قراءة سياسية للواقع الاقتصادي في الداخل والشتات

27 ديسمبر 2020
تفاقمت الأزمات الاقتصادية بعد جائحة كورونا (حازم بدر/فرانس برس)
+ الخط -

أعتقد أن من الصعوبة بمكان شرح وفهم الواقع الاقتصادي للفلسطينيين في الداخل والشتات دون أخذ الواقع السياسي بالاعتبار. والحقيقة أن الواقع الاقتصادي السيئ هو نتاج مباشر للواقع السياسي السيئ، وحتى البائس وغير المسبوق في التاريخ الفلسطيني الحديث. 
يمكن الحديث عن معطى سياسي عام يؤثر مباشرة وبشكل كبير بالواقع الاقتصادي الفلسطيني، ثم عن معطيات فرعية تتعلق بالتوزع الجغرافي للفلسطينيين بين غزة والضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 1948، والشتات الذي يمكن تقسيمه أيضاً بين شتات قديم بمخيمات اللجوء في سورية ولبنان، وجديد في التجمعات الفلسطينية الناشئة في أوروبا وأميركا الشمالية والجنوبية. 
المعطى العام يتمثل بالانقسام السياسي الفلسطيني غير المسبوق أيضاً والناتج من غياب المرجعية أو الإطار القيادي الفلسطيني الأعلى المفترض أن يضع الاستراتيجيات العامة ويشرف على حياة الفلسطينيين بجوانبها المتعددة في أماكن وجودهم المختلفة، بما فيها الجانب الاقتصادي طبعاً.
في التفاصيل، يمكن الإشارة إلى تداعيات اقتصادية هائلة لغياب المرجعية والقيادة الموحدة على التجمعات الفلسطينية المختلفة بالداخل والشتات، والبداية بغزة حيث الأوضاع الاقتصادية الأكثر كارثية وبؤساً بين التجمعات كافة، ونسب الفقر والبطالة تعتبر الأعلى عالمياً، لدرجة أن أربعة أخماس السكان يعتمدون على المساعدات "الغذائية" الإنسانية والإغاثية من قبل الأمم المتحدة ومنظمات خيرية أخرى، حتى باتت غزة مكاناً غير قابل للعيش، حسب تقدير رسمي للأمم المتحدة.
تعاني غزة حصاراً ثلاثياً وعقوبات اقتصادية لتحصيل وجني مكاسب سياسية من قبل أطراف الحصار الثلاثة: الاحتلال الإسرائيلي والنظام المصري وقيادة السلطة في رام الله التي تدعي شرعية بل حصرية تمثيلها للفلسطينيين. 
يربط الاحتلال أي تخفيف للحصار وتحسين الواقع الاقتصادي بتقديم حماس وسلطة غزة تنازلات سياسية تتعلق بالتهدئة، رغم أنها واقعة فعلاً بحيث باتت هي القاعدة والتصعيد بمثابة الاستثناء طوال السنوات السابقة، وأخيراً وصل الابتزاز الإسرائيلي إلى حد استغلال التدهور الاقتصادى بظل جائحة كورونا لدفع حماس إلى القبول بصفقة تبادل أسرى لا تلبي الحد الأدنى المقبول فلسطينياً، وفق السوابق التاريخية المماثلة.
وفي ما يتعلق بغزة أيضاً، فإن تفاهمات التهدئة كانت دائماً اقتصادية الطابع بإطار سياسي. وعلى سبيل المثال، فإن آخر تفاهم جرى التوصل إليه بوساطة مشتركة للنظام المصري والأمم المتحدة في تشرين الأول/ أكتوبر 2018 تحدث عن ثلاث مراحل تتضمن إقامة مشاريع اقتصادية متدرجة الحجم، وصولاً إلى إعادة بناء المطار والميناء، وبالتالي إلى رفع نهائي للحصار مقابل تهدئة طويلة المدى.
أمر مماثل يمكن قوله عن نظام السيسي الملتزم تماماً سقف السياسة الإسرائيلية وانخراطه في الحصار عبر منع إدخال المساعدات أو استخدام معبر رفح لغايات اقتصادية، هدفها الأساسي ابتزاز حماس وسلطة غزة لالتزام الشروط الإسرائيلية للتهدئة، إضافة إلى مساعدة النظام أمنياً في حربه اليائسة والخاسرة والغاشمة ضد داعش وسيناء وأهلها بشكل عام.     
سلطة رام الله انضمت إلى الحصار بذهنية مماثلة، وفرضت عقوبات اقتصادية صارمة طاولت حتى موظفيها، وجلّهم من أعضاء حركة فتح، وهي تسعى إلى انتزاع تنازلات من حماس وسلطتها في ما يتعلق بالمصالحة وإنهاء الانقسام دون نتائج حتى الآن، سوى مفاقمة الأوضاع البائسة التي يعيشها أهل غزة الذين تحملوا العقوبات ولا مبالاة السلطة تجاههم بشكل عام.
الضفة الغربية، رغم أنها تبدو مستقلة شكلاً، إلا أنها مرتبطة ومتعلقة تماماً بالاحتلال، وتحديداً من الجانب الاقتصادي، ولا يمكن للأسف الحديث عن اقتصاد فلسطيني مستقل، ورغم انخفاض نسب البطالة والفقر بشكل عام بسبب العدد الكبير للعمالة  الفلسطينية في إسرائيل، إلا أن الثمن السياسي يبدو كبيراً وباهظاً.
اقتصادياً، بدت قصة المقاصة الأخيرة وكأنها تحتصر الواقع، ليس فقط الاقتصادي، بل حتى السياسي في الضفة وغزة، لجهة التعلق التام بالاحتلال وارتهان الاقتصاد الفلسطيني له، وبقاء السلطة ككيان للحكم الذاتي المحدود دون أفق سياسي. أما الأسوأ، فيتمثل بالرضوخ أو القبول بالانفصال والانقسام كأمر واقع ومقبول في الضفة وغزة على حد سواء. 
وعموماً، يبدو المشهد الفلسطيني العام بالداخل، وخاصة في الضفة الغربية، وكأننا أمام قبول غير معلن بالسلام الاقتصادي الذي يروّج له رئيس الحكومة بنيامين نتن ياهو واليمين الإسرائيلي بشكل عام، كحلّ للصراع في فلسطين دون إعطاء الفلسطينيين حقوقهم السياسية في السيادة والاستقلال وتقرير المصير.
أما في الأراضي المحتلة عام 1948، فتبدو الأوضاع الاقتصادية للفلسطينيين أفضل نسبياً أيضاً، إلا أن التمييز الاقتصادي صارخ ضدهم، وغياب المرجعية االفلسطينية الموحدة، كذلك فإنّ الدعم العربي لهم تركهم وحدهم في مواجهة العنصرية الإسرائيلية الممنهجة بحقهم. فعلى سبيل المثال، ورغم أنهم يمثلون خمس السكان، إلا أن نصيبهم من الميزانيات وحتى الوظائف الحكومية يقلّ عن خمسة بالمائة. 
في الشتات القديم، وتحديداً في مخيمات لبنان وسورية، تبدو الأوضاع الاقتصادية جدّ سيئة وشديدة الشبه بغزة، وأصل المشكلة ليس فقط غياب المرجعية الفلسطينية الموحدة، بل حتى غياب سلطة محلية تتولى الإشراف على شؤونهم الحياتية، ولو بالحد الأدنى، ومع أجواء الاستبداد الطاغية في لبنان بالفترة الاخيرة تقلص هامش حركة منظمات المجتمع المدني وقدرتها على تقديم المساعدات المناسبة للاجئين، وخاصة مع الأزمة المالية الخانقة التي تعانيها وكالة الأونروا، باعتبارها المسؤولة المركزية عن تقديم الخدمات للاجئين في مناحيها المختلفة الصحية والتعليمية أساساً. 
تبدو الأوضاع أفضل في الشتات الجديد، وهي ناتجة أساساً من المستوى الاقتصادي الجيد في البلدان التي يعيش فيها اللاجئون الجدد "القدامى"، وخاصة في أوروبا، ورغم غياب المرجعية أو القيادة الفلسطينية الموحدة، إلا أن هامش الحرية لديهم واسع، وهم يحاولون القيام بما في استطاعتهم لتقديم المساعدة الاقتصادية الممكنة للقطاعات الأكثر حاجة، كما في غزة ولبنان ولاجئي سورية في تركيا، أو حتى في المخيمات داخل سورية نفسها.
في الأخير، يبدو الواقع الاقتصادي الفلسطيني سيئاً جداً، ولا يمكن مواجهته بأدوات اقتصادية فقط، التي هي بمثابة المسكنات فقط، وبما أن جذر الأزمة سياسي، فالتدخل لا بد أن يكون سياسياً أيضاً. والخطوة الأولى هي بالضرورة إنهاء الانقسام وتشكيل الإطار المرجعي الأعلى الذي يرسم الاستراتيجية الشاملة والعامة، بما فيها الاقتصادية، ويستفيد من إمكانات وطاقات الفلسطينيين العالية جداً، مع الانتباه إلى حقيقة جد مهمة أيضاً، مفادها استحالة المضيّ قدماً في إدارة الصراع مع إسرائيل حتى انتزاع الحقوق وتحقيق الأمال الوطنية دون تحسين الواقع الاقتصادي، ولو بالحد الأدني، لكون الصراع ماراثونياً لم ولن يحسم خلال سنوات، وربما حتى عقود قادمة أيضاً.