لكن هذه الغارات لم تدفع بمسلحي "داعش" إلى مغادرة أي من مواقعهم التي تسعى القوات الكردية وحلفاؤها للسيطرة عليها. وكان رد التنظيم قاسياً على الهجمات الجوية التي استهدفت مواقعه مساء أمس الأول الثلاثاء وحتى ظهر الأربعاء، إذ شنّ "داعش" هجوماً بسيارة مفخخة يقودها انتحاري على نقطة تتمركز فيها قوات "سورية الديمقراطية" في قرية الهيشة في ريف الرقة الشمالي، صباحاً، أدى إلى مقتل خمسة وثلاثين على الأقل من عناصر "وحدات حماية الشعب الكردية" وحلفائها، بحسب شبكة "سوريا مباشر" الإخبارية، التي ذكرت أن التفجير ""كان ضخماً ووقع بالقرب من نقطة تجمع للقوات المستهدفة".
وجاء كلام المتحدث باسم تحالف "سورية الديمقراطية" طلال سلو، ليؤكد صعوبة المهمة، عندما أعلن أن التحالف "لا يعد لهجوم على الرقة في الوقت الحالي". المتحدث باسم تحالف قوات سورية الديمقراطية أكد أن مثل هذه العملية ليست وشيكة.
وقال سلو لوكالة "رويترز"، إن "أي مناطق يتواجد فيها تنظيم داعش الإرهابي قواتنا ستقوم بتحريرها، فإذا كانت الأماكن التي يتواجد فيها داعش في دير الزور أو شمال حلب، فمن الممكن أن تكون هدفاً لقواتنا ضمن حملة في المستقبل". وأضاف "نحن تحركنا فقط لتحرير شمال الرقة حالياً. ليس هناك استعداد أو توجه لتحرير الرقة. لا يوجد توجه لتحرير الرقة إلا ضمن حملة قادمة من بعد انتهاء هذه الحملة".
وفي السياق، حذّر نائب رئيس هيئة الأركان التركية الجنرال غولر يشار، نظيره الأميركي، الجنرال جوزيف فوتل، قائد القيادة العسكرية المركزية، من الخطورة العالية التي يشملها الاعتماد على قوات حزب "الاتحاد الديمقراطي" (الجناح السوري للعمال الكردستاني) لدحر تنظيم "داعش" في الرقة، وذلك خلال زيارة الأخير إلى أنقرة، بحسب ما كشفت صحيفة "حرييت" التركية المعارضة، أمس الأربعاء. وقال يشار لفوتل، الذي زار تركيا في 22 من الشهر الحالي، بعد جولة قام بها داخل الأراضي السورية تحضيراً للحملة العسكرية ضد "داعش" في الرقة: "لا تكن متفاجئاً إن خذلتك قوات الاتحاد الديمقراطي عندما يصبح القتال ضد داعش أكثر شراسة". وشدد غولر على الخط الأحمر التركي القاضي برفض أنقرة عبور قوات الاتحاد الديمقراطي إلى غرب الفرات، مستبعداً قيام تركيا بأي عمل عسكري مباشر داخل الأراضي السورية من دون الحصول على قرار من مجلس الأمن.
وفي سياق متصل، اتخذ تنظيم "داعش" إجراءً مفاجئاً في مدينة الرقة، حيث قام مسلحوه، ظهر أمس، بالانتشار في محيط منطقة محطة النقل وقاموا بإغلاقها بالكامل، مبلغين السكان وسائقي سيارات نقل الركاب بقرار حظر نقل المدنيين خارج المدينة. خطوة "داعش" أتت بعد أيام من استمرار حركة النزوح خارج الرقة إثر إلقاء طائرات التحالف الدولي لمنشورات ورقية فوق المدينة تدعو السكان إلى مغادرتها، حفاظاً على حياتهم.
وكانت تلك المناشير قد أثارت مخاوف كثيرة تترتب على تحديد الوجهة التي سيختارها النازحون. فبحسب معلومات متطابقة، أذاع تنظيم "داعش"، في المساجد وعبر مكبرات الصوت، في وقت سابق، أنه يسمح للمدنيين بالمغادرة إلى الأماكن الخاضعة لسيطرته فقط، محذراً إياهم من التوجه شمالاً نحو المناطق التي أشار التحالف الدولي إلى أنها الأكثر أمناً، وهي المناطق التي تسيطر عليها القوات الكردية وحلفاؤها. ولم يكن "داعش" يسمح أصلاً بخروج المدنيين إلى المناطق الخارجة عن سيطرته، إلا لموجبات صحية يقدّرها هو، في حين أن من كان يختار سلوك طرق التهريب فقد كان يلزمه التنظيم بدفع مبالغ طائلة، فضلاً عن الخطر الذي يحيط بتلك الطرقات بسبب الألغام وقطّاع الطرق.
وعمد النازحون، أخيراً، إلى التوجه نحو محافظة السويداء جنوب سورية، إذ يسلكون طريقاً التفافياً من الرقة إلى العراق، ليعودوا إلى سورية من معبر التنف الحدودي، ثمّ إلى السويداء حيث يحتجزهم النظام السوري في مخيمات بالمدارس ويمنعهم من متابعة الطريق إلا بموجب كفيل من المدينة يمكّنهم من استكمال رحلتهم إلى دمشق.
من جهة أخرى، توجه مغادرو مناطق التنظيم نحو أراضي سيطرة المعارضة في ريف حلب، إلّا أنّ الطريق إليها صعب جداً بسبب الاشتباكات الدائرة بين الطرفين من جهة، وحقول الألغام التي زرعتها الجهتان هناك، والتي تسببت بمقتل العشرات من الرقة أثناء محاولتهم الوصول إلى تلك المناطق.
لكن كل ذلك يبدو أنه انتهى الآن، أو في طريقه إلى النهاية، مع قرار "داعش" الجديد بمنع خروج السكان من مدينة الرقة، والذي اتخذه أمس الأربعاء. وهو قرار يشير إلى أمرين: الأول يتمثل بنيّة "داعش" بالتمسك بمناطق سيطرته في الرقة وريفها وبالتالي محاولة استثمار وجود السكان فيها لمحاولة تجنيد عدد منهم للقتال ضد القوات الكردية وحلفائها؛ والثاني يتمثل في نيّة التنظيم الحفاظ على السكان في مدينة الرقة ليشكل وجودهم ما يشبه الدرع البشري الذي سيحد من قدرة التحالف الدولي على شن غارات عنيفة ومكثفة على مدينة الرقة، خوفاً من أن تتسبب تلك الغارات بمجازر كبيرة قد ترتفع معها أصوات الإدانة والتنديد.
يبدو أن المقدمات التي ظهرت حتى الآن للمعركة المنتظرة في الرقة بين "داعش" من جهة، و"وحدات حماية الشعب الكردية" وحلفائها والتحالف الدولي، من جهة أخرى، تشير إلى أن معركة الرقة ستكون طويلة وشاقة ومعقدّة، الأمر الذي سيسمح ربما لتنظيم "الدولة الإسلامية" باستنزاف القوات المهاجمة وإرهاقها بعمليات انتحارية. ولعل طول مدة المعركة والنزيف الذي سيطاول صفوف قوات "سورية الديمقراطية" سيؤديان إلى ارتفاع أصوات كردية مستنكرة سياسة إعطاء الأولوية لمهاجمة الرقة، لا سيما مع استمرار الفيتو التركي الذي يمنع القوات الكردية من عبور نهر الفرات نحو الغرب بهدف وصل مناطق سيطرتها في عين العرب بمناطق سيطرتها في عفرين شمال غرب حلب، وذلك بالسيطرة على مدن منبج والباب وجرابلس واعزاز واريافها في ريف حلب. كل هذه الصعوبات الميدانية التي برزت في الجولة الأولى لمعركة الرقة تدل على أن الحسم العسكري ضد "داعش" لا يزال بعيداً.