يعيش التونسيون تحت وقع ثلاثة أحداث تزامنت من حيث التوقيت والسياق، لكن الذي يقف وراءها شخص واحد، هو الرئيس قيس سعيّد الذي يواصل طريقه بنسق متصاعد نحو بناء جمهوريته التي يحلم بها ويعمل على تجسيدها على أرض الواقع.
الحدث الأول هو قانون الانتخابات الذي نُشر في الرائد الرسمي، في 15 سبتمبر/أيلول الحالي، والذي سيكون بمثابة الرصاصة الأخيرة الموجهة ضد الأحزاب، رغم أنه لم يقص مشاركة الأحزاب بلافتاتها والمنتمين إليها وشعاراتها. أما الحدث الثاني، فيتعلق بقرب التوافق مع صندوق النقدي الدولي بعد التوصل إلى اتفاق مع القيادة النقابية التي قبلت في النهاية بالإصلاحات التي اشترطها الصندوق، والتي ستكون موجعة ومكلفة للجميع. والحدث الأخير يتمثل في فتح ملف تسفير الشباب إلى سورية، وذلك باستنطاق عدد من قيادات حركة "النهضة"، في مقدمتهم رئيسها راشد الغنوشي من قبل القضاء.
ملف التسفير في فخّ التوظيف السياسي
يعتبر تسفير المئات من الشباب التونسي للقتال في بؤر التوتر مثل سورية وليبيا، جريمة وتهديداً للأمن القومي. وقد مرّت على ذلك أكثر من عشر سنوات من دون أن يتم الكشف عمن وراء هذه الظاهرة الخطرة تشجيعاً وتيسيراً وتمويلاً. وقد سبق اعتقال عشرات الأشخاص ممن اعترفوا بتكوين شبكات للتسفير وصدرت في شأنهم أحكام قوية ونافذة.
بدل تثبيت تهمة "التسفير" ضد "النهضة" التي تمر بمرحلة ضعف، تستثمر الحركة في القضية للملمة صفوفها
بناء عليه، لا يمكن الاعتراض مبدئياً وسياسياً على عرض الملف من جديد على القضاء. لكنّ ما أثار مراقبين هو توجيه أصابع الاتهام إلى حركة "النهضة" ومحاولة تحميل قادتها المسؤولية القانونية والسياسية عن الوقوف وراء هذه الجريمة، وذلك بناءً على مجرد شكوى رفعتها نائبة سابقة (فاطمة المسدي) كانت ولا تزال في خصومة معلنة وحادة مع الإسلاميين.
ومع أن المؤسسة القضائية في تونس غير معنية من حيث الأصل بالسياق السياسي عند النظر في أي قضية معروضة عليها، إلا أنه لا يمكن للمراقب أن يقفز على الواقع الراهن، الذي يشهد تصعيداً بين رئاسة الجمهورية وبين عموم المعارضة، وفي مقدمتها "النهضة" وقياداتها التاريخية والمركزية.
هذا من شأنه أن يضفي طابعاً سياسياً واضحاً على هذه القضية، وهو ما أكده عضو اللجنة البرلمانية السابقة التي تعهدت بملف التسفير، الصحبي بن فرج. وكان بن فرج من ضمن الوفد الذي ذهب إلى دمشق والتقى رئيس النظام السوري بشار الأسد، وتوصّل إلى عقد اتفاق مع البرلمان السوري لتشكيل لجنة برلمانية مشتركة، لكن ذلك الاتفاق لم يلق تجاوباً من قبل السلطة يومها. بناء عليه، يقر الصحبي بن فرج اليوم بأن الملف "جرى استغلاله من أجل توظيفه سياسياً".
في غياب الأدلة القطعية لإدانة القياديين في حركة "النهضة"، وجد المحقق نفسه مضطراً إلى أن يقرر إطلاق سراحهم في انتظار استكمال القضية. وبدل تثبيت التهمة ضد "النهضة " التي تمر بمرحلة ضعف وانحسار، يجري حالياً استثمار الأمر من أجل تقوية الحركة، ولملمة الصفوف، والانتقال من حالة التراجع والدفاع إلى حالة الهجوم على السلطة.
نحو برلمان تونسي محدود الصلاحيات
يتجه قطار الرئيس سعيّد سريعاً، نحو المحطة الأخيرة في مشروعه السياسي والتي يفترض بأن تتم بتاريخ 17 ديسمبر/كانون الأول المقبل. لكن قانونه الانتخابي أثار اعتراضاً واسعاً، ما دفع بالأغلبية الواسعة جداً من المعارضين إلى رفضه شكلاً ومضموناً. وأعلن 11 حزباً مقاطعة الانتخابات، في محاولة منها لإحداث الفراغ السياسي.
تدل كل المؤشرات على أن البرلمان المنتخب سيكون ضعيفاً وغير ذي وزن
والمتأمل في هذا القانون يلاحظ بأنه وُضع للقضاء نهائياً على مرحلة الانتقال الديمقراطي الذي يرى فيه سعيّد "ارتداداً على الثورة ومحاولة لسرقتها من قبل هذه الأحزاب". وتدل كل المؤشرات على أن الانتخابات ستجري في أجواء تكاد تكون خالية من التنافس والتعددية، كما سيكون البرلمان المنتخب ضعيفاً، وغير ذي وزن.
تونس في قبضة صندوق النقد
تستعد الحكومة لتلقي الدفعة الأولى من قرض صندوق النقد الدولي لمواجهة الضغوط المالية القوية التي تكاد تعصف بالاقتصاد التونسي. لكن المخاطر لا تزال قائمة، إذ يتفق الجميع على أن الإصلاحات التي سيجري العمل بها، ستكون ذات كلفة اجتماعية عالية رغم الجهود التي ستبذل من أجل التخفيف من وطأتها. ويأتي ذلك خصوصاً في غياب توافق وطني يدفع بالجميع إلى حالة من التضامن والتآزر.
حتى النقابات، وإن أظهرت نوعاً من القبول، لكن لا شيء يمنعها من أن تنتفض ضد الحكومة في حال ازدادت الضغوط المالية والاجتماعية على العمّال والموظفين. فموجة الغلاء مرشحة للتوسع، وأزمة السلع لن تنتهي بسرعة كما تروّج لذلك الجهات الرسمية. كما أن نسق التضخم الذي يكتسح العالم سيصيب التونسيين في مقتل، خصوصاً أن الدينار التونسي يواصل تراجعه أمام العملات العالمية.
بناء على هذا المشهد القاتم، ستشهد تونس خلال الأسابيع المقبلة اتساع رقعة الصراع السياسي بين الحكم والمعارضة. كما سيكتشف التونسيون أن الحلول السياسية التي يصر سعيّد على تنفيذها بمفرده لن يكون لها أي تأثير إيجابي على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ولن تمكن من إخراج البلاد من تجاوز أزماتها المتتالية. وهو ما من شأنه أن يقلل من شعبية الرئيس، ويضعه أمام تحدي الشرعية ومخاطر فقدان الاستقرار السياسي.