استحوذت الدعوى التي تقدمت بها دولة جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، والتي اتهمت فيها إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، على جزء معتبر من مقابلة المدير العام لـ"المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، الدكتور عزمي بشارة مع تلفزيون "العربي" من مدينة لوسيل في دولة قطر مساء الاثنين. دعوى وصفها المفكر العربي بأنها مهمة سياسياً وقانونياً، وتوقع ألا يجد القضاة الـ15 للمحكمة صعوبة في إثبات الجرم المنسوب إلى دولة الاحتلال. وفي حين رأى بشارة أن أميركا بدأت تطلب من إسرائيل الانتقال سريعاً إلى المرحلة الثالثة من الحرب على غزة، فإنه لم يجد تغييراً حقيقياً في الموقف الأميركي يتعلق بأهداف الحرب وبالدعم المطلق لتل أبيب. أما الموقف الروسي، فقد وصفه بـ"الانتهازي"، مشدداً على أن الاحتلال لم يحقق أهدافاً عسكرية حقيقية حتى الآن. وعن مخطط تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، حذّر بشارة من أن أي تهجير في الحالة الفلسطينية راهناً ومستقبلاً، سيكون قسرياً.
عزمي بشارة: الاحتلال لم يحقق أهدافاً عسكرية حقيقية حتى الآن
دعوى جنوب أفريقيا
وقال بشارة إن خطوة جنوب أفريقيا "مهمة سياسياً لأن إدانة دولة الاحتلال بارتكاب إبادة جماعية يحسم نقاشاً عالمياً سبق لمجموعة من رؤساء الدول أن حسموه في مواقفهم مثل أمير قطر (الشيخ تميم بن حمد آل ثاني)". وتوقف عند أهمية أخرى تكمن في الخطوة، تُختصر في خصوصية هذه الدولة الأفريقية مع تاريخ الفصل العنصري، فضلاً عن أن دوافع هذا البلد أخلاقية إنسانية، لا قومية ولا دينية ولا مصلحية وهذا ما يترجم حقيقة أن القضية الفلسطينية قضية إنسانية عادلة أولاً. ولفت بشارة إلى أنه كان يفضل أن تكون مثل هذه الدعاوى بمشاركة بلدان من أكثر من بلد ومن أكثر من قارة، وكشف عن محاولات جرت للتواصل مع ماليزيا وبوليفيا، وأعرب عن أسفه لأن العديد من البلدان العربية يخشى على علاقته بالولايات المتحدة فلم يشاركوا في الدعوى، أو أنهم غير موقعين على معاهدة إنشاء المحكمة، كحال دولة قطر، بالتالي لا يحق لهم التقاضي عبر لاهاي.
عزمي بشارة: أي تهجير في الحالة الفلسطينية راهناً ومستقبلاً هو قسري
أما بالنسبة إلى الأهمية القانونية، فهي تنبع، برأي بشارة، من استحالة تجاهل القرار المنتظر عالمياً، ذلك أن فقط الدول الموقعة على اتفاقية إقامة محكمة العدل الدولية تستطيع مقاضاة دول أخرى موقِّعة أيضاً، بالتالي فإن قرارات المحكمة في هذه الحالة تكون ملزمة للدول الموقعة. وبخصوص إجراءات الدعوى، توقع أن يصدر القرار سريعاً في غضون أسابيع بما أن الموضوع يتعلق بعنوان طارئ مثل الإبادة الجماعية. وتوقع المفكر العربي ألا يجد قضاة المحكمة ومحققوها صعوبة في إثبات التهمة التي توجهها الدولة المدعية، وشدد على أن كل الأدلة اللازمة تتوفر لإثبات تورط إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية "لأن الإبادة الجماعية ليست بالضرورة أن تكون مثل الهولوكوست، بل تتعلق بالنية في الإبادة ثم بارتكاب إجراءات في سياق تطبيق إبادة جماعية أي القضاء على جماعة عرقية أو إثنية أو دينية أو جزء منها، بالتالي لن يكون إثبات ذلك قانونياً صعباً". ورجح بشارة أن تحاول إسرائيل رفع شعار "الدفاع عن نفسها" لرد تهمة الإبادة الجماعية، لكنه ذكّر بأن المحكمة في لاهاي حسمت الموضوع منذ قضية جدار الفصل العنصري الذي قالت فيه إنه "ليس لقوة احتلال حق الدفاع عن النفس". وأضاف بشارة أنه حتى لو أثير موضوع الدفاع عن النفس، فإنه في حالة غزة غير متناسب وذلك واضح في تصريحات علنية على لسان مسؤولين إسرائيليين، هي عبارة عن هدية لجنوب أفريقيا كمدعية، وهي تصريحات تجاهر بممارسة العقاب الجماعي للسكان في غزة، والحديث عن نية تهجيرهم، ثم جعل قطاع غزة غير قابل لاحتضان الحياة البشرية، بالإضافة إلى أدلة كثيرة جداً مثل تقرير البنك الدولي عن تدمير 70 في المائة من منازل غزة وغيرها، وهذه جميعها، في رأي بشارة، أدلة تصب في خطة التهجير، وهو من ملامح الإبادة الجماعية.
ورداً على سؤال عن الأثر الذي يمكن أن يتركه قرار متوقع لمحكمة العدل الدولية في هذا السياق، أشار بشارة إلى أن الذهاب بالقرار إلى مجلس الأمن الدولي سيشكل أزمة بالنسبة للدول التي من الممكن أن تستخدم الفيتو لإعاقة صدور قرار ملزم بتنفيذ حكم المحكمة، "لأن حق الفيتو في هذه الحال في مجلس الأمن سيكون ضد 15 قاضياً دولياً من 15 بلداً غالباً ما يكون أحدهم أميركياً، وليس ضد دولة مثل روسيا" على حد تعبير بشارة.
عزمي بشارة: الإجماع الإسرائيلي على الحرب لا يزال قائماً لكن هناك خلافات وهناك بوادر معركة انتخابية
الإجماع الإسرائيلي
وبالانتقال إلى الحالة الإسرائيلية الداخلية، بدا بشارة واثقاً من أن الإجماع الإسرائيلي على الحرب لا يزال قائماً رغم الخلافات بين المستويين العسكري والسياسي. وفي حين جزم بوجود أزمة، وبوادر معركة انتخابية هناك، "لكن في ما يتعلق باستمرار الحرب وأهدافها لا تزال هناك وحدة في المجتمع الإسرائيلي واتفاق بين القيادات الرئيسية". واستطرد بأنه "حتى من حيث حجم خسائر الاحتلال، فإن أرقام القتلى والجرحى لا تزال قابلة للاحتمال بالنسبة للمجتمع الإسرائيلي"، وذكّر بأنه سبق للدولة العبرية أن تحملت أعداداً كبيرة من القتلى والمصابين في حروبها السابقة، أكان في لبنان أم في حرب 48 أو بعدها. ورداً على سؤال من ضمن استفسارات المشاهدين، علق بشارة على إلغاء المحكمة العليا الإسرائيلية قانون الكنيست الخاص بحجة المعقولية، باعتباره دليلاً إضافياً على أن إسرائيل حالياً ليست دولة تقف على مشارف الانهيار من داخلها.
عزمي بشارة: الموقف الروسي من الحرب على غزة انتهازي
المرحلة الثالثة من الحرب
وفي ما يتعلق بالمرحلة الثالثة من الحرب، لاحظ بشارة أن عدد الإصابات في صفوف جيش الاحتلال (بين قتلى وجرحى)، وأزمة الاقتصاد وإلحاح أميركا على أن تبدأ المرحلة الثالثة، أي التوقف عن الحرب الشاملة والبدء في عمليات موضعية محددة ضد المقاومة، جميعها عناصر أدت إلى الانتقال للمرحلة الثالثة بالفعل. ولفت في هذا السياق إلى أن الاحتلال لم يحقق أهدافاً عسكرية حقيقية حتى الآن من نوع الأهداف التي سبق لحكام تل أبيب أن حددوها لأنفسهم.
محور صلاح الدين
في إطار متصل، لم يستبعد بشارة أن يكون الحديث عن سيطرة إسرائيل على محور صلاح الدين (الفاصل بين غزة والأراضي المصرية)، كي لا يكون هناك حدود فلسطينية مصرية قابلة لتهريب السلاح، "من مظاهر بوادر الحملة الانتخابية التي يطرح بنيامين نتنياهو عناوين وشعارات لها". ولم يرجح بشارة أن توافق مصر على ذلك، وهي التي تتعاطى مع غزة كمنطقة خاضعة للاحتلال منذ عقود. وختم قائلاً بخصوص هذا الموضوع: قد يكون هذا نوعاً من الابتزاز للحصول من مصر على شروط أفضل، ويمكن أن يكون نتنياهو يفكر فعلاً في تهجير قسم من سكان غزة وأن تبقى مناطق الـ67 ضمن نظام الأبارتهايد الإسرائيلي.
عزمي بشارة: بلدان عربية كثيرة تتمسك بموقف المتفرج وتحصر رفضها بالتهجير وكأن كل شيء آخر مسموح أن ترتكبه إسرائيل
لا تهجير طوعياً
ورداً على سؤال حول الحديث الإسرائيلي المتزايد عن تهجير سكان غزة وتخفيف عددهم، أوضح بشارة أنه لا يوجد تهجير طوعي في الحالة الفلسطينية الراهنة والمستقبلية، بل أي تهجير هو قسري، لأن الجو العام هو جو جعل غزة غير صالحة لحياة البشر، بالتالي الأمر يتعلق بمؤامرة وخطة تهجير مدروسة. وكشف المفكر العربي أن أحد أهم البنود في مفاوضات الهدن الإنسانية السابقة، كان مطلب الناس بالعودة إلى شمال غزة مع علم أصحاب الطلب بأن كل شيء دُمر في الشمال، وهذا تعبير عن رفض التهجير والتمسك بالأرض.
عزمي بشارة: بلدان عربية تخشى على علاقتها بأميركا لذلك لا تقدم على ما أقدمت عليه جنوب أفريقيا
الموقف الأميركي
وفي ما يتصل بما إذا كان هناك أي جديد حقاً في الموقف الأميركي من العدوان، أكد بشارة أن المسؤولين الأميركيين لا يزالون في الاتجاه نفسه من ناحية دعم إسرائيل وأهداف حربها. ورغم حسمه بأن الأميركيين لا يضغطون على إسرائيل بل يكتفون بنصحها لتغيير شكل الحرب مع استمرار الاتفاق على أهدافها، لكنه شرح أن "نتيجة إنجازات المقاومة والتحول الكبير في موقف الرأي العام الغربي، بدأت أميركا تطلب من إسرائيل الانتقال سريعاً إلى المرحلة الثالثة من الحرب". وبالنسبة للموقف الأوروبي، اعتبر بشارة أنه يتم المبالغة في تقدير موقع أوروبا سياسياً، متوقفاً عند الأهمية الفائقة لتحرك الرأي العام المناهض للحرب فيها. ونصح المواطنين العرب والأوروبيين الديمقراطيين في تلك القارة بألا يسمحوا بتخفيض سقف الحريات في أوروبا، "وهو ما ينطبق في المناسبة على العرب في الداخل الإسرائيلي حيث تعمل إسرائيل على استغلال ظروف الحرب لإعادة صياغة قواعد العلاقة مع مواطنيها العرب بحرياتهم وحقوقهم".
الموقف الروسي
وعلّق بشارة في حواره مع تلفزيون "العربي" على الموقف الروسي وتصريحات وزير الخارجية سيرغي لافروف المثيرة للجدل. ووصف الموقف الروسي من الحرب منذ بدايتها بأنه انتهازي، وفسّره بأنه "معادٍ لأميركا" قبل أي شيء آخر، مع التذكير بتسمية المسؤولين الروس عملية السابع من أكتوبر بـ"الإرهابية". وتوقف بشارة عند إشادة لافروف بعدم اتخاذ إسرائيل موقفاً ضد روسيا على خلفية حربها على أوكرانيا، وتشبيهه روسيا بإسرائيل كمحاربين للنازيين والإرهابيين. وختم المفكر العربي مقابلته بالقول إنه لو كان هناك أمر "إيجابي" من كارثة العدوان الحالي، فإنما هو عودة القضية الفلسطينية لتحتل الصدارة العالمية من الاهتمام. وعن هذا الموضوع صرّح بأننا "يجب أن ننظر إلى أنفسنا قليلاً لأن الهدف ليس أن تبقى القضية بصنمية بل ما يهمنا هو الشعب الفلسطيني وأن تُحل القضية الفلسطينية". الأمر الثاني الإيجابي برأي بشارة، حركة الاحتجاج العالمية حول القضية الفلسطينية بوصفها قضية عالمية عادلة إنسانية، لا دينية ولا مصلحية ولا قومية، وهو ما تعكسه خطوة جنوب أفريقيا في تقديم دعواها أمام محكمة العدل الدولية. أما الدول العربية، فكرر وصف موقفها بـ"المتفرج"، إذ إنها بعد اجتماعاتها وبياناتها ووفودها وخطاباتها، تحصر رفضها بالتهجير، وكأن كل شيء آخر مسموح أن ترتكبه إسرائيل.