فرنسا والقضية الفلسطينية..50 عاماً من حركة التضامن

30 يناير 2022
تظاهرة مؤيدة للفلسطينيين في باريس، 22 /5/ 2021 (جيوفوري فان دير هاسيل/فرانس برس)
+ الخط -

لا تخلو معظم المدن الفرنسية الكبيرة من لجان وجمعيات تضامنية مع الشعب الفلسطيني، أو لجان تنسيقية بين جمعيات تضامنية مع فلسطين، جمعيات مهاجرين، نقابات، أحزاب سياسية يسارية تنظم أنشطة وحملات متعددة لتوعية الرأي العام حول ما يعانيه الشعب الفلسطيني من جرائم الاحتلال، وتطالب الحكومات الفرنسية المتعاقبة بالاعتراف بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، واتخاذ إجراءات رادعة بحق دولة الاحتلال نتيجة ممارساتها وجرائمها.

يعود تاريخ الحركة التضامنية في فرنسا إلى القرن المنصرم، أي هي حركة ذات تاريخ نضالي طويل حافل بالنجاحات وبالإخفاقات والفشل في أحيان كثيرة.

البدايات

لقد وُلدت هذه الحركة بعد حرب 1967 عندما شكلت "لجان فلسطين" في مجموعة من الجامعات المهمة، حيث كانت تقوم بتنظيم تظاهرات وفعاليات تحت عنوان أيام فلسطينية، تتضمن ندوات وأفلاما. ساهمت مجازر "أيلول الأسود" في تأسيس هذه اللجان وتحديدا في عام 1970، إذ ضمت اللجان عمالا وطلابا معظمهم من العرب، بالإضافة الى نشطاء من منظمة يسارية فرنسية ماويَة كانوا يقدَمون الدعم اللوجستي. كانت اللجان الفلسطينية على علاقات وثيقة مع المنظمات الفلسطينية في الشرق الأوسط (لبنان، فلسطين) وفي فرنسا، ولا سيما مع الممثلين غير الرسميين الأوائل لمنظمة التحرير الفلسطينية: محمود همشري وعز الدين القلق. كما تم في نهاية عام 1967 تأسيس جمعية التضامن الفرنسي العربي، من شخصيات ديغولية ويسارية، وأكاديميين متخصصين في العالم العربي، كان لهم دور لاحق في تأسيس العلاقات بين فرنسا الديبلوماسية ومنظمة التحرير الفلسطينية.

الانقسام الفلسطيني كشف عن مواقف مشروطة لسياسات الدعم 

في عام 1972 تمَ حلَ "لجان فلسطين" من أجل الانفكاك عن التأثير الماوي، وتشكيل حركة العمال العرب، كي تناضل من أجل مصالح وحقوق العمال العرب المهاجرين في أماكن عملهم وبغرض مساعدتهم في تحصيل أوراق الإقامة القانونية، ومن أجل تسييس العمال وتعزيز النضال من أجل القضية الفلسطينية.

بعد حرب أكتوبر 1973، أي في منتصف السبعينيات تم تأسيس الجمعية الطبية الفرنسية الفلسطينية من قبل مجموعة من الأطباء المقربين من الرابطة الثورية الشيوعية، أو الحزب الاشتراكي الموحد والحزب الشيوعي الفرنسي، التي ضمت أيضا عددا كبيرا من النشطاء الماويين؛ وفق أحد مؤسسي الجمعية، مما أدى الى خروج بعض الاعضاء وتشكيلهم جمعية فرنسا- فلسطين في 1979، بدعم وتشجيع من الحزب الشيوعي الفرنسي وفق بعض المصادر.

شهدت ثمانينيات القرن المنصرم العديد من لقاءات التضامن، خاصة بعد الأحداث الكبرى مثل مجزرة صبرا وشاتيلا (1982)، الانتفاضة الأولى (1987)، بغرض توعية الجمهور الفرنسي والقادة السياسيين بالقضية الفلسطينية، وقد نظم داعمو فلسطين عديد المظاهرات، ووزعوا المنشورات والنشرات التي تتحدث عن أوضاع الشعب الفلسطيني، وسعوا إلى مخاطبة الإعلام، وإلى تحفيز المسؤولين الفرنسيين المنتخبين للسفر الى الأراضي الفلسطينية، إلخ... كما عملوا على تأمين مساعدات ملموسة للسكان الفلسطينيين، من خلال إنشاء أنظمة تكفل الأطفال، أو عن طريق إرسال مساعدات إنسانية إلى مخيمات اللاجئين على سبيل المثال. كما تم تأسيس جمعية من أجل تشجيع التوأمة بين البلديات الفرنسية ومخيمات اللاجئين الفلسطينيين في تسعينيات القرن المنصرم.

مرحلة السلام

شكلت مفاوضات مدريد واتفاقيات أوسلو المتتابعة وملاحقها، ومن ثم تأسيس السلطة الفلسطينية وتهميش منظمة التحرير لصالح الأخيرة، مرحلة جديدة على صعيد حركة التضامن وعلى صعيد المتضامنين، خاصة المرتبطين بالأحزاب اليسارية الإصلاحية وجزء مهم من المنظمات والجمعيات غير الحكومية، نتيجة موقف السلطة والموقف من مسار المفاوضات وحلَ الدولتين. أي أصبحت القضية الفلسطينية عبارة عن دعم ديبلوماسي من أجل تأسيس وبناء "دولة فلسطين" وبناء السلام ودعم مشاريع التنمية عبر جمع الأموال وإرسالها إليها عبر السلطة أو عبر المنظمات الشعبية الفلسطينية التي تحوَلت إلى منظمات غير حكومية. بمعنى، لم يعد هدف التضامن التخلص من الاحتلال مكرسا جهوده على دعم التنمية وبناء قدرات الدولة المستقبلية. إذ تم تأسيس "اللجنة التنسيقية للمنظمات غير الحكومية الفرنسية من أجل فلسطين" و "صندوق التعاون اللامركزي من أجل فلسطين" والذي تحوَل في ما بعد الى "شبكة التعاون اللامركزي من أجل فلسطين" وهذان الجسمان ممولان بشكل رئيسي من وزارة الخارجية الفرنسية والوكالة الفرنسية للتنمية. كذلك شهدت هذه الفترة حتى عام 2000 ولادة منظمات محددة مثل "الاتحاد اليهودي الفرنسي من أجل السلام" و"اللجنة الخيرية لمناصرة فلسطين" و"تحالف أورو فلسطين". 

في المقابل كان هناك تأسيس حركات وجمعيات فلسطينية تناهض سياسة السلطة واتفاقيات أوسلو، وحركات تعبر عن الجيل الشاب مكونة من فلسطينيين ولدوا في فرنسا وشباب فرنسي لآباء وأمهات من أصول مهاجرة، يرون في فلسطين قضية تمثلهم وتمثل نضالاتهم ضد ما يعيشونه من تمييز وعنصرية لاسيما في مجال العمل والسكن. تعزز نشاط هذه الحركات أو الجمعيات بعد اندلاع الانتفاضة الثانية، نتيجة الحاجة إلى إبراز موقف مما يجري في فلسطين، وبهدف إعادة تعريف النضال الفلسطيني على اعتباره حركة تحرَر وطني تسعى إلى استعادة كافة الحقوق الفلسطينية، بدلا من التقزيم الذي طاوله وحصره بـ "بناء الدولة" فقط. كما تم تنظيم حملات لإرسال مواطنات ومواطنين من فرنسا إلى فلسطين من أجل التضامن مع الشعب الفلسطيني ومقاومته، ومن أجل نقل شهاداتهم إلى المجتمع الفرنسي في المدن المختلفة، وبغرض حثَ المسؤولين الفرنسيين على اتخاذ عقوبات بحق دولة الاحتلال، ومن أجل حماية الشعب الفلسطيني من الجرائم والمجازر التي يتعرَض لها بشكل يومي. وقد شارك في هذه الحملة التي استمرت سنوات عديدة فرنسيون من مختلف المشارب الفكرية والسياسية والاجتماعية، كما شارك بعضهم في مساندة الراحل ياسر عرفات أثناء محاصرته في مقر المقاطعة في رام الله.

عملت باريس على تقييد الحريات بما يخص تأييد كل أشكال المقاومة 

الانقسام الفلسطيني

كان للانقسام الفلسطيني الداخلي بين سلطتي حماس وفتح، تبعات كبيرة على حركة التضامن الفرنسية، وخاصة بعد فوز حركة حماس في آخر انتخابات شهدتها الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث أوقفت بعض الجمعيات والبلديات الفرنسية تعاونها ودعمها لنظيرتها الفلسطينية، وهذا يدلَ على جوهر الدعم المالي كدعم سياسي مشروط، وشكل من أشكال الابتزاز السياسي، بغض النظر عن التناقض السياسي والاجتماعي والفكري مع حركتي حماس وفتح. 

تأييد أكبر للمقاطعة (ألاتن دوغرو/ الأناضول)
تأييد أكبر للمقاطعة (ألاتن دوغرو/ الأناضول)

إجراءات عقابية وتجريم المناصرات والمناصرين 

في خضم كل هذا الوضع الذي يبدو سوداويا، ظهرت حركة "المقاطعة، سحب الاستثمارات والعقوبات" والتي أطلقتها حركة فلسطينية، عام 2005، عبر بيان وقَع علية مئات الجمعيات الأهلية والنقابات والأحزاب الفلسطينية في كافة أماكن تواجد الشعب الفلسطيني، ثم انتشرت هذه الحركة عالميا وحققت العديد من الانتصارات. وهو ما جعل دولة الاحتلال ترصد مليارات الدولارات من أجل محاربتها، ودفعها إلى حث مجموعات الضغط الصهيونية المؤيدة لإسرائيل في برلمانات العالم المختلفة، من أجل إصدار قوانين تجرّم حركة المقاطعة وتلاحق نشطائها قضائيا. كما في تبنى الجمعية العامة الفرنسية في ديسمبر 2019 تعريف فضفاض لمعاداة السامية، بأغلبية ضعيفة (154 نائبا مع، مقابل 72 ضد)، بعد جدل كبير حوله داخل وخارج البرلمان، نتيجة تخوف معارضي النص من استغلاله في تكميم أفواه منتقدي السياسات الإسرائيلية. وجاء هذا النص في سياق تعهد سابق للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بتوسيع مفهوم معاداة السامية ليشمل معاداة الصهيونية أيضا. في مقابل ذلك نجح داعمو فلسطين في فرنسا عام 2020 في انتزاع حكم تاريخي صادر عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، يحظر "تجريم حملة المقاطعة ضد إسرائيل".

كذلك لجأت الحكومات الفرنسية المتعاقبة الى تقييد الحريات بما يخص تأييد مقاومة الشعب الفلسطيني، حيث لجأت في مرات متعددة الى منع المظاهرات المؤيدة لفلسطين، كما جرى مؤخرا أثناء هبَة كل فلسطين، من الشيخ جراح الى اللد في أيار الماضي، كذلك اعتقلت الشرطة الفرنسية عشرات المتظاهرين منهم رئيس إحدى جمعيات التضامن، بعد خروجه رفقة نواب وأعضاء مجلس الشيوخ من اجتماع مع ممثلين عن وزارة الخارجية.

للأسف فشلت حركة التضامن بالتوحد حول كافة مكوَنات الشعب الفلسطيني، حيث إن جزءا منها يرفض أن يتضامن مع الفلسطينيين في المناطق المحتلة عام 1948 ويعتبرهم "مواطنين إسرائيليين"، وهم يتبعون في ذلك سياسة منظمة التحرير التي استبعدت هذا التجمع الكبير والمهم من حساباتها.  كما فشلوا في التضامن مع اللاجئين الفلسطينيين في سورية بعد انطلاق الثورة السورية، وبعد حصار وتدمير الجزء الأكبر من المخيمات، وتشريد وقتل واعتقال مئات الألوف منهم، بحجة عدم رغبتهم باتخاذ موقف من النظام السوري الوحشي والمستبد.

في النهاية تبدو المعركة بين أنصار الحقوق الفلسطينية وداعمي الصهيونية حامية الوطيس وطويلة النفس، لذا فهي تحتاج للكثير من الجهد والصبر، كما تتطلب اليوم أكثر من أي وقت مضى تجميع الجهود وتنسيقها بين الجميع، وكذلك تكثيف العمل الشعبي وخاصة مع الشباب واستغلال حالة التعاطف الشعبي مع الشعب الفلسطيني، بحكم اقتراب الانتخابات الرئاسية في إبريل/ نيسان المقبل، والتشريعي في يونيو/حزيران المقبل. وكذلك نتيجة تصاعد الخطاب الانتخابي المستعر تجاه رفض الهجرة والمهاجرين، من قبل مرشحي اليمين واليمين المتطرَف، وفي ظل ضعف وهشاشة وتفتت اليسار وانقسامه. حيث تغيب القضايا الدولية عن الحملات الانتخابية ومن ضمنها القضية الفلسطينية، الأمر الذي يفرض على حركة التضامن أن تتخذ موقفا أكثر وضوحا وأكثر صرامة، يعيد التعريف بقضية الشعب الفلسطيني على اعتبارها حركة تحرر وطني من استعمار قائم على كل فلسطين التاريخية، ما يتطلب تبني النضال ضد الأبارتهايد والاستعمار والتخلي عن السير خلف أوهام السلطة القمعية والوظيفية، الفاقدة للشرعية والتي لا تمثَل إلا مصالح طبقة ضيقة ومحدودة تخدم النظام الاستعماري وتستفيد منه.
 

المساهمون