برغم الإجماع الفلسطيني على رفض صفقة القرن من فصائل وطنية وإسلامية وقوى سياسية ومجتمعية، إلا أنها فشلت في إثارة وتحريك الشارع الفلسطيني لمواجهة الصفقة، حيث بدت دعوات الفصائل للتظاهر في واد، فيما الشارع الفلسطيني في واد آخر، ولم يستجب الشارع الفلسطيني إلى دعوات الفصائل للخروج إلى الشوارع من أجل التظاهر رفضا لصفقة القرن ومجمل السياسة الأميركية الترامبية، من نقل سفارة الولايات المتحدة من مدينة تل أبيب إلى مدينة القدس، وذلك الاعتراف الأميركي الرسمي بالقدس المحتلة عاصمة لدولة الاحتلال، والاعتراف الأميركي بشرعية المستوطنات، وإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية، وتبني إدارة ترامب سياسات اليمين الديني المتطرف في إسرائيل، المتمثلة في الإلغاء التام لتاريخ الشعب الفلسطيني في وطنه، بشكل يتناقض مع مواقف الإدارات الأميركية السابقة.
يتناقض عدم التحرك الشعبي الفلسطيني مع القوانين السماوية والأرضية في حق الشعوب المحتلة بمقاومة احتلالها بكل الوسائل بما فيها الكفاح المسلح، ولا يمكن اعتبار العلاقة الفلسطينية الإسرائيلية الحالية بالطبيعية، بل إنها حالة شاذة، وبمنطق العلم والسياسة والتجارب لا يمكن لها أن تدوم، لأنها نتاج مرحلة ضعف وجزر تمر بها الحركة الوطنية، بالتالي لا يمكن اعتبار أن أغلبية مكونات الشعب الفلسطيني قد أقرت بالهزيمة، وباتت مستعدة للتعايش والتكيف مع الاحتلال والاستيطان والحرمان السياسي والوطني.
تمر حركات التحرر بمد وجزر، ولكن ما تشهده الساحة الفلسطينية في العقدين الأخيرين تبدو أزمة شديدة، وقد يستغرق حلها فترة من الزمن فيما لو توفرت عناصر إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية، والتي بدأت حالة التراجع بعد اتفاقية أوسلو في العام (1993)، والتي لم تكن مجحفة للفلسطينيين فقط، بل إنها أسست لتفكيك القضية والحركة الوطنية الفلسطينية، بعد إخراج أهم مكونات القضية، وتأجيلها مفاوضات الوضع النهائي، والتي لن تأتي بعد إطالة المرحلة الانتقالية إلى ما لا نهاية، وتوريط السلطة الفلسطينية بمجموعة من الالتزامات، أهمها منع المقاومة كشرط أساسي لاستمرار بقاء السلطة.
نجحت إسرائيل عبر اتفاقية أوسلو، بتحويل السلطة من مشروع نواة دولة مستقلة، كما أرادها الفلسطينيون، إلى كيان وظيفي تابع للاحتلال يشكل حاجزاً بين الاحتلال من جهة، والشعب الفلسطيني تحت الاحتلال من الجهة الأخرى، حيث تمرر سلطات الاحتلال معظم قراراتها العسكرية بدون قدرة السلطة على منعها وإيقافها، فيما تجد السلطة نفسها مضطرة لمنع الشعب من مقاومتها، وكثيرا ما حدث أن دعت الفصائل الفلسطينية إلى فعاليات شعبية ومظاهرات ومسيرات باتجاه نقاط الجيش الإسرائيلي، لكن الأجهزة الأمنية الفلسطينية منعتها من الوصول إلى أهدافها الإسرائيلية، مثلما كان يحدث بالقرب من حاجز بيت إيل العسكري الإسرائيلي في رام الله، وحاجز الاحتلال المقام على مدخل بيت لحم الشمالي، ومناطق أخرى بالضفة، حيث المساحة الأكبر للاحتكاك الفلسطيني الإسرائيلي بسبب الانتشار الاستيطاني والعسكري في المنطقة. وأدت مشاهد منع الأجهزة الأمنية الفلسطينية المتظاهرين الفلسطينيين من الوصول إلى الأهداف الإسرائيلية، إلى حالة من الرفض والكراهية والإحباط لدى شرائح واسعة من الشعب الفلسطيني، وتخللت منعهم أحيانا اعتداءات على المواطنين الفلسطينيين، ومنعهم من التعبير عن رفضهم للاحتلال بالأشكال الشعبية السلمية التي تكفلها الشرائع والقوانين الدولية، والذي أدى إلى إحداث تحول في وعي شريحة واسعة من الفلسطينيين، ولم تعد صورة السلطة وأجهزتها الأمنية بالوعي الفلسطيني رافعةً للتحرر الوطني من الاحتلال، بل كيان وظيفي تكيف تحت الاحتلال، حتى مشاركة مسؤولين كبار من الفصائل في المسيرات أحيانا لم تغير من تعليمات أجهزة الأمن لمنع المسيرات من مواصلة سيرها للوصول إلى أهدافها، والذي يكشف ضعف منظمة التحرير وفصائلها أمام السلطة، والذي تتوجَ بشكل واضح في عدم تنفيذ السلطة قرارات المجلسين الوطني والمركزي لمنظمة التحرير، وخاصة تلك المتعلقة بسحب الاعتراف بإسرائيل ووقف التنسيق الأمني مع أجهزتها الأمنية، والذي يكشف العلاقة المعكوسة بين الطرفين، حيث الوضع الطبيعي أن المنظمة هي المرجعية الوحيدة للسلطة ورئيسها وليس العكس كما هو الحال الآن، ما أدى إلى تراجع القيم الوطنية والثورية والتحررية وسيطرة مصالح السلطة، ما انعكس على الشارع الفلسطيني بتراجع ثقته بالمنظومة السياسية الفلسطينية من فصائل وسلطة وغيرها، والذي كانت نتيجته فشل الفصائل في إخراج الشارع للتعبير عن رفض الصفقة، ما أضعف القيادة الفلسطينية والحالة الوطنية برمتها، وكأن الفصائل فقدت عمقها الشعبي في مقاومة الصفقة بما له من تداعيات سلبية وخطيرة.
فشل الفصائل في إخراج الجماهير من أجل رفض الصفقة وضعها في إحراج كبير، ما دفعها إلى محاولة الحفاظ على ما تبقى من ماء الوجه عبر القيام بمسيرات وتجمعات للموظفين والطلبة داخل المدن، تبدأ بمسيرات لمئات الأمتار وتنتهي بخطابات أمام البلديات ومؤسسات السلطة وعودة الموظفين والطلبة إلى بيوتهم أو القليل منهم إلى مؤسساتهم، دون الاحتكاك مع نقاط الاحتلال، حتى دون أن يسمع عنها الاحتلال أحيانا، ما كشف عدم جدية وفعالية تلك المسيرات، الأمر الذي أدى إلى تعميق الفجوة بين الشارع وبين مكونات المنظومة السياسية التي أصبحت في وضع لا تحسد عليه، كما يقال بالعامية الفلسطينية أن تلك القيادات لم تعد تمون على أفراد أسرها الصغيرة.
إضافة للخلل في موازين القوى الفلسطينية والإسرائيلية ولبقاء السلطة ملتزمة بالأدوار الوظيفية رغم مساوئها، إلا أنها وقعت أيضا في فخ الامتحان الإسرائيلي والأميركي بضبط الأمن والهدوء والاستقرار في المناطق الفلسطينية، وفخ الامتحان الدولي ببناء مؤسسات ضمن مقاساتهم، كشرط أساسي للموافقة على حل الدولتين، والذي يكشف تخليا عن إحدى الثوابت الفلسطينية بأن الدولة الفلسطينية يجب أن تكون ترجمة للحق الفلسطيني الجماعي التاريخي والقومي على أرض وطنه، وليس نتاج اختبارات وامتحانات أمنية وما تسمى إجراءات حس نية وبناء ثقة، والنتيجة معروفة أن إسرائيل وأميركا لا يمكن لهما أن يمنحا السلطة علامات عالية في هذه الامتحانات، حتى لو تخلت السلطة عن الكثير من القيم الوطنية الفلسطينية، وذهبت بعيدا في فرضها على الشعب الفلسطيني، وهنا كانت الخطيئة الأكبر، أن أصبح الهدوء والاستقرار من أولويات عقيدة ومحددات عمل السلطة، حتى إن ثلاث حروب إسرائيلية على غزة مرت بهدوء نسبي في شوارع الضفة الغربية، ما أعطى بنيامين نتنياهو هامشا للادعاء وكأن بعض الفلسطينيين مع الحرب على غزة، رغم أن أبجديات ومنطق حركات التحرر الوطني تتناقض تماما مع الهدوء والاستقرار، الذي يصب أولا وأخيرا في مصلحة الاستعمار.
مع إقامة السلطة، فتحت مؤسساتها، الأمنية والمدنية، أبوابها لعشرات الآلاف من الفلسطينيين، وكانت الأولوية لحركة فتح والفصائل اليسارية القريبة منها، والتحق جزء منهم بالعمل في دوائر السلطة، وخاصة الأمنية، للتعبير عن وطنيته وفتحاويته وتحقيقا لذاته، ومنهم للحصول على الراتب، وقد وجدوا أنفسهم في فئتين وظيفتين، الأولى وهي فئة الموظفين العليا في السلطة، وتضم المئات من عقداء وعمداء وألوية وقادة أجهزة أمنية، ومدراء عامين ووكلاء ووزراء ورؤساء هيئات مدنية، والذين يحصلون على رواتب ونثريات وامتيازات عليا، والتي حولتهم إلى مجموعة مصالح مستفيدة من بقاء السلطة، ما أحدث تحولا في أولوياتهم، اتجاه السلطة، من رافعة للتحرر ومقاومة الاحتلال إلى مشاريع رواتب ورتب وامتيازات، وبهذا تكون السلطة قد ساهمت في نقل كوادر فتح من المشروع التحرري والتخلص من الاحتلال إلى مشروع سلطة تتعايش وتتكيف معه، وباتت مصالح هذه الفئة تفرض عليها الحفاظ على الاستقرار والهدوء، سواء للحفاظ على مصالحها أو تحت مبررات قطع الطريق على إسرائيل من جرنا إلى مربع المواجهة التي تريده، رغم ضعف هذه الرواية، لأن تجارب الاحتلالات كشفت عن خوف الاحتلال من المواجهة وتفضيله الاستقرار والهدوء، فيما تضم فئة الموظفين الصغار أكثر من (100 ألف) موظف من باقي الضباط والموظفين المدنيين، والذين اتبعتهم سياسات السلطة للبنوك، عبر منحهم التسهيلات بالحصول على قروض مالية، ما جعل معظم تفكيرهم وأولوياتهم بكيفية قدرتهم على تسديد دفعات القروض البنكية، وأثر في قدرتهم على التفكير بالشأن الوطني وفي مقاومة الاحتلال، وخاصة في الفترة التي ترأس فيها الدكتور سلام الحكومة الفلسطينية في مرحلة ما بعد الانقسام الفلسطيني.
لعب الانقسام الفلسطيني دورا كبيرا في ضرب مصداقية الفصائل، سواء المنقسمة أم التي راهنت على الاستفادة من الانقسام، بعد أن استنزف الانقسام معظم الجهد الفلسطيني، وراح باتجاه ملاحقة حركة فتح في قطاع غزة من قبل حكومة حماس، وفي ملاحقة وتفكيك بنى حماس التنظيمية والعسكرية والمالية في الضفة الغربية، ما أدى إلى إنهاكها، والذي ظهر بوضوح في عدم قدرة حماس على تحريك الشارع الضفاوي أثناء الحروب الثلاث التي تعرضت لها غزة، وفي السنوات الأخيرة، بدا أن حماس غير معنية بالعمل المقاوم في الضفة، وذلك من أجل تحقيق عدة أهداف، أهمها الحفاظ على سلطتها في غزة من ردود الفعل الإسرائيلية على عملياتها في الضفة، وتحميل السلطة وأجهزتها الأمنية مسؤولية ملاحقة كوادرها، بغرض ظهور بمظهر الضحية في المجتمع الفلسطيني، من أجل إحراج حركة فتح وتحميلها مسؤولية سياسات السلطة وتسجيل نقاط عليها، بمعنى أن كلاً من فتح وحماس قد أعطت الأولوية لصراعاتهما الداخلية على حساب مواجهة الاحتلال ومشاريعه، ما أدى إلى انهيار ما تبقى من ثقة الشارع في الفصائل، الذي تم التعبير عنه بعدم استجابته لنداءات الفصائل بالنزول للشارع من أجل الرد على صفقة القرن.
وظفت إسرائيل الانقسام الفلسطيني وأزمة النظام السياسي الاقتصادي الفلسطيني ودور السلطة الوظيفي، والأحداث التي شهدتها الدول العربية في العقد الأخير، من أجل كيّ الوعي الفلسطيني وإنتاج فلسطيني جديد لا يعنيه الشأن الوطني العام، بشتى الوسائل، فقد حاربت المناهج التعليمية الفلسطينية، ولاحقت كتابات وتغريدات الفلسطينيين على مواقع التواصل الاجتماعي، وأغلقت إذاعات محلية فلسطينية بتهم التحريض، وقدمت الامتيازات لرجال الأعمال الفلسطينيين بغرض إخراجهم من البيئة الوطنية، وربطت مصير أكثر من مئة ألف عامل فلسطيني يعملون في إسرائيل بالحفاظ على تصريح العمل هناك شريطة عدم التدخل في الشأن الوطني، حيث ساهمت كل تلك الإجراءات في الوصول إلى حالة من اللامبالاة بالشأن العام.
لا يمكن اعتبار حالة الجزر التي تعيشها الحركة الوطنية الفلسطينية حالة دائمة تعكس هزيمة يعيشها الشعب الفلسطيني، بقدر ما هي طارئة نتاج الكثير من الأسباب المذكور جزء منها أعلاه، ورغم فشل الفصائل الفلسطينية من تحريك الشارع ضد صفقة القرن، إلا أن إسرائيل فشلت هي أيضا في كيّ الوعي الفلسطيني وإنتاج فلسطيني جديد يقبل الذل والهوان، فقد حدث في السنوات الخمس الماضية العديد من الأحداث النوعية، التي أكدت وضوح بوصلة الشعب الفلسطيني، رغم الأزمة العميقة. وقد استطاع المقدسيون إفشال مشروع نصب البوابات الإلكترونية على مداخل المسجد الأقصى، بعد اعتصام شارك فيه عشرات الآلاف من المقدسيين، مسيحيين ومسلمين، الذين اعتصموا أسبوعين متتالين، إذ فشل نتنياهو حينها في صناعة مجموعة من بينهم للحديث باسم المعتصمين، كي يضغط عليهم، ما اضطره للتراجع وإزالة البوابات. كما حدثت عدة عمليات نوعية في الضفة، سواء في مجمع عصيون الاستيطاني جنوبي بيت لحم، أو بيت ايل بالقرب من رام الله، أو مستوطنات بركان وارئيل في شمال الضفة الغربية والتي أدت إلى مقتل وإصابة عشرات المستوطنين والجنود الإسرائيليين.