مع توسع دائرة التوقيفات والاعتقالات التي تستهدف معارضي مسار الرئيس التونسي قيس سعيّد، والتي تشهدها تونس في الأيام الماضية، تتوالى المواقف الدولية المعبرة عن خطورة هذا التصعيد الذي تنتهجه السلطات التونسية والذي يهدد "مبادئ حقوق الإنسان".
وأعرب المتحدّث الرسمي باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس، أمس الأربعاء، عن "شعوره بقلق بالغ إزاء ما ورد من أنباء عن اعتقال العديد من الشخصيات السياسية وقادة الأعمال والصحافيين في تونس في الأيام الأخيرة".
وفي إحاطة صحافية نشرتها السفارة الأميركية في تونس، قال برايس: "نحترم تطلعات الشعب التونسي الذي يسعى إلى الحصول على قضاء مستقل شفاف قادر على حماية الحريات الأساسية للجميع (...) نتواصل مع الحكومة التونسية على جميع المستويات لدعم حقوق الإنسان وحرية التعبير".
وذكّر المتحدث بأن "من المبادئ الأساسية للولايات المتحدة أن يستطيع الأشخاص في جميع أنحاء العالم التعبير عن أنفسهم من دون خوف أو تعرض لرد انتقامي (...) وتتحمل جميع الحكومات مسؤولية صون هذا المبدأ الأساسي ودعمه".
وأعرب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، عن قلقه إزاء الحملة القمعية المتصاعدة في تونس ضد المجتمع المدني ومن يُفترض أنهم معارضون سياسيون للرئيس قيس سعيّد.
جاء هذا بحسب ما نقل المتحدث باسمه جيريمي لورانس، للصحافيين في جنيف، أول من أمس الثلاثاء، مشيراً إلى التقارير التي أفادت باعتقال تسعة أشخاص على الأقل واحتجاز بعضهم، منذ يوم السبت، بتهم تتعلق بالأمن والكسب غير المشروع.
وأشارت المفوضية السامية لحقوق الإنسان إلى أن المدعي العام التونسي بدأ، بشكل متزايد، في اتخاذ إجراءات جنائية ضد من يفترض أنهم معارضون للرئيس، واتهمهم بـ"التآمر على أمن الدولة"، أو التسبب في إهانة رئيس الدولة، أو انتهاك مرسوم قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية.
من جانبها، أعربت المفوضية عن القلق إزاء مثول بعض المحتجزين بتهم تتعلق بانتقاد الحكومة أمام محاكم عسكرية.
وتابع لورانس: "ندعو السلطات إلى الكف فوراً عن الممارسات المتعلقة بمحاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية".
وحثت المفوضية السلطات التونسية على احترام الإجراءات القانونية ومعايير المحاكمة العادلة في جميع الإجراءات، والإفراج الفوري عن جميع المعتقلين تعسفياً.
وأضاف لورانس أنه منذ يوليو/تموز 2021، اتخذت السلطات أيضاً سلسلة من الإجراءات التي قوضت استقلال القضاء، بما في ذلك حل مجلس القضاء الأعلى وإقالة 57 قاضياً. داعياً "السلطات إلى العمل على مواءمة تشريعات وإجراءات وممارسات قطاع العدالة مع القواعد والمعايير الدولية المعمول بها، ومن خلال الفصل بين السلطات، لدعم استقلال القضاء وسيادة القانون".
كذلك، قال الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيف بوريل، في كلمة ألقتها نيابة عنه المفوّضة السامية هيلينا دالي، خلال جلسة عامة بالبرلمان الأوروبي أول من أمس الثلاثاء، إنّ "الشراكة مع تونس متجذّرة في القيم المشتركة على غرار الديمقراطية ودولة القانون وحقوق الإنسان، بما في ذلك الحريات الأساسيّة".
وأضاف: "نعتقد أن احترام الحق في محاكمة عادلة ومتطلّبات الإجراءات القانونية، التي من بينها شفافية القضاء، من الرّكائز الأساسية".
وأبرز أنّ الحوار الشامل بات ضروريّاً بين كافة المتداخلين السياسيين والفاعلين في المجتمع المدني، "من أجل التوصّل إلى توافق واسع".
وأشار في هذا الجانب إلى أنّ "قيم الاتحاد في هذا الشأن واضحة، معتبراً أنّ احترام الحق في محاكمة عادلة وعدالة شفافة أمر أساسي، كما أن الشراكة مع تونس ترتكز على القيم المشتركة على غرار الديمقراطية ودولة القانون وحقوق الإنسان، إضافة إلى الحريات الأساسية".
من جهته، رد الوزير الجديد للشؤون الخارجية التونسية نبيل عمار على بعض المواقف الدولية في تصريح لوكالة "تونس أفريقيا" للأنباء، معتبراً أن "تصريحات بعض الجهات الأجنبية بخصوص الإيقافات الأخيرة متسرّعة وغير دقيقة وتمس استقلالية القضاء التونسي".
وأضاف: "الإيقافات الأخيرة كانت بسبب قضايا خطيرة تتعلق بالأمن القومي للدولة التونسية، ولا علاقة لها بالنشاط السياسي أو الحقوقي أو الإعلامي"، مؤكّداً على أن "النّاشط في هذه المجالات يبقى مواطناً عادياً يتمتع بكافة حقوقه، وفي نفس الوقت يخضع للمساءلة القانونية من دون تمييز".
ويؤكد الباحث في العلاقات الدولية بشير الجويني، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن ردود أفعال الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية والمفوضية الأممية لحقوق الإنسان لا تخرج عن المواقف الدولية السابقة، وهي نتيجة المتابعة من كثب لما يحدث في تونس، كما ونتيجة علاقات تونس الخارجية بعد 25 يوليو/ تموز 2021، والتي تدار في جزء منها بقدر كبير من الارتجال وغياب الحرفية، يقودها قيس سعيّد لفائدة مشروعه الخاص، محاولاً تطويع كل أجهزة الدولة لفائدة هذا المشروع، بما فيها أجهزة الخارجية والداخلية والعدل، والتي تعد أسس تحقيق هذا المشروع".
وأوضح: "لا يخفى أن البلدان والأطراف الخارجية تعلم جيداً ما يحدث في تونس وما قام به وزير خارجيته السابق من حديث عن تصحيح مسار، ليتبين بالكاشف أنه انقلاب استعمل فيه سعيّد كل هذه الأمور من أجل مغالطة أجزاء من التونسيين، ولكن الجهات الخارجية الوازنة تعلم جيداً عبر مراكز دراساتها وسفرائها ومتابعتها ما يحدث فعلاً، وما يقدمه سعيّد على أساس أنه محاولة إصلاح".
وبين المتحدث أن "ما يجمع بين المواقف الثلاثة هو اللهجة التي أصبحت أكثر وضوحاً في عدم السماح بالاعتداء على حقوق الإنسان وفي المحاكمة العادلة وغيرها من الأساسيات، التي ظننا أنها حسمت بعد 2011 وفي دستور 2014".
وتابع: "بالنسبة للمواقف الخارجية، فهي مواقف طبيعية منسجمة مع رؤية هذه البلدان لما يحصل في تونس، وهي لا تدافع بالضرورة عن الديمقراطية في البلاد، بل تسعى للحفاظ على مصالحها". وقال الجويني إن "سعيّد يقوم بثلاثة أشياء رئيسية، أولاً استعمال أجهزة الدولة لقمع معارضين، وثانياً محاولة الإساءة إلى النخبة ومن يخالفه ويعارضه، ثم هناك تهديد جدي لحقوق الإنسان في تونس، وأبرزها الحق في محاكمة عادلة، وأن المتهم بريء حتى تثبت الإدانة".
وأفاد المتحدث بأن "هناك موجة شعبوية كبيرة يستغلها سعيّد ومن معه لتصفية حساباتهم مع الخصوم، ولكن الواقع الاقتصادي الضاغط على سعيّد سيعجل بنهايته".
"رابطة حقوق الإنسان" تدعو للكف عن "تجريم الرأي"
وقالت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، الخميس، إنها تتابع باهتمام كبير ارتفاع وتيرة الاعتقالات التعسفيّة في حقّ العديد من النشطاء النقابيين والسياسيّين والإعلاميين والمحامين، والذين تمّت ملاحقتهم على خلفيّة نشاطهم ومُعارضتهم لسياسة رئيس الجمهوريّة وخيارات حكومته.
وأوضحت الرابطة أن عدداً من التهم وجهت للنشطاء تتعلّق بمكافحة الإرهاب، مشيرة إلى أنهم مُنعوا أيضاً من مقابلة محاميهم، خلال الـ48 ساعة الأولى، فيما لم يتمّ إعلام البعض الآخر بالتهم الموجهة لهم حال إيقافهم.
وأضافت أن "أحد النشطاء السياسيين الموقوفين تعرّض للاعتداء بالعنف الشديد من قبل أعوان الأمن، ممّا خلف له أضراراً بدنية بالغة".
كما سجّلت الرابطة حملة الإيقافات على إثر مداهمات ليلية "تضمنت العديد من الخروقات القانونية وبطريقة استعراضية عنيفة توحي بتوخي وزارة الداخلية سياسة الترهيب والتخويف والهرسلة، من ذلك إيقاف المدير العام لإذاعة موزاييك نور الدين بوطار بعد مُداهمة منزله وتفتيشه، دون إعلامه بسبب الإيقاف وبالتُهم المُوجّهة".
كما حذرت الرابطة من المساس بالحقوق والحريّات، رافضة "كل أشكال التضييق والهرسلة غير القانونية في حقّ النشطاء النقابيين والسياسيّين والإعلاميين والمحامين، بسبب رأيهم المخالف وممارستهم لحقهم في التعبير والنقد".
ودانت الرابطة "خطاب التحريض والتخوين الذي ينتهجه رئيس الجمهورية وتأثيره على القضاء من خلال إدانته للخصوم السياسيين وإصداره أحكامًا بوصفهم بالمجرمين والإرهابيين قبل اختتام الأبحاث والتحقيق، وإصدار الأحكام من قبل القضاة، مما يمثّل انتهاكا لقرينة البراءة وخرقاً لمبادئ المحاكمة العادلة المنصوص عليها بالمواثيق والمعاهدات الدولية".
تنديد بظروف احتجاز السياسي الأزهر العكرمي
من جهة أخرى، أكدت هيئة الدفاع عن السياسي والمحامي الأزهر العكرمي، الموقوف منذ الأحد في قضية التآمر على أمن الدولة، أن ظروف احتجازه غير إنسانية.
وأوضحت الهيئة، في بيان لها اليوم الخميس، أنها "إثر الزيارة التي أدتها إلى مركز الاحتفاظ ببوشوشة، تبيّن لها أن العكرمي يخضع إلى ظروف احتجاز غير إنسانية، مؤكدة أنه يقبع في غرفة ضيقة تضم أكثر من 100 شخص، من دون أدنى المرافق الأساسية التي تلبي الحاجات الإنسانية، كالنوم".
وقال عضو هيئة الدفاع عن العكرمي، والرئيس الأسبق للمحامين عبد الرزاق الكيلاني، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "العكرمي زُجّ به في نفس القضية التي عُرفت بالتآمر على أمن الدولة ومحاولة قلب النظام، فقط بسبب احتساء قهوة مع الناشط السياسي خيام التركي"، مبيناً أن "مندوبهم تحدث عن ظروف غير إنسانية في غرفة مكتظة تتسع لعشرات السجناء". وبين الكيلاني أن "العكرمي أكد أن ظروف الاحتفاظ غير إنسانية وذلك خلال أول لقاء جمعهم به".
إلى ذلك، قال الحزب الاشتراكي إن أمينه العام، المنصف الشريقي، تلقى دعوة للتحقيق "للضغط على الأحزاب المعارضة لمسار 25 يوليو".
واعتبر الحزب الاشتراكي أن الدعوة التي تم توجيهها لأمينه العام للمثول أمام التحقيق "جاءت للضغط على الأحزاب السياسية الديمقراطية والتقدمية، التي عارضت مسار 25 يوليو واعتبرته فاشلاً، خاصة بعد نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة".
وأوضح الحزب، في بيان صادر عنه اليوم الخميس، أنه تمت دعوة الشريقي إلى المثول أمام الفرقة المركزية للحرس الوطني بالعوينة، يوم الاثنين 20 فبراير/شباط 2023، "للبحث على خلفية تصريحات أدلى بها في برنامج تلفزيوني في 2019″.
وجدد الحزب الاشتراكي التأكيد على معارضته مسار 25 يوليو الذي قال إنه "يهدد مكاسب الجمهورية"، وكذلك معارضته "جملة المراسيم التي اعتمدها الرئيس قيس سعيّد لبسط مشروعه الخاص"، وفق نص البيان.
سعيد يهاجم منتقديه ويصوّب على واشنطن
من جانبه، هاجم الرئيس التونسي، قيس سعيّد، منتقديه في الداخل والخارج بشأن ضرب حرية التعبير والحقوق.
وقال سعيّد، خلال لقاء جمعه برئيسة الحكومة نجلاء بودن رمضان، الخميس، إن هناك "من يتباكى على حرية التعبير فيما يدلي بتصريحات يوميا في القنوات الإذاعية والتلفزية، وما يسمى بوسائل التواصل الاجتماعي".
وأضاف الرئيس التونسي: ''من المفارقات الغريبة في تونس أن هناك من يهدد بالاغتيال ويكرر ذلك على مسامع الجميع والأدلة واضحة، في حين أنه تحت حماية الأمن.. وهناك من يتباكى على حرية التعبير رغم أنه لا يملك حرية التفكير، بل مأجور من قبل القوى التي تعمل في الظلام".
وذكر: "اليوم يتحدثون عن حرية القلم، فهل تم حجب صحيفة واحدة أو منع برنامج واحد؟ وهل تمت ملاحقة أي صحافي من أجل عمل يتعلق بحرية الصحافة؟"، واستدرك: "للأسف أكاذيب وأراجيف يعلمها الشعب، وستأتي الحقيقة بالنسبة للتونسيين".
وفيما يبدو ردا على موقف الخارجية الأميركية وتعبيرها عن القلق البالغ بعد الاعتقالات الأخيرة في تونس، قال سعيد: "نحن لم نبعث ببرقيات ولم ندل بتصريحات تعبّر عن انشغالنا بأوضاع الحقوق والحريات بعدد من العواصم التي تصدر عنها مثل هذه البيانات.. سيادتنا فوق كل اعتبار، وفكرة الحرية قمنا باستبطانها قبلهم بكثير.. فلينظروا في تاريخهم قبل النظر في تاريخنا، ولينظروا في واقعهم قبل أن يتحدثوا عن الأوضاع في تونس".