اغتالت إسرائيل الإعلامية شيرين أبو عاقلة بدم بارد وبشكل متعمد في دليل وبرهان جديد على ذهنية القتل والاغتيالات الإجرامية المتحكمة بالاحتلال والفاشلة أمام الشعب الفلسطيني المستمر في عناده وصموده حتى تحقيق آماله الوطنية في السيادة والاستقلال وتقرير المصير.
قبل شيرين قتلت أو للدقة اغتالت إسرائيل 47 صحافياً منذ العام 2000، 45 منهم بشكل مباشر ومتعمد ومقصود، وفي حرب غزة الأخيرة – مايو/ أيار 2021 - قصفت عن عمد أيضاً ودون مبررات مقنعة أو أدلة متماسكة برج الجلاء الذي كان مقراً لعدد من القنوات التلفزيونية ووكالات الأنباء ومكاتب صحافية وإعلامية عديدة ومركزاً ونقطة تجمع للصحافيين والإعلاميين لأداء واجبهم الوطني والمهني في نقل مجريات الحرب وتفاصيلها، وللدقة، الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل ضد المدنيين والبنى التحتية في القطاع المكتظ والمحاصر، وتقول الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية أنها لامست حدود جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
رغم الاغتيالات والاستهداف المباشر إلا أن الصحافيين والإعلاميين الفلسطينيين استمروا في أداء واجباتهم الوطنية والمهنية في برهان ساطع وأكيد ولا يرقى إليه الشك على فشل الممارسات والجرائم الإسرائيلية في ردعهم أو منعهم من نقل حقيقة ما يجري في فلسطين إلى العالم الذي بات فعلاً مع ثورة الاتصالات قرية كونية بحيث بات صعباً وحتى مستحيلاً على الاحتلال إخفاء وجهه البشع والبغيض، خاصة مع سطوة وسائل التواصل الاجتماعي التي من الصعوبة بمكان وحتى من المستحيل فرض السيطرة أو التعتيم عليها.
الاغتيالات والإعدامات والجرائم الإسرائيلية لا تستهدف الصحافيين فقط، فمنذ بداية العام الجاري اغتالت إسرائيل 60 مواطناً فلسطينياً بشكل متعمد، طبعاً بحجة منع التصعيد ووقف الموجة الحالية من المقاومة الشعبية المتواصلة منذ عدة شهور.
أطلقت إسرائيل على عملياتها وللدقة جرائمها، وكعادتها اسما حركيا مضللا هو كاسر الأمواج، مع نشر كتائب إضافية بآلاف الجنود واستنفار أمني شمل معظم مناطق الضفة الغربية بما فيها القدس، كما الحدود مع غزة المحاصرة، غير أن "الكاسر" نفسه انكسر أمام عزيمة الفلسطينيين، والاغتيالات والجرائم لم تنه أو تصد الموجة - بل على العكس أجّجتها أكثر بتقديرات رسمية للاحتلال قالت إنها ستكون أطول وأقسى من سابقتها، بينما يشير معلّقون عسكريون كُثُر أو للدقة يقرّون بحقيقة أن الممارسات والعمليات الإسرائيلية لا توقفها بل تصب الزيت على نارها وتؤججها أكثر، خاصة مع تجاهل جذر أو أصل المشكلة المتمثل بالاحتلال نفسه وهروبه المنهجي والمتعمد واليائس إلى الأمام عبر خطط ومسميات مثل السلام الاقتصادي وإدارة الصراع أو تقليصه، وما إلى ذلك من أوهام وإنكار للواقع.
إلى ذلك يمكن بل يجب وضع الاعتداء على جنازة الشهيدة شيرين أبو عاقلة في نفس سياق الذهنية والعقلية الإسرائيلية الإجرامية نفسها، ولم يكن مفاجئاً أو مستغرباً إشادة قائد شرطة الاحتلال بالأفعال غير الإنسانية والشائنة والهمجية التي لم تحترم حرمة الموتى، وشكره العناصر التي اعتدت على الجنازة وانتهكت حرمتها، ورفضه التحقيق فيها أو في الجريمة الأصل والمتعلقة بعملية اغتيال شيرين نفسها، علماً أن تلك الاعتداءات الهمجية التي عبرت عن طبيعة وذهنية الاحتلال وسعت إلى استعادة ما يصفه بقدرة الردع أمام الفلسطينيين لم تمنع خروج الآلاف منهم لتتشييع الشهيد وليد الشريف بعد أيام، كما أن الاعتداء على جنازة هذا الأخير لم تمنع الآلاف من الخروج في تشييع الشهيدين الأخيرين داوود الزبيدي والفتى أمجد وليد الفايد.
وجّهت إسرائيل في الأسبوع نفسه الذي اغتالت فيه الشهيدة شيرين والنشطاء الشريف والزبيدي تهديدات مباشرة وعلنية باغتيال قائد حركة حماس في غزة يحيى السنوار - وقادة آخرين في بالداخل والخارج - بحجة مسؤولية الحركة عن الموجة الحالية من المقاومة الشعبية في المسجد الأقصى والقدس والضفة الغربية بشكل عام، بما في ذلك العمليات الفردية المرتبطة بها.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن الاغتيالات غير شرعية حسب القانون الدولي وتعتبر بمثابة إعدام خارج المحكمة حسب توصيفات الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان المصدّقة والموثوقة، مع الانتباه إلى التقديرات الإسرائيلية الرسمية والمعلنة التي تنشرها وسائل الإعلام العبرية، وتفيد بأن لا دور قياديا مباشرا للسنوار أو لحماس في الموجة الشعبية المرتبطة أساساً بالممارسات والجرائم الإسرائيلية في الأقصى والحرم القدسي الشريف، حيث اعتقلت إسرائيل ألف مواطن مقدسي تقريباً خلال شهر نيسان/ أبريل الماضي، فقط مع اعتداءات طاولت المصلين والمرابطين والمرابطات وتغطية اقتحامات المستوطنين وإحيائهم الطقوس التلمودية بالحرم ضمن سعي واضح لتقسيمه زمانياً ومكانياً وصولاً إلى هدمه وإقامة الهيكل المزعوم مكانه.
للتذكير، كانت إسرائيل قد قامت خلال العقود الماضية باغتيال عشرات بل مئات القادة والمسؤولين من الفصائل وحركات المقاومة الفلسطينية، بمن فيهم الشهداء القادة ياسر عرفات وأحمد ياسين وفتحي الشقاقي وأبو علي مصطفى فيما تشبه الإبادة السياسية للقيادة الفلسطينية، وتعبر عن طبيعة الدولة العبرية الاستعمارية التي اعتقدت واهمة أن ما لم يتحقق بالاغتيالات سيتحقق بالمزيد منها، علماً أنها قتلت حتى قبل تأسيسها رسمياً وعبر العصابات الصهيونية التي احتلت حيّزاً مهماً من أطر الدولة ومؤسساتها عشرات آلاف الشهداء، واعتقلت مئات آلاف وشرّدت الملايين، غير أن ذلك كله لم ينل من عزيمة الشعب الفلسطيني بل أكّد في المقابل على فقدان إسرائيل لقدرة ردعها وعجزها عن تخويف الفلسطينيين أو إخضاعهم وإجبارهم على الاستسلام رغم هذا الكمّ الكبير من القتل والإجرام الموصوف غير المسبوق، والمستمر لعقود طويلة.
ليس بعيداً عما سبق كله، أي عزم وصمود الفلسطينيين وفقدان قدرة الردع الإسرائيلية، طُرح طوال الوقت السؤال والهاجس الوجودي عن مستقبل ومآلات الدول العبرية، لكن بدا لافتاً جداً أن النقاش والسجال حول هاجس الوجود تصاعد أكثر فأكثر وعاد بقوة إلى جدول الأعمال الداخلي مع تحذيرات من التفكك والاندثار تحديداً في أسبوع إعدام شيرين وعلى وقع موجة المقاومة الفلسطينية الشعبية المتصاعدة.
في الأخير، لا بد من التأكيد على أهمية إحالة السلطة الفلسطينية ملف الشهيدة شيرين أبو عاقلة إلى المحكمة الجنائية الدولية المختصة مع اهتمام العالم بجريمة الاغتيال، وعجز إسرائيل عن ترويج روايتها والدفاع عن موقفها الضعيف بعدما ضبطت متلبسة أمام عدسات الكاميرات وعلى مرأى من العالم أجمع، لكن لا تقل عن ذلك أهمية ضرورة إحالة كافة عمليات الإعدام والاغتيالات والجرائم التي ارتكبها الاحتلال ولا يزال في المسجد الأقصى والقدس والضفة الغربية وغزة والأراضي المحتلة عام 1948 ضمن نظام فصل عنصري ممنهج وموصوف يطاول الشعب الفلسطيني كله في أماكن تواجده المختلفة.