروف بمخيم شعفاط.
حينما جاءها المخاض على الحاجز
كانت أولى المآسي ما واجهته إحدى المواطنات من أهالي البلدة التي جاءها المخاض على الحاجز الذي تموضع عنده جنود الاحتلال، ومنعوها من الوصول إلى المستشفى بعد أنّ منعت من اجتياز المدخل الرئيس والمنفذ الآخر لأهالي البلدة إلى القدس، إذ كان بإمكانها أن تلد هناك.
في غضون هذه الصراعات من أجل المرور عن الحاجز، وضعت المرأة طفلها داخل المركبة التي أقلتها، لتُنقل بعد ذلك مشياً على الأقدام على مرأى الجنود، الذين كانوا يراقبون المشهد ويتبادلون الابتسامات بدم بارد برودة عمليات القتل والإعدام التي يقترفونها في كل منطقة يجتاحونها.
كان يمكن لمخيم شعفاط أن يكون متنفس الحرية، أو أن يكون الطريق الأساسي نحو وصول هذه السيدة الفلسطينية إلى المشفى لتلد هناك، لكن الاحتلال قرر أن يبقي الحصار على المخيم، وأن يمنع المرضى من التمتع بحقهم في العلاج، في مكان مليء بأعداد كبيرة من مرضى الكلى والولادات الطارئة، تماماً كما حدث مع السيدة من عناتا.
مخيم شعفاط: أصل الحكاية
يبعد مخيم شعفاط عن مدينة القدس، مركز حياة أكثر من 300 ألف مقدسي، نحو خمسة كيلو مترات، متوسطاً موقعاً جغرافياً منحه ميزات عديدة استراتيجية وديموغرافية، كما يقول خليل تفكجي، خبير الاستيطان، مشيراً إلى أن الموقع الجغرافي للمخيم مكنه من منع الامتداد الاستيطاني في منطقة حيوية شمال القدس المحتلة، ليفصل بذلك بين مستوطنات شرق القدس وتلك الواقعة على تخوم المخيم من ناحيته الشمالية، مثل "بسغات زئيف" التي توسعت على نحو كبير بعد توقيع أوسلو، حتى باتت من كبرى المستوطنات اليهودية المقامة على أراضي المقدسيين، وكذلك مستوطنة "نيفي يعقوب".
كانت هذه السمة الكبيرة التي تمتع بها المخيم، الذي أُقيم في العام 1966 بعد تهجير أهالي حارة الشرف في البلدة القديمة من القدس إليه، سبباً لأن يطرح رئيس بلدية الاحتلال الأسبق في القدس تيدي كوليك على أهالي المخيم، قبل أكثر من ثلاثين عاماً، مشروعه المعروف باسم "ابنِ بيتك بنفسك"، حيث اقترح على اللاجئين هناك ترك منازلهم والانتقال إلى منطقة الخان الأحمر إلى الشرق من مدينة القدس، مبدياً استعداد بلديته لمساعدة الأهالي في المخيم في تقديم الدعم المالي لهم، بيد أن صلابة الموقف الذي جسده أهالي المخيم برفض المشروع، اضطره للتراجع عن اقتراحه، وأمام ما أكده الأهالي بأن قضيتهم بالأساس هي جزء من قضية اللاجئين، وأن الحل بالنسبة إليهم هو العودة إلى مدنهم وبلداتهم وقراهم الأصلية، التي هجروا وطردوا منها بالقوة في العام 1948، أو نزحوا عنها قبيل احتلالها في عدوان يونيو/حزيران.
أُسس مخيم شعفاط للاجئين في عام 1965، أي بعد أكثر من عقد واحد على تأسيس كافة المخيمات الرسمية الأخرى في الضفة الغربية، وتأسس المخيم بعد أن أُغلق مخيم ماسكار في المدينة القديمة للقدس بسبب سوء الظروف الصحية فيه.
وتعود أصول اللاجئين في المخيم، الذين رُحّلوا إلى شعفاط، إلى 55 قرية تابعة لمناطق القدس واللد ويافا والرملة. ومثل باقي مخيمات الضفة الغربية، فقد تأسس المخيم فوق قطعة من الأرض استأجرتها "أونروا" من الحكومة الأردنية.
ووفقاً لمعطيات "أونروا"، يعد مخيم شعفاط المخيم الوحيد في الضفة الغربية الذي يقع ضمن الحدود البلدية للقدس، ولذلك، فإن اللاجئين فيه يحق لهم الحصول على هويات مدنية تابعة للقدس، الأمر الذي يضمن لهم حقوق الإقامة فيها ويجعلهم مؤهلين للحصول على بعض الخدمات الاجتماعية الإسرائيلية، بما في ذلك الرعاية الصحية.
وبما أن حرية التنقل لهم غير مقيدة، فإن حاملي هويات القدس لم يتأثروا بالإغلاقات الإسرائيلية للضفة الغربية، فيما أصبح العديد من اللاجئين، الذين كانوا قد تركوا المخيم في السابق، يعودون إليه في محاولة للاحتفاظ بهوية القدس الخاصة بهم.
وفي الوقت الذي تبين سجلات "أونروا" الرسمية أن عدد اللاجئين المسجلين في المخيم يصل إلى حوالي 11 آلف لاجئ، إلا أنه من المرجح أن يبلغ عدد اللاجئين فيه أكثر من 18 ألفاً، في حين تشير تقديرات أحد القادة الميدانين في المخيم، والذي شغل في السابق موقعاً في وكالة الغوث، ويدعى خضر الدبس، إلى أن أعداد القاطنين في المخيم تتجاوز سبعين ألفاً.
وتشير تقديرات "أونروا"، في هذا الصدد، إلى أن حوالي 4 آلاف لاجئ قد انتقلوا إلى المخيم في السنوات الأخيرة لتجنب فقدان حقوق الإقامة في القدس، بينما يعمل حوالي 70% من سكان المخيم في القطاع الخاص الإسرائيلي، والواقع أن عدد من انتقلوا للإقامة في المخيم هو أضعاف ما تشير إليه معطيات "أونروا"، سواء أولئك الذين أتوا من مناطق مختلفة من الضفة الغربية واستقروا في المخيم، أو من المقدسيين أنفسهم الذين تعاني أكثر من 80% من أسرهم من ضائقة السكن والارتفاع الكبير في إيجارات العقارات، إذ يصل معدل الإيجار الشهري إلى 1200 دولار.
وترتبط كافة المساكن بالبنية التحتية لشبكة المياه العامة والكهرباء؛ وذلك بالرغم من أنها ليست جميعها متصلة بنظام الصرف الصحي العام، ويعد الاكتظاظ مشكلة رئيسة، وقد جرى تجاهل أنظمة الوكالة الفنية وأنظمة السلامة الخاصة بالمباني؛ ويقوم عدد متزايد من اللاجئين بإنشاء مساكن من ثلاثة أو أربعة طوابق فوق أساسات وضعت في الأصل لتحمل مباني من طابق واحد أو طابقين، في حين سجلت الأعوام العشر الماضية ارتفاعاً هائلاً في بناء العشوائيات التي يتكون بعضها من عشرة طوابق.
المخيم نضالياً
وطنياً ونضالياً، كان مخيم شعفاط، وبعد أن فشل تيدي كوليك، ومن خلفه حكومته، في تمرير مخطط التخلص من المخيم، هدفاً لهذه السلطات التي أغرقته بالمخدرات ومختلف سمومها، حتى بات واحداً من أكثر البؤر التي تنتشر فيها تلك السموم، إلى أن جاءت الانتفاضة الأولى واجتاحت هذه الظاهرة، واستأصلتها من داخل المخيم، واستبدلتها بفعل نضالي ووطني مميز، حتى بات مخيم شعفاط واحدة من أكثر النقاط الملتهبة في القدس في مواجهة الاحتلال، وكان المخيم قد قدم أول شهدائه في معركة يوم الأرض، التي ارتقى فيها الشهيد عبد الله الحواس، طالب الهندسة في معهد قلنديا المهني، ثم برز دور نشطاء المخيم في الانتفاضتين الأولى والثانية.
وحتى السنوات الأخيرة من عمر أوسلو وهبتى القدس الأولى والثانية، اللتين ارتقى فيهما العديد من الشهداء من أبناء المخيم، من بينهم سفيان الزلباني، ومحمود خليفة، ومحمد علي، ووسام فرج، وأحمد صلاح، وإبراهيم العكاري، وفادي أبو شخيدم. والشهيدان أبو شخيدم والعكاري كانا نفذا عمليتين نوعيتين استهدفا فيهما جنوداً ومستوطنين، إضافة إلى الشهيد محمد علي، الذي لقبه المقدسيون في هبة القدس الثانية بأسد باب العامود بعد أنّ قتل هناك جنديين، كما يقول رئيس اللجنة الشعبية في المخيم محمود الشيخ، في حديث لـ"العربي الجديد".
وبالمجمل، يشير الشيخ إلى أن إجمالي عدد شهداء المخيم منذ العام 1967 وصل إلى نحو 70 شهيداً، إضافة إلى مئات الجرحى، أما أعداد المعتقلين من أبناء المخيم، بحسب رئيس اللجنة الشعبية في المخيم، فهو حوالي 120 ممن لم تتجاوز أعمارهم السن القانونية، يقضون أحكامًا متعددة، كما يوجد حوالي 140 من الشبان والرجال، ولا يكاد يكون بيت في المخيم إلا وقدم من أبنائه أسرى في سجون الاحتلال أو خضع للتحقيق.
جدار الفصل والحاجز العسكري
كان أكثر الاستهدافات الإسرائيلية للمخيم، كما يقول الناشط خضر الدبس في حديث لـ"العربي الجديد"، هو عزله قبل سنوات من خلال جدار الفصل العنصري، إضافة إلى الحاجز العسكري الذي بدأ كحاجز دوريات متنقل في العام 2002، ثم تحول في العام 2009 إلى حاجز عسكري أشبه بالمعبر الحدودي.
وأظهر الإغلاق والحصار الأخيرين والمستمرين على المخيم منذ أيام، بعد العملية التي نفذها فلسطيني على الحاجز المقام على مدخل المخيم، وأدت لمقتل جنديين إسرائيليين وإصابة ثالث، خطورة هذا الجدار على حياة المقدسيين، حيث قيد حركة عشرات الآلاف من قاطنيه، إضافة إلى تأثيراته الصحية، سواء ما تعلق منها بالحصول على العلاج، أو انتقال الطلبة إلى مدارسهم خارج المخيم.
في حين أثر مسار الجدار الحالي على خدمة التخلص من النفايات التي تتجاوز يومياً (21 طناً)، إذ كانت عملية نقلها إلى مكب أبو ديس لا تتجاوز عشرين دقيقة، لكن بعد الإغلاق، تستغرق العملية أكثر من ساعة، حيث تقطع المركبة 30 كم لتفرغ نفاياتها في منطقة رام الله.