كسلا... حياة على وقع التأهب الأمني والأزمات الإنسانية

19 ابريل 2024
من السوق الشعبي في كسلا، مايو 2023 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- الصراع العسكري في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ 15 إبريل 2023 يؤدي إلى فوضى وأزمة إنسانية، مع نزوح كبير نحو كسلا، التي تشهد تغييرات إدارية وأمنية للسيطرة على الوضع.
- كسلا تواجه تحديات أمنية وإنسانية مع استقبالها للنازحين، حيث تجري حملات لتسليح المواطنين وتعديل أوامر حظر التجول لتعزيز الأمن في مواجهة التهديدات.
- الأوضاع الإنسانية تتدهور مع استمرار النزاع، مما يؤدي إلى بطالة، انعدام المال، وسوء الغذاء بين النازحين، مع تأكيد "أطباء بلا حدود" على الحاجة الملحة لمساعدة إنسانية شاملة.

يحوّل الصراع العسكري بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، الذي بدأ في 15 إبريل/ نيسان 2023 وبدأ عامه الثاني قبل أيام، البلاد إلى ساحة معركة مفتوحة وأزمة إنسانية تمثل مزيجاً من الموت والنزوح واللجوء وتفشي الأمراض والجوع. وتشهد جميع ولايات السودان الـ18 نزوحاً وتوترات، وطاول ذلك حتى الولايات الشرقية التي ظلّت منذ بداية الحرب بعيدة عن الاشتباكات، وعلى رأسها ولاية كسلا، التي أضحت مركزاً لإيواء النازحين الفارين من العاصمة الخرطوم والولايات المجاورة لها مع امتداد رقعة المعارك يوماً بعد يوم. مع العلم أن مجلس الوزراء السوداني، أصدر أول من أمس الأربعاء، قراراً بإعفاء والي كسلا محمد موسى عبد الرحمن، ووالي القضارف محمد عبد الرحمن محجوب، إذ تم تعيين اللواء متقاعد الصادق محمد والياً جديداً لكسلا، واللواء متقاعد محمد أحمد حسن والياً للقضارف، إلى جانب إعفاء السفير علي الصادق من مهام وزير الخارجية وتعيين السفير حسين عوض، وزيراً للخارجية بعد أن كان يشغل منصب وكيل الوزارة.

كسلا ضمن الولايات التي انتظمت فيها حملات استنفار وتدريب وتسليح المواطنين تحت مسمى المقاومة الشعبية المسلحة

كسلا السودانية... تاريخٌ من إيواء النازحين

وتقع مدينة كسلا، عاصمة الولاية التي تحمل الاسم ذاته، على بعد 480 كيلومتراً من العاصمة الخرطوم، وتتميز بموقعها على رأس دلتا نهر القاش وعلى سفوح كتلة جبلية تُعرف باسم جبال التاكا، ولها حدود مع دولة إريتريا. ومنذ ثمانينيات القرن الماضي، هاجرت إليها أعدادٌ كبيرة من المواطنين من جنوب السودان وجبال النوبة وإقليم دارفور بسبب الحروب والنزاعات في تلك المناطق. ولمدينة كسلا تاريخٌ طويل مع استقبال النازحين واللاجئين، إذ كانت مركزاً لإيواء اللاجئين خلال الحرب الإثيوبية الإريترية التي اندلعت في عام 1998 واستمرت حتى عام 2000. واستقبلت ولاية كسلا الآلاف من اللاجئين الإرتريين وأقيمت المعسكرات لإيوائهم، وما زالت بعض الأحياء في المدينة تضم سكاناً يتحدرون من إريتريا. وكانت المدينة أيضاً وجهة للاجئين الصوماليين والإثيوبيين حتى وقت قريب.

ويمثل معسكر الشجراب، في محلية ود الحليو، أبرز معسكرات اللاجئين بكسلا، والذي تحول إلى قرية بسكّان شبه دائمين. وتتسبب التوترات الأمنية وتهديدات قوات الدعم السريع في ولايات أخرى قريبة لكسلا، مثل الجزيرة والقضارف ونهر النيل، في اتخاذ الولاية إجراءات أمنية جديدة، خصوصاً بعد حادثة قصف طائرة مسيّرة مجهولة في الثاني من إبريل الحالي إفطاراً رمضانياً نظمته مجموعة شبه عسكرية محسوبة على نظام الرئيس المخلوع عمر البشير تقاتل مع الجيش في مدينة عطبرة، بولاية نهر النيل، شمال شرقي السودان، ما أدّى إلى مقتل 12 شخصاً على الأقل.

وكسلا ضمن الولايات التي انتظمت فيها حملات استنفار وتدريب وتسليح المواطنين "المستنفرين" تحت مسمى "المقاومة الشعبية المسلحة" لمواجهة قوات الدعم السريع، وأقام بعض قادة هذه المقاومة إفطارات جماعية في رمضان الأخير (من 11 مارس/ آذار إلى 10 إبريل)، وهم يحملون الأسلحة على متن سيارات ذات دفع رباعي في عدد من ساحات المدينة. وفي 11 إبريل الحالي، أصدر والي كسلا  محمد موسى، الذي أقيل أول من أمس، أمر طوارئ، عدّل بموجبه موعد حظر التجول في الولاية من الساعة الحادية عشرة مساءً إلى الساعة الرابعة صباحاً، ليصبح منع التجول من الساعة الثامنة مساء إلى السادسة صباحاً.

وشمل الأمر حظر تجول الأشخاص والمركبات والعربات والدراجات النارية وكل التجمعات والاحتفالات العامة والخاصة أثناء ساعات الحظر، بالإضافة إلى إغلاق جميع المحال التجارية والمقاهي والأسواق، وحظر استخدام السلاح الناري بكل أنواعه في الاحتفالات العامة والخاصة. وأمر موسى بمعاقبة المخالفين بالسجن لمدة لا تتجاوز الستة أشهر مع فرض غرامة عليهم بما لا يتجاوز مليون جنيه سوداني (حوالي 1700 دولار أميركي)، وفي حال عدم الدفع السجن لمدة شهر. وفي 11 إبريل الحالي، أصدر والي كسلا المُقال أمر طوارئ، عدّل بموجبه موعد حظر التجول في الولاية من الساعة الحادية عشرة مساءً إلى الساعة الرابعة صباحاً، ليصبح منع التجول من الساعة الثامنة مساء إلى السادسة صباحاً.
 

وتعد الأوضاع في كسلا مستقرة أمنياً مقارنة بمدن أخرى، حيث تعمل فيها عددة مصارف ومؤسسات حكومية، وتتوفر فيها السلع الغذائية القادمة من مصر وإثيوبيا وتركيا والسعودية، إلى جانب السلع السودانية القليلة والتي تباع بأسعار متفاوتة، لكن النازحين يعانون من البطالة وانعدام المال في أيديهم وسوء الغذاء المتوفر أمامهم، إذ توزع المنظمات غالباً السكر والعدس والدقيق والزيت، وبعض الأواني. ويسكن معظم النازحين في كسلا بمدارس تم تخصيصها لاستقبالهم، وتعمل مجموعة من المنظمات السودانية والأجنبية على تقديم الخدمات لهم، حيث تمّ افتتاح عيادات داخلية في بعض هذه المدارس التي يعاني معظمها من مشكلة توفر مياه الشرب والانقطاع اليومي للكهرباء والاكتظاظ. ويحصل النازحون على الماء عبر المضخات اليدوية المركبة في المدارس أو العربات التي تجرها الحمير.

نازحون مهدّدون بالطرد

ويقول النازح أحمد مجدي، الذي يقيم مع أسرته في مدرسة بحي العرب في كسلا، لـ"العربي الجديد"، إنه فشل في الحصول على عمل في المدينة، إذ كان قبل مجيئه إليها يعمل في مدينة ود مدني التي سيطرت عليها قوات الدعم السريع في ديسمبر/ كانون الأول الماضي. ويلفت مجدي إلى أنه وأفراد أسرته جاؤوا إلى كسلا في اليوم الثالث لمعركة ود مدني، ومكثوا مع أقاربهم قبل أن ينتقلوا إلى المدرسة التي خُصّصت للنازحين، ويشير إلى أنه يعاني من مرض السكري وتمكن أخيراً من الحصول على علاجه من عيادة داخلية أقامتها إحدى المنظمات.

ويذكر مجدي أنهم أصبحوا مهدّدين بالطرد حالياً من المدرسة بسبب إعلان حكومة الولاية نيتها استئناف الدراسة وإخلاء المدارس من النازحين، إذ أبلغهم المشرفون على المدرسة بذلك، متوقعين أن يتم ترحيل النازحين إلى مراكز إيواء بديلة ستتم إقامتها عند أطراف المدينة. ويوضح أنه يبحث عن منزل صغير للإيجار حالياً، لأنه لا يريد الانتقال إلى مراكز الإيواء البديلة المقترحة خوفاً من الخروج إلى مكان بعيد عن المدينة والتعرض للإهمال.

الجيش ينتشر مع القوات الحكومية الأخرى في كسلا، إلى جانب مقاتلين من حركة العدل والمساواة

ويسكن عدد من النازحين عند أقاربهم في كسلا، وهناك آخرون يتحدرون من المدينة أصلاً وعادوا من الخرطوم إلى منازلهم الأصلية واستضافوا معهم نازحين آخرين، فيما يفضّل البعض الآخر استئجار منزل، حيث تبدأ بدلات الإيجار من 100 ألف جنيه وتصل حتى 600 ألف (الدولار يساوي 1200 جنيه). ويختلف السعر حسب الحي ونوع المنزل والمسافة من وسط المدينة وتوفر خدمات الماء والكهرباء.

وبحسب ما رصدت "العربي الجديد"، فإن الجيش السوداني ينتشر مع القوات الحكومية الأخرى في المدينة، إلى جانب مقاتلين من حركة العدل والمساواة (مسلحون سابقون في دارفور). وتقيم هذه القوات نقاطاً للتفتيش عند مداخل المدينة ومخارجها طوال اليوم، إذ تعبر منها باصات السفر وشاحنات البضائع المتوجهة إلى ولايات البحر الأحمر ونهر النيل والشمالية. ومع حلول الليل تغلق الأسواق وتنصب الحواجز الأمنية لتنفيذ أوامر حظر التجول.

النازحة نفيسة الضو، التي تقيم في مدرسة بحي الحلنقة، تقول لـ"العربي الجديد"، إنها حصلت على عمل مؤقت مع منظمة محلية، لكنها تنوي السفر إلى مصر لإنقاذ تعليم أطفالها الثلاثة الذي توقف منذ بداية الحرب. وتوضح أنها تعمل على جمع المال اللازم حالياً لاستخراج جوازات سفرهم والمغادرة، وتتابع: "علمنا أنه سيتم إخراجنا من المدارس وإرسالنا إلى معسكرات أو مراكز إيواء خارج كسلا، ولا نريد الذهاب إلى هناك".

وتشير نفيسة، التي فرّت مع أسرتها من مدينة ود مدني بولاية الجزيرة بعد مهاجمتها من قوات الدعم السريع، إلى أنها وزوجها يفكران في الهجرة بعد مصر إلى دولة أخرى نهائياً. وتقول: "لم أعد أرى أي مستقبل في السودان، لقد فقدنا كل ما نملك وأصبحنا نازحين من مدينة إلى أخرى بسبب لحاق المعارك بنا حيثما ذهبنا".

وبحسب منظمة أطباء بلا حدود، يوجد نحو 190 ألف نازح في ولاية كسلا وحدها، "ما يؤكد الحاجة الملحة إلى مساعدة إنسانية شاملة". ومن بين هؤلاء، فر نحو 40 ألف شخص خلال أعمال العنف الأخيرة في ولاية الجزيرة. وقالت المنظمة في بيان يوم 27 مارس الماضي إن "محنة النازحين في كسلا هي مثال مُعبر عن الأزمة الإنسانية الأوسع نطاقاً في السودان الناتجة عن النزاع الوحشي المستمر، إذ يعاني الناس من خسائر بشرية كبيرة وفقدان سبل العيش وانعدام الأمن الغذائي".

وقد خططت "أطباء بلا حدود" لبرنامج مدته 10 أسابيع لتقديم مساعدات طبية وإنسانية مخصصة استجابة لحالة الطوارئ الحادة، واختتم هذا العمل في 10 مارس الماضي. وأشارت إلى أن حجم الأزمة يتجاوز قدرة أي منظمة بمفردها، ما يتطلب إجراءات عاجلة ومنسقة من المجتمع الدولي. وأضافت المنظمة في بيانها أن الظروف المعيشية للنازحين في كسلا سيئة للغاية، من حيث الملاجئ المكتظة ومحدودية الوصول إلى الغذاء والمياه النظيفة وعدم كفاية خدمات الرعاية الصحية والوصول إليها، وأفادت بالحاجة إلى مزيد من المساعدة وتعزيز التنسيق بين المنظمات القليلة الموجودة من أجل ضمان توفّر أساسيات الرعاية الصحية، وشدّدت على وجوب إعطاء الأولوية لإمدادات مستدامة من الغذاء والمياه النظيفة والصرف الصحي للتخفيف من معاناة المجتمعات النازحة ومنع وقوع المزيد من الخسائر البشرية.