قدّمت وزيرة الدفاع الألمانية، كريستين لامبرخت، اليوم الإثنين، استقالتها من منصبها، مؤكدة في بيان أنها طلبت من المستشار الألماني أولاف شولتز، إعفاءها من مهماتها. وتأتي استقالة لامبرخت، بعد تصاعد الانتقادات لها على خلفية الحرب الروسية على أوكرانيا، وسط تساؤلات أيضاً حول قدرات الجيش الألماني في وقت تعيش القارة الأوروبية أكبر تحد لها منذ الحرب العالمية الثانية.
وخلال الأيام الأولى من العام الحالي، كانت كواليس المستشارية الألمانية والحزب "الاشتراكي الديمقراطي"، برئاسة المستشار أولاف شولتز، تشهد نقاشات عن كيفية إبعاد العبء الذي شكّلته لامبرخت، لجعلها شيئاً من الماضي. السؤال الذي أخذ حيزاً من النقاش، وفقاً للعديد من الصحف الألمانية تعلّق بسؤال: "إقالة أم استقالة؟".
لامبرخت، العضوة في الحزب "الاشتراكي الديمقراطي" الألماني منذ عام 1982، لم يمض سوى عام وبضعة أيام على تسلّمها منصبها، قبل أن تجد نفسها وسط معمعة غير مسبوقة في وزارة دفاع البلد الأوروبي الكبير، الذي يعيش على وقع دقّات ساعات الحرب في الشرق الأوروبي، وتسخير القارة العجوز للكثير من مواردها لمحاصرة الغزو الروسي لأوكرانيا الذي بدأ في 24 فبراير/شباط الماضي. فالتردد الألماني في الانسجام مع مواقف غربية، أقرب إلى معسكر صقور، بدا لافتاً.
نشرت لامبرخت فيديو بمناسبة رأس السنة لم يكن مناسباً سياسياً
وفي عهد لامبرخت في وزارة الدفاع، رفعت برلين مستوى خطابها، وتحررت قليلاً من قيود ماضي ألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، فتمّ تخصيص نحو 100 مليار يورو من أجل جيش البلاد، بعد استشعار "الخطر الروسي".
وتعهّدت برلين بألا ينتصر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حربه الأوكرانية وتهديد بقية الدول الأوروبية، خصوصاً دول البلطيق (لاتفيا، إستونيا، ليتوانيا). وساهم هذا التطور في حصول نقلة نوعية بنسبة 180 درجة في الخطاب العلني لحكومة شولتز، منهية سياسة مجاراة وتردد، استخدمتها المستشارة السابقة أنجيلا ميركل مع بوتين.
كريستين لامبرخت في مواجهة انتقادات شديدة
في الأسبوع الأول من يناير/كانون الثاني الحالي، زارت لامبرخت اللواء 37 في الجيش الألماني، المتخصص في استخدام دبابات "ماردير"، التي وعدت برلين منذ فترة بإرسالها للأوكرانيين، حين انهالت الانتقادات الشديدة في وجه وزيرة الدفاع بسبب بطء تحركها في تقديم المساعدة اللوجستية لكييف.
وللانتقادات في صفوف حلفاء "الاشتراكي الديمقراطي" في حكومة برلين أسبابها. فبينما كانت بريطانيا تزيد من دعمها العسكري لأوكرانيا، بما في ذلك إرسال دبابات "تشالنجر 2" إليها، واجهت ألمانيا في أروقة حلف شمال الأطلسي وشمال أوروبا ودول البلطيق انتقادات لم تعد مكتومة، بسبب التردد والإحجام عن تسليم الأسلحة لكييف. وأصابت الشظايا لامبرخت في مقتل، بعد تطرّق الإعلام الألماني إلى ما وُصف بـ"فضائح وزيرة الدفاع" والسلوك "المؤسف"، كما كتبت "بيلد" وغيرها من الوسائل الإعلامية.
مع العلم أن للامبرخت خبرة سياسية، إذ كانت عضوة في البوندستاغ (البرلمان) بين عامي 1998 و2021، وكانت أحد أعضاء لجنة الشؤون القانونية والرياضة والتحقيق البرلمانية. كما قادت حملة لأجل تقييد حمل السلاح، بعد اغتيال حاكم مقاطعة هيسن، فالتر لوبكه، في عام 2019 على يد أحد المتطرفين العنصريين. وشغلت أيضاً منصب وزيرة العدل وحماية المستهلك بين يونيو/حزيران 2019 وديسمبر/كانون الأول 2021، ووزيرة لشؤون الأسرة والمسنين والنساء والشباب في حكومة ميركل الرابعة، بين مايو/أيار 2021 وديسمبر من العام عينه.
وشغلت لامبرخت منصب عضوة في مجلس مدينة فيرنهايم بين عامي 1985 و2001، وترأسته بين عامي 1997 و2001. كما شغلت عضوية مجلس مقاطعة بيرغشتراسه، بين عامي 1989 و1997. وكانت متزوجة من العضو السابق في البوندستاغ، السياسي هانز يواكيم هاكر، بين عامي 2015 و2019.
وبالعودة قليلاً إلى احتفالات رأس السنة الجديدة في أوروبا، ليل 31 ديسمبر ـ 1 يناير، فقد خرجت وزيرة الدفاع في فيديو يُظهر ألعاباً نارية، على وسائل التواصل الاجتماعي، وهي توجّه تهنئة بالسنة الجديدة، مرسلة أيضاً تحياتها للأوكرانيين.
وقالت لامبرخت إن "حرباً مستعرة في وسط أوروبا، وهذا يرتبط بالكثير من الانطباعات الخاصة بالنسبة لي، العديد من اللقاءات مع أشخاص مثيرين للاهتمام ورائعين، وأقول لكم شكراً جزيلاً". سارع الحزب "الديمقراطي المسيحي"، ثاني أكبر أحزاب البرلمان وخارج الائتلاف الحكومي، إلى فتح النار على لامبرخت، ليس فقط بسبب الفيديو الذي ظهرت فيه، بل أيضاً بسبب تصريحات أخرى متعلقة بما ذكرته عن "انطباعات خاصة" عن الحرب في أوكرانيا، ما عُدّ تعبيراً عن ضعف وتردد للمسؤولة عن الدفاع الألماني.
كما أجرى معهد "سيفي" لقياس مؤشرات الرأي بتكليف من بوابة "تي أونلاين" الإخبارية، استطلاعاً بعد انتشار الفيديو، دعا فيه 77 في المائة من المستفتين إلى إقالة الوزيرة، بينما طلب 13 في المائة استمرارها في منصبها. ولم يحسم 10 في المائة أمرهم.
ومنذ تسلمها منصبها في ديسمبر 2021، شكّلت تصريحات لامبرخت بعيد الغزو الروسي لأوكرانيا معضلة حقيقية لبلد بحجم ألمانيا، حين ذكرت أنها ستساعد بإرسال خمسة آلاف خوذة للجنود الأوكرانيين. ولا يتعلق الأمر ببطء تحرك وزارتها على مستوى دعم أوكرانيا والجهود الغربية في هذا السياق، وهي التي خلقت انطباعات عن وجود توتر حقيقي بين حلفاء برلين الغربيين من مواقف الوزيرة الضمنية. واتهمها البعض بأنها تعارض استمرار دعم أوكرانيا. وعلى مستوى صرف ما خصصه السياسيون من مبلغ 100 مليار يورو لتحديث الجيش، تبدو الأمور في غير مصلحتها، مع تعالي الأصوات التي تصف ضعف وضع الجيش وتسليحه.
في الأشهر الأخيرة من العام الماضي، شهدت وزارة الدفاع الألمانية الكثير من النقاشات التي تكاد تكون قريبة من وصف "فضائح عسكرية"، ومرتبطة بالغزو الروسي لأوكرانيا، ومنها متعلق بالوعود الألمانية التي كشفت عن تأخير في الإمدادات العسكرية لأوكرانيا، وأخرى بالنقص الهائل للذخائر والأسلحة والمعدات العسكرية، ربطاً بتأخير خطة تحديث الجيش.
شكّلت تصريحات لامبرخت بعيد الغزو الروسي لأوكرانيا معضلة حقيقية لبلد بحجم ألمانيا
وفي السياق، لم يكن قادة الجيش راضين عن ما يحدث في أروقة وزارتهم، وعلى طاولات العقود. فعلى سبيل المثال، نشرت مجلة "فوكوس" في ديسمبر الماضي، تقريراً عن هدر مالي في غير محله، مرتبط بعقود شراء طائرات "أف 35" الأميركية. وتبين أن ألمانيا تدفع 286 مليون يورو للطائرة، بينما سويسرا تدفع نحو 167 مليون يورو، وفرق الثمن سيكلف دافعي الضرائب الألمان نحو 10 مليارات يورو.
واعتبر تقرير "فوكوس"، أن تعامل ألمانيا "بحسن نية" مع الجانب الأميركي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يُفقدها الكثير. فمثلاً يبقى الأميركيون، وفقاً للعقود، هم المسؤولون عن صيانة الطائرات، على عكس السويسريين وغيرهم ممن تعاقدوا على تدريب جيشهم على الصيانة. وأبعد مبدأ "حسن النية" طيلة العقود الماضية الألمان عن المشاركة في التكنولوجيا الحساسة لطائرة "أف 35".
حجر عثرة في الانسجام بين ألمانيا وأوروبا
أوكرانيا مجرد شرارة اشتعلت في وجه لامبرخت، وحفّزت وسائل الإعلام إلى استعادة شريطها الجدلي في مؤسسة الحكم الألمانية بقيادة أولاف شولتز. فالأخير اضطر بعد الامتعاض الغربي، وعلى رأسه الأميركي، إلى الاتصال بالرئيس جو بايدن لتأكيد التزام بلاده بزيادة دعمها لأوكرانيا.
وغير بعيد عن المشهد طارت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك إلى خاركيف، في الشمال الشرقي من أوكرانيا، الثلاثاء الماضي، مؤكدة أن برلين ستزيد دعمها لكييف لمواجهة الضربات الروسية.
ربما لم تكن لامبرخت نفسها حاجزاً أمام فتح ألمانيا مخزونات أسلحتها والدفع بدبابات "ماردير" إلى أوكرانيا، لكنها على ما يبدو شكّلت حجر عثرة في طريق الانسجام بين برلين والحلفاء الأوروبيين، خصوصاً الدول المتوجسة في شرق القارة وفي دول البلطيق. وسبق أن تعرضت لامبرخت لانتقادات عدة، ففي مايو الماضي، سمحت لابنها ألكساندر (21 سنة) بالانتقال على متن طائرة هليكوبتر تابعة للجيش الألماني، إلى جزيرة سيلت لقضاء عطلة عيد الفصح، في ذروة الغزو الروسي لأوكرانيا.
وقبل إعلان استقالتها، لم تتعامل لامبرخت مع "الشائعات الإعلامية" عن ضرورة استقالتها أو إقالتها، بيد أن سيل الزلات طاردها مثلما فعلت الفضائح، دافعة صحيفة "زود دويتشه زايتونغ" إلى القول إن ضغوطاً جرت في أروقة الحزب "الاشتراكي الديمقراطي" للبحث عن خليفة للوزيرة، على الرغم من أن وزارة الدفاع الألمانية شدّدت على أن "هناك شائعات لا نعلق عليها".
بدورها، ذهبت صحيفة "بيلد" المحلية إلى التأكيد أن "العديد من الأشخاص المطلعين على الأحداث يؤكدون أن لامبرخت على وشك الاستقالة". وربما تم ترتيب الأمور داخل صفوف "الاشتراكي الديمقراطي"، من أجل إيجاد الخليفة الأنسب للامبرخت.
ويتصدر قائمة الترشيحات للحلول مكان لامبرخت، المفوضة العسكرية عن "الاشتراكي الديمقراطي" في البوندستاغ، إيفا هوغل. كما يحضر اسم الخبير بسياسات الأمن الدولي فولفغانغ شميت، المقرّب من شولتز.
ويبرز اسم وزير العمل والشؤون الاجتماعية هوبرتوس هيل، الذي يشغل أيضاً منصب نائب رئيس الحزب "الاشتراكي الديمقراطي". مع العلم أن رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، كانت وزيرة للدفاع في ألمانيا عن "الاتحاد الديمقراطي المسيحي"، بين عامي 2013 و2019. وتنتظر خليفة لامبرخت مهمة شاقة في وزارة الدفاع التي يتوجب عليها المسارعة إلى إصلاح الجيش وتحديثه. وعلى ما يبدو فإن معارضة اليسار الألماني لصرف المزيد من المال على الجيش ستتراجع، مع كشف التقارير المتخصصة الأوضاع المقلقة للمؤسسة العسكرية الألمانية، وضرورة تغييرها.