من عدوان إسرائيلي لآخر نستفيد من الدروس، نتعلم من جديد. بعضها ندركه للمرة الأولى، وبعضه الآخر نستعيده رغماً عنا، لأننا لا نقرأ الأحداث جيداً. وقد جرت العادة أن تشنّ إسرائيل الحرب. تضرب وتقتل وتدمر، وتعود إلى قواعدها سالمة، بينما لا نجد نحن ما نقوم به سوى دفن الشهداء وتدبيج المراثي، وسط عجز عربي وتواطؤ دولي.
دروس العدوان على غزة هذه المرة مختلفة وصريحة أكثر. ربما نحسها كذلك، نظراً لكون المرحلة سوداء وقانية في الوقت ذاته، بسبب ما آلت اليه الأوضاع في مصر وسورية من انحطاط وتراجع ودموية.
مصر ذهبت إلى أسوأ مما كانت عليه في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك. أما سورية فقد أحال الرئيس السوري، بشار الأسد، الثورة إلى مذبحة للشعب السوري، الذي لم يلتقط أنفاسه منذ ثلاثة أعوام. ولا تزال المحنة مستمرة، فالإجرام الأسدي الذي لم يقف عند حد، أدخل المنطقة في حالة من التفتيت والانهيار، على نحو يفوق ما يمكن أن يفعله العدو.
ومن دون شك، فإن ابلغ درس من غزة هو وحدة الموقف الفلسطيني. هذه الوحدة بدأت بالموقف الشعبي الذي تحرك في الضفة الغربية منذ بداية العدوان، وتدرج موجة وراء أخرى حتى وصل يوم الجمعة إلى مواجهات شاملة مع قوات الاحتلال والمستوطنين، وسقط خلاله ثمانية شهداء في الضفة الغربية. ولم يكن ذلك مستغرباً لأن الشرارة بدأت من الضفة، عندما اتخذ رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، من اختفاء المستوطنين الثلاثة ذريعة للعدوان.
الموقف الشعبي الفلسطيني انعكاس للحس الوطني العام الذي لم يتخرب، وبقي على عفويته ونقائه. وقد كان دأب الاحتلال طيلة سبعة أعوام من حصار قطاع غزة، أن يدمر هذا الوعي، وسعى بشتى السبل ليفصل بين الشعب الواحد، ويجعل من القطاع منطقة مغلقة، ويحوله في نظر العالم حاضنة تطرف تستحق الحكم بالحصار حتى الموت.
ولأن الحس الشعبي هو الذي يفرض نفسه في هكذا منعطفات، ويقرر وجهة الموقف السياسي فقد وجدت السلطة الفلسطينية نفسها تقترب في كل يوم خطوة من ردود أفعال الجماهير. وبعدما حاولت في الأيام الأولى للعدوان منع الشارع من رفع السقف ضد الاحتلال، وجدت نفسها مدفوعة في الأسبوع الأخير إلى تغيير خطابها وسلوكها، وصارت تدعو الى التظاهر ضد الاحتلال. ويسجل لقيادة حركة "حماس" أنها راهنت على تصليب الموقف الفلسطيني الرسمي، ونجحت في ذلك. وهذا ما يعكس روحية المصالحة التي سارت بها الحركة، وقادت إلى تشكيل حكومة التوافق الفلسطينية.
تصليب الموقف الفلسطيني اليوم، ليس مطلباً فلسطينياً فقط، بل هو أمل كل عربي حريص على فلسطين وقضيتها من أن تبدد زخمها المفاوضات العبثية التي تدور منذ عشرين سنة بلا طائل. ويجب رفع الشكر للمقاومين والشهداء في غزة الذين برهنوا أن خياراً آخر غير الاستجداء ممكن، بل ضروري، ولا بديل عنه. وهذا ما أخاف إسرائيل وجعلها منذ البداية تحاول أن تتلطى وراء إيقاف إطلاق نار برعاية السلطة الفلسطينية ومصر. وقف إطلاق نار يقوم على قاعدة نزع سلاح المقاومة في غزة، وحراسة أمن إسرائيل.
الدرس الأكثر أهمية هو أن العدوان لم يكسر المقاومة. وهذه مسألة يجب البناء عليها في هذا الزمن العربي الرديء، ولكن الثمن كان باهظاً. أكثر من ألف شهيد خلال قرابة عشرين يوماً، غالبيتهم من المدنيين. وقد كان واضحاً أن إسرائيل أرادت أن تنتقم من الصمود بإلحاق أكبر قدر من الأذى بالمدنيين. وهذا أمر يجب ألا يمر من دون أن يدفع نتنياهو ثمن جرائم الحرب، وهذه الفرصة يجب ألا تهدر، ولا سيما أن التضامن العالمي مع غزة كان منقطع النظير، وخرجت تظاهرات في كبريات عواصم العالم، وبدت إسرائيل معزولة على مستوى الرأي العام الغربي، رغم التغطية التي حاول أن يوفرها لها "لوبي" السياسة والإعلام.