- انخفاض متوسط عدد الشهداء اليومي ومنع إدخال المساعدات عبر معبر رفح يعكس تغييراً في وتيرة العمليات العسكرية ومحاولة لتقليص النفوذ المصري في غزة.
- الجمود الميداني يبدو متعمداً لأسباب سياسية داخلية إسرائيلية، مع رغبة في تجاهل القضية الفلسطينية ويستوجب استراتيجية فلسطينية تستند إلى إنهاء الانقسام وتكريس الوحدة السياسية والجغرافية.
ساد جمود الواقع الميداني في قطاع غزّة طوال شهرٍ ونصفٍ تقريباً، أيّ منذ منتصف فبراير/شباط حتّى أواخر مارس/آذار، قبل أن يتغير المشهد نسبياً مع توغلاتٍ مفاجئةٍ لجيش الاحتلال في غزّة، وخانيونس، ومحاصرة مستشفيات الشفاء وناصر والأمل واقتحامها.
تبدت معالم الجمود الرئيسية بعد الانسحاب الإسرائيلي من شمال القطاع؛ غزّة، وبيت لاهيا، وبيت حانون، ثم من خانيونس جنوباً، وتسريح كلّ قوات الاحتياط، وجزءٍ مهمٍ من القوات النظامية في جيش الاحتلال، ما مثّل نهاية المرحلة الثانية من العدوان على غزّة، لكن مع استمرار الجدل حول ملفي المنطقة الوسطى ورفح بعيداً عن الإعلام، مرفقاً باجتياحاتٍ وتوغلاتٍ ضيّقةٍ وغير موسعةٍ، وغاراتٍ جويةٍ مكثفة، إذ بدا بعضها أقرب إلى اغتيالاتٍ موضعيةٍ ومحددةٍ، في ما بدا تمهيداً للعملية البرية، أو استغناءً عنها في حال تعذّرها.
في المشهد الميداني؛ وطوال الفترة السابقة، تقلص حجم المساعدات الواردة إلى غزّة، خصوصاً في الشمال، لإيقاع نكبةٍ جديدةٍ بالشعب الفلسطيني، وجعل المنطقة غير قابلةٍ للحياة، وإجبار أهلها على النزوح جنوباً، والابتزاز في مفاوضات الهدنة أيضاً، والمساومة على عدد النازحين الذين سيسمح لهم بالعودة، كما على كمية وعدد الشاحنات التي كان يفترض أن تصل أصلاً خلال الفترة السابقة.
علماً أن المعبر يمثل آخر معالم النفوذ المصري في غزة والقضية الفلسطينية؛ العلاقة باردة مع رام الله التي تميل أكثر إلى عمان والرياض
شهدت الفترة نفسها انخفاضاً في متوسط عدد الشهداء اليومي إلى 100 شهيدٍ يومياً، وبالطبع لا يزال العدد كبيراً، لكنه أقلّ بكثيرٍ من المتوسط الإجمالي للحرب، 200 شهيدٍ يومياً، والذي كان في أيّام وأسابيع العدوان الأولى نحو 400 شهيدٍ تقريباً.
كذلك كان من المفترض أن تشهد المرحلة الثالثة بعد انتهاء الاجتياحات الموسعة، انكفاء جيش الاحتلال إلى المنطقة العازلة الحدودية، والاحتفاظ بالسيطرة على ممر الشهداء (نتسريم)، الذي يفصل القطاع إلى نصفين. إضافةً إلى توغلاتٍ واجتياحاتٍ موضعيةٍ محددةٍ لساعاتٍ أو أيّام، وغاراتٍ جويةٍ أقلّ كثافةً، وعدد قواتٍ مقلصٍ أكثر.
وصف الوزير المتطرف جدعون ساعر المشهد الميداني السابق بأنّه شبيهٌ بالاكتفاء بتمرير الكرة في منتصف الملعب في أثناء المباريات، بمعنى المراوحة في المكان، وغياب أيّ نيّاتٍ هجوميةٍ للاحتلال تجاه رفح والوسط تحديداً.
إذن، لم يعلن الاحتلال رسمياً الانتهاء كلّياً من المرحلة الثانية، والانتقال إلى الثالثة في عموم القطاع، لأسبابٍ سياسيةٍ بحتة، منها محاولة الابتزاز والضغط على مفاوضات الهدنة غير المباشرة مع حماس، المتنقلة بين باريس والقاهرة والدوحة، إضافةً إلى التهرّب من الحسم تجاه سيناريو أو تصور اليوم التالي للحرب، وحتّى الوضع في المواقع التي انسحب منها الاحتلال، أو للدقة التي أعاد انتشاره في محيطها، ولا يقلّ عن ذلك أهمّية حرصُ بنيامين نتنياهو على عدم إغضاب اليمين المتطرف والمهووس، الذي يهدد بالانسحاب من الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ الدولة العبرية، وإسقاطها في حالة إنهاء الحرب، أو حتّى خفض وتيرتها رسمياً، من دون تحقيق أهدافها المعلنة والمستحيلة أصلاً، خصوصاً تفكيك قدرات حماس العسكرية والسلطوية، وإزاحتها عن المشهد الغزاوي والفلسطيني عامةً.
قال نتنياهو أنه لا يريد حماستان في غزّة، ولا يريد عودة السلطة الفلسطينية، أو فتحستان، حسب تعبيره، ولا يريد وكالة "أونروا" أيضاً، التي يعمل على إخراجها من المشهد الغزاوي والفلسطيني عموماً، وهو يسعى، في أحسن الأحوال، لحكمٍ ذاتيٍ ناقصٍ من دون أيّ إطارٍ أو أفقٍ سياسي في غزّة، عبر تحديث فكرة روابط القرى، سيئة الصيت، الساقطة منذ ثمانينيات القرن الماضي، وفي أسوأها خلق حالة فوضى لدفع قوىً عربيةٍ ودوليةٍ إلى التدخل وملء الفراغ، وفق الخطوط الحمراء، وقواعد اللعبة المرسومة إسرائيلياً.
من هذه الزاوية كان منع إدخال المساعدات من طريق البر المجدي أكثر، معبر رفح تحديداً، حيث تتكدس شاحنات المساعدات عمداً، في مسعى واضحٍ لجلب التدخل الإقليمي والدولي، ضمن الأمر الواقع الذي فرضه الاحتلال، كما لتقليص حضور مصر والضغط عليها وابتزازها، في ما يخصّ العملية في رفح، علماً أن المعبر يمثل آخر معالم النفوذ المصري في غزة والقضية الفلسطينية؛ العلاقة باردة مع رام الله التي تميل أكثر إلى عمان والرياض، فضلاً عن الفائدة الاقتصادية لنظام عبد الفتاح السيسي الفاشل والمأزوم منه.
كان من المفترض أن تشهد المرحلة الثالثة بعد انتهاء الاجتياحات الموسعة، انكفاء جيش الاحتلال إلى المنطقة العازلة الحدودية، والاحتفاظ بالسيطرة على ممر الشهداء (نتسريم)
يمثّل إسقاط المساعدات الإنسانية جوّاً تعبيراً عن الأزمة أيضاً، ومسكناً ليس أكثر، لكون غزّة تحتاج إلى 274 طلعةٍ يومياً، في حين تُعَدّ الطلعات الآن على أصابع اليد الواحدة، أو اليدين في أحسن الأحوال، إذ بلغ عددها الإجمالي 150 طلعةً خلال شهرٍ تقريباً.
في السياق نفسه؛ بدا الممر البحري لإيصال المساعدات الإنسانية إلى غزّة كسراً للواقع الراهن، إلّا أنّه في الجوهر يمثّل تساوقاً وتماهياً مع خطط نتنياهو، باعتباره مُسكناً لا يغني من جوع، ويزيد انخراط القوى الدولية والإقليمية في المشهد الغزاوي، عبر تحمّل المسؤولية المدنية إلى جانب الاحتلال، أو للدقة عوضاً عنه.
وعليه؛ لن يحل الممر البحري، قبرص غزة، المشكلة، كذلك تعترضه عوائق وأزماتٌ سياسيةٌ وأمنيةٌ ولوجستيةٌ، أبرزها الجهة التي ستأخذ على عاتقها تأمين توزيع المساعدات، وحماية الرصيف العائم في غزّة الخاضع بحرياً لسيطرة القوات الأميركية، علماً أنه سيكون تحت وصاية جيش الاحتلال برياً، ولشهورٍ طويلةٍ، ما يعني أن لا انسحاب نهائياً من غزّة، أقلّه في المدى المنظور.
حدث تغيرٌ طفيفٌ في المشهد الميداني في الأسبوع الأخير من مارس، غير أنّه لم يكن جوهرياً، وبدا تعبيراً فظّاً عن المرحلة الثالثة، لجهة تنفيذ إسرائيل توغلاتٍ واجتياحاتٍ مفاجئةٍ، خصوصاً في منطقة المستشفيات المركزية في غزّة وخانيونس، من أجل القضاء على ما تصفه بـ"جيوب المقاومة"، أو جزّ العشب وفق المصطلح الدموي والعنصري السائد، وتطبيق نموذج جنين، نابلس، طولكرم في الشجاعية، الزيتون، خانيونس حسب التعبير الحرفي لعضو مجلس الحرب الجنرال بيني غانتس.
في الأخير وباختصارٍ وتركيزٍ، يبدو الجمود الميداني في غزّة متعمداً، لأسبابٍ سياسيةٍ إسرائيليةٍ داخليةٍ، لكنه يمثل هروباً إلى الأمام أيضاً، ويستبطن رغبةً في العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، وتجاهل جذر القضية الفلسطينية السياسي، وفرض حصارٍ وسيطرةٍ عملياتيةٍ كاملةٍ على غزّة، وإشغالها بنفسها لسنواتٍ، بل عقودٍ طويلةٍ، والحفاظ على الانقسام والتباعد مع الضفّة الغربية، ما يستوجب بالضرورة استراتيجيةً فلسطينيةً مناقضةً، تستند إلى إنهاء الانقسام وتكريس الوحدة السياسية والجغرافية بين غزّة والضفّة، والإصرار على عدم مساعدة الاحتلال في الخروج من المستنقع والوحل الغزاوي، وشق مسارٍ سياسيٍ جديٍ وصادقٍ يمكّن الفلسطينيين من تحقيق آمالهم الوطنية المشروعة في السيادة والاستقلال وتقرير المصير.