لم يلقَ فوز الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بانتخابات الرئاسة، الأحد، أصداءً إيجابية في الصحف والوسائط الإخبارية الأميركية، على اختلافها. نقرأ هناك تناوباً على أوصاف "المستبد"، "الديماغوجي"، "الرجعي"، "اليميني المحافظ"، عند الإشارة إلى أردوغان، وكذلك الحديث عن "ظروف غير عادلة" وسمت الانتخابات ومخرجاتها، فيما ذهبت بعض الصحف والمواقع إلى استشراف مستقبل قاتم ينتظر البلاد تحت إدارة رائد تركيا الحديثة، بالذات نظراً إلى الأعباء الاقتصادية المتراكمة خلال السنوات الخمس الماضية. وتذهب بعض التحليلات إلى أن تلك التراكمات قد تدفع البلاد نحو نقطة "الانهيار" في لحظة ما، ومن ناحية أخرى، ستدفع الرئيس التركي إلى "تليين" سياساته الخارجية، إذ إن آخر ما يريده -في مسعاه لتدفق الاستثمارات من الأسواق العالمية- هو المزيد من الأعداء.
وفي مقالها الافتتاحي، وصفت هيئة تحرير صحيفة "وول ستريت جورنال" فوز أردوغان بـ"الأخبار السيئة للمستقبل الديمقراطي في البلاد"، إلّا أنها في استدراكها على ذلك انتقلت من سياق مخاوفها على الديمقراطية، إلى الحديث عن أن حلف شمال الأطلسي "بوسعه أن يأمل نسخة أقلّ ضجيجاً" مما عهد عن أردوغان في ولايتيه الرئاسيتين السابقتين، وقبلهما في رئاسة الحكومة.
وعزت الصحيفة فوز أردوغان إلى سنوات من "ترتيب النظام السياسي ضد خصومه"، مذكّرة بأن منافسه من حزب الشعب الجمهوري، كمال كلجدار أوغلو، أصبح مرشّح المعارضة فقط، لأن رئيس بلدية إسطنبول -الذي هزم مرشّح أردوغان في 2019، بن علي يلدريم- حُرم من المشاركة نتيجة "تهمة ملفّقة"، بعدما أدانته محكمة تركية بـ"إهانة شخصية عامة"، إثر وصفه أعضاء لجنة الانتخابات بـ"الأغبياء".
واقتبست الصحيفة من خطاب النصر الذي ألقاه في إسطنبول قوله: "سنظل معاً حتى القبر"، جازمة بأنه "يعني ما يقول". والجملة مقتطعة من أغنية كانت تنطلق من مكبّرات الصوت في الميدان قبيل ظهور الرئيس التركي، وقد أخذ الأخير يرددها فور ظهوره على المنصة.
وفي مقال تحليلي آخر، رأى مراسل "وول ستريت جورنال" في إسطنبول، جاريد ماسلين، أن المهمة الأساسية التي يضعها أردوغان على عاتقه في سنواته الخمس المقبلة هي "تأمين موقع تركيا قوة عالمية طموحة"، في اتصال مع موقعها التاريخي في عهد الإمبراطورية العثمانية.
ويذكّر معد التقرير، في هذا السياق، بتصريحات أردوغان الأخيرة التي دأب فيها على استلهام الماضي العثماني؛ ومنها إشارته، في خطاب الشرفة داخل القصر الرئاسي، عقب فوزه، إلى تاريخ فتح القسطنطينية في 29 مايو/أيار 1453، الذي يوافق اليوم التالي للانتخابات، مخاطاً جموع المحتشدين تحت قصره: "أنتم أبناء وبنات أولئك الفاتحين".
ويرى معلّق الصحيفة أن أردوغان، بذلك، "يرسم خطّاً من الماضي إلى مكانة تركيا الجديدة على المسرح العالمي".
لكن الكاتب يستدرك بالإشارة إلى أن أردوغان سيرى صعوبة تحقيق رؤيته خلال سنوات حكمه، إذ إن القضايا ذاتها التي رفعت أسهم خصومه، العملة المتهاوية وأحد أعلى معدلات التضخم في الاقتصاديات الكبيرة، تحدّ مساحة المناورة أمامه.
تبعاً لذلك، ترى الصحيفة أن التحدي الأكبر الذي يواجه أردوغان هو مواءمة طموحاته العالمية مع مشاكل بلاده المالية؛ وفي سبيل ذلك، أظهر الرئيس التركي قابلية للتصالح مع مجموعة من "خصوم الأمس"، ومن ضمنهم السعودية والإمارات ومصر وإسرائيل، آملاً بذلك "تخفيف عزلة تركيا بعض الشيء، وكذلك تعويض بعض النقص في العملات الأجنبية في بلاده".
وفي مداخلة على شبكة "سي أن أن"، عزا المسؤول السابق في وزارة الخارجية الأميركية، أرون دافيد، فوز أردوغان إلى تركيزه على "سياسات الهوية"، قائلاً إن "الهوية في هذه الانتخابات كانت أهم من أموال الجيب".
وذكّر في هذا السياق بأن بعض ولايات الزلزال المدمر، الذي أودى بحياة نحو 50 ألف إنسان، كانت من بين أكبر الداعمين للرئيس التركي، لأنه "يلعب على الهوية، والإسلام، والأمة، والوطنية، ويحاول تقديم تركيا بوصفها ضحية.. للإمبريالية الغربية، الولايات المتحدة بالاسم.. وفي المقابل يحاول ربط المعارضة بالإرهابيين الأكراد"، وفق تعبيره.
ولكن بعدما منحه الدعم الأميركي لكلجدار أوغلو إمكانية استدعاء خطاب العداء مع "الإمبريالية الغربية"، ترجّح صحيفة "نيويورك تايمز" أن أردوغان، بعد فوزه في الانتخابات، مع تجديد أوراق اعتماده القومية في الداخل، سيشعر بحرية أكبر في إصلاح العلاقات مع الولايات المتحدة، ومن المحتمل موافقته على عضوية السويد في "الناتو"، كما فعل مع فنلندا، ربما مع موعد القمة السنوية للتحالف في يوليو/تموز المقبل؛ مع الإشارة إلى أن الولايات المتحدة ربطت الموافقة التركية بصفقة طائرات "أف-16" المحدثة التي تحتاجها أنقرة، بعدما استُبعدت من مشروع "أف-35"، على خلفية شرائها أنظمة الدفاع الجوي الروسية "أس-400".
ورغم استهلاله خطاب النصر بالقول إن "85 مليون تركي فازوا اليوم"، محاولاً تهدئة نفوس جميع مواطنيه بعد انتخابات شديدة الاستقطاب، عنونت صحيفة "واشنطن بوست" مقالها الرئيسي بجملة "أردوغان يواصل خطابه التقسيمي بعد إعادة انتخابه"، مستندة في ذلك إلى نبرته التهكمية حيال منافسه كمال كلجدار أوغلو، حينما قال: "وداعاً السيد كمال"؛ وكذلك تصويبه على المثلية؛ وأيضاً تشديده على عدم الإفراج عن زعيم حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، صلاح الدين دميرتاش.
ورأت الصحيفة أنه من خلال سيل من التصريحات المماثلة خلال حملته الانتخابية، عبر صرف الانتباه عن الأزمة الاقتصادية في تركيا بالتركيز على التهديدات للأمة ونسيج الحياة المحافظة، تمكّن أردوغان من حشد "تحالف من المؤيدين شمل المسلمين المتدينين والقوميين من اليمين المتطرف الذين منحوه 52 في المائة من الأصوات في جولة الإعادة".
وذهبت الصحيفة إلى افتراض أن أردوغان سيواصل خطابه هذا بعد الانتخابات، أوّلاً في انتظار جولة النزال المقبلة مع المعارضة في الانتخابات المحلّية العام المقبل، وثانياً بالنظر إلى أن الإشكاليات الاقتصادية ستظلّ قائمة. لكن على مقلب السياسة الخارجية، فسيكون الرئيس التركي "أقلّ شغباً"، على حد وصف الصحيفة، إذ لن يتخلى عن مسعاه لإعادة التوازن لاقتصاد بلاده المترنّح.
لكن على الرغم من التصويب على "الخطاب الإثني القومي الديني" لأردوغان، يكشف هذا الموضوع تحديداً، بشكل لافت، عن القراءة المتحيّزة التي تنطلق منها الصحف الأميركية إجمالاً في تعاطيها مع الانتخابات التركية، ذلك أن منافس أردوغان، كلجدار أوغلو، يبدو أكثر يمينيّة وشعبويّة وحمائية قوميّة في هذا الشأن. في هذا السياق، مثلاً، تسرد "واشنطن بوست"، في نبرة تبدو تبريرية، أن كلجدار أوغلو "اضطر" لاعتماد عناوين قومية أكثر شدة قبل جولة الإعادة "بما في ذلك الخطاب المعادي للمهاجرين".
وفي مقال بعنوان "أردوغان يصبح نموذج العصر عن المستبد الانتخابي"، يستهل كاتب العمود اليومي لصحيفة "واشنطن بوست"، إيشان ثارور، حديثه بالقول: "لا يملك أسلحة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين النووية، ولا النفوذ الجيوسياسي لرئيس الوزراء الهندي ناريندا مودي على رأس أكثر الدول سكّاناً في العالم، وليس لديه منبر رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان وحلفاء يمينيون في الولايات المتحدة، ولا سجل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أن الحديث عن زواله السياسي مبالغ فيه.. لكن خلال عقدين، كان أردوغان رائداً في مسار يترك هؤلاء الديماغوجيين في ظله".
ويذهب معلّق الصحيفة إلى الادعاء بأنه "من المستحيل توصيف الانتخابات على أنها نزيهة، بالنظر إلى "الموارد غير المتناسبة الموجودة تحت تصرف أردوغان، واحتكاره وسائل الإعلام الحكومية، وسيطرته على مؤسسات الدولة، وتذخير النظام القانوني لإلقاء مرشحي المعارضة في السجن أو استبعادهم من المنافسة".
أما موقع "إيه بي سي نيوز" الأميركي، فاعتبر أن فوز أردوغان، وما سبقه من "ابتعاد عن القيم الديمقراطية وسيادة القانون"، سيبقي مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في حالة جمود، بعدما كان فوز المعارضة الديمقراطية، بما يحمله من "ارتياح"، يعني أن على بروكسل أن تأخذ مفاوضات انضمام تركيا بجدية أكبر، بما في ذلك مراجعة الاتفاقات على الجمارك والتأشيرات.
نذير بـ"انهيار اقتصادي"
وترى "وول ستريت جورنال" أن الأزمة الاقتصادية تظهر علامات على أنها ماضية في التدهور، لا سيما بعد هبوط الليرة إلى مستوى قياسي جديد، مع وصولها إلى 20 دولاراً تأثّراً بفوز أردوغان. وعلى الرغم من أن البنك المركزي التركي رفع مستوى دفاعاته عن الليرة، بينما كانت البلاد متجهة إلى جولة ثانية من الانتخابات، فإنه استنزف بذلك الاحتياطات المحدودة بالفعل من العملات الأجنبية.
رغم ذلك، تخلص الصحيفة إلى القول إن ضخ الأموال من روسيا ودول الخليج "لن يكون كافياً لإنقاذ الاقتصاد التركي". وتنقل عن المحللة والرئيسة السابقة لقسم العلاقات الدولية في جامعة أنقرة، إلهان أوزجين، قولها: "ليس لديه حل عقلاني لتلك المشاكل، أو برنامج واضح للتعامل معها؛ سيكون في مأزق بعد الانتخابات".
وتنقل "واشنطن بوست" عن أستاذ العلوم السياسية في جامعة سابانجي بإسطنبول، بيرك إيسين: "ليست لديه (أردوغان) الوسائل لإعادة بناء مناطق الزلزال، ولا لحل أزمة اللاجئين.. في مرحلة ما سوف ينهار الاقتصاد التركي"، وفق تقديره.
وفي حين عزا موقع "إيه بي سي نيوز" فوز أردوغان، جزئيّاً، إلى "تخفيف آثار التضخم عبر الإنفاق العام، بما في ذلك رفع الحد الأدنى للأجور، وزيادة المعاشات التقاعدية"، فقد وصف هذا الإجراء بأنه "غير مستدام". وينقل الموقع، في هذا السياق، عن أستاذ الاقتصاد في جامعة إسطنبول، سيلفا ديميرالب، قوله: "لقد كان الاقتصاد التركي في حفلة تتجاوز إمكانياته لفترة طويلة.. بعد الانتخابات، سيحين الوقت الذي ندفع فيه ثمن الوليمة التي استهلكناها".