"قولو لأمو تفرح تتهنّا ترش الوسايد بالعطر والحنّا الدار داري والبيوت بيوتي واحنا خطبنا يا عدوي موتي". مع صباح كل يوم اعتاد سكان الموصل على سماع هذه الترنيمة الفلسطينية من أم أحمد، التي أصيبت بالجنون بعد مقتل ولدها يوم زفافه في العاشر من يونيو/حزيران 2014، يوم سقوط الموصل بيد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش).
يقول أحمد الجبوري من سكان الموصل لـ"العربي الجديد": "اعتدنا على أم أحمد، حتى أن تنظيم داعش تركها ولم يعد يحاسبها على الغناء في الشوارع باستثناء حرصه على أن تبقى ملابسها مستورة، فقد فقدت عقلها ولا يمكن السيطرة عليها وتخرج من منزل شقيقتها، حيث تقيم، كل صباح تقريباً تنشد الأغنية، التي كانت تتلوها يوم زفاف ولدها أحمد، والذي قُتل في حمام السوق مع أصدقائه الذين أخذوه إلى هناك استعداداً لحفل الزواج، بعد سقوط صاروخ عليهم".
أم أحمد، أو فاطمة العمر، تختصر حكاية الموصل، المدينة التي جرّدها رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، من كل سلاح ثم هرب بقواته وجيشه منها وسلّمها لتنظيم "داعش"، الذي أوغل فيها قتلاً وتدميراً. وعاش سكان الموصل أمس، الجمعة، الذكرى الثانية لخروج مدينتهم عن الدولة، مع اكتمال عامين على احتلالها من "داعش"، الذي بدّل معالم المدينة المعروفة بالفرح والغناء والموسيقى، إلى ساحات للإعدام، حتى أن الأرصفة غيّر لونها من الأصفر والأبيض إلى الأسود.
وسيطر "داعش" على الموصل عاصمة محافظة نينوى، بعد انسحاب قوات الجيش العراقي من دون معارك تُذكر، لتتهاوى باقي مدن شمال العراق خلال أربع وعشرين ساعة مثل تكريت والشرقاط وبيجي والحويجة، ثم امتدت هذه الموجة من سقوط المناطق بيد "داعش" إلى مدن غرب البلاد وأعالي الفرات في مساحة تعادل أكثر من ثلث العراق، مما أدخل البلاد في فوضى جديدة دفع ثمنها العراقيون وما زالوا، وصاحبتها أعمال انتقام وعنف طائفية نفذتها مليشيات "الحشد الشعبي"، وعمليات قصف عشوائي للجيش العراقي على المدن، تسبّبت بخسائر بشرية كبيرة، ونزوح نحو أربعة ملايين شخص، فضلاً عن آلاف المفقودين وخسائر مادية كبيرة تقدر بأكثر من 40 مليار دولار في البنى التحتية.
وبدخول السنة الثالثة لسقوط الموصل، ينهي "داعش" سنة ثانية على إطلاق "دولة الخلافة الإسلامية" بزعامة أبو بكر البغدادي. وفي غضون سنتين، شهدت الموصل الكثير من المآسي على يد عناصر التنظيم. فقد هرب من تمكّن من مدينته، مستغنياً عن أملاكه، التي صادرها "داعش" عند هروب أصحابها، فيما يفرض التنظيم شروطاً قاسية على السكان، تصل حد الرجم والقتل بأبشع الوسائل في حال مخالفة الأهالي تعليماته. وعُرف أيضاً عن "داعش" تطبيقه لما يقول إنها "أحكام شرعية"، منفذاً عمليات سبي لنساء من الديانات الأخرى، وقتل الرجال ممن لم "يعلنوا توبتهم" والدخول في الإسلام، فيما قتل عدداً كبيراً منهم، وهو ما أدى إلى هروب عشرات آلاف العوائل المسيحية والأيزيدية إلى خارج المحافظة.
كذلك عمد التنظيم إلى الاعتداء على واحدة من أهم الكنوز الأثرية في العالم، حين حطّم تماثيل وآثار تعود إلى حقب زمنية مختلفة، بالإضافة إلى معالم دينية بحجة أنها مخالفة للشريعة الإسلامية، موجودة بكثرة في الموصل التي تُعتبر مهد الحضارة الآشورية.
وكانت نداءات الاستغاثة تنطلق قبل عامين من وسط الموصل إلى مقر قيادة الجيش في بغداد تطالب بإرسال دعم وتعزيزات للمدينة قبل سقوطها بالكامل. وتشرح إحدى تلك البرقيات، التي اطلعت عليها لجنة التحقيق في حادثة سقوط الموصل، أن الجانب الأيسر من المدينة سقط بيد بضع عشرات من "داعش" وأن قوات الجيش وجهاز مكافحة الإرهاب، الذي يشرف عليه بشكل مباشر أحمد نوري المالكي، نجل رئيس الوزراء حينها، قد هربت من وحداتها.
يستذكر النقيب المقال، حسن الحمداني، وقائع سقوط المدينة بيد "داعش"، قائلاً: "كانوا بضع عشرات، وكان يمكن صدّهم، لكن الموضوع عبارة عن تجربة داخل مختبر حكومة المالكي بدأها ولم يعرف السيطرة عليها في النهاية، وكل ذلك يتعلّق بالانتخابات والسعي لنصر على خصومه الأكراد والسنّة، فضلاً عن معاقبة أهالي الموصل". ويضيف الحمداني، لـ"العربي الجديد"، في أول حديث له مع وسيلة الإعلام، أن "المدينة سقطت مساءً بشكل كامل، بينما اختفى الجيش والشرطة، والشرطة الاتحادية وجهاز مكافحة الإرهاب ووحدة العمليات الخاصة وقوات الطوارئ، ومجموع عناصرهم 60 ألف مقاتل، وتركوا خلفهم معدات وأسلحة عسكرية متطورة تُقدّر بمليارات الدولارات، صارت بيد داعش"، مشدداً على أن "أهالي الموصل لم يخونوا مدينتهم، ومن خانها هو من تولى أمر أمنها وجرّد الناس حتى من بنادق الصيد، ثم هرب".
اقــرأ أيضاً
وهرب مئات آلاف المواطنين من المدينة قاصدين بغداد، حيث عانوا مأساة أخرى، عندما منعت الحكومة دخول سكان الموصل والأنبار إلى العاصمة وطالبتهم بتكفيل في إجراء يشبه تأشيرات الدخول بين الدول لكن بشكل مشدد وبدائي، لتتجه الأنظار الى مناطق أخرى من بينها إقليم كردستان، الذي بات يحوي على نحو أربعة ملايين نازح فروا من مناطق سيطرة تنظيم "داعش".
وخلصت لجنة التحقيق العراقية، التي أنهت أعمالها في أغسطس/آب من العام الماضي، إلى اتهام المالكي بالتسبّب في سقوط الموصل بيد "داعش" وارتكاب جرائم تدخل ضمن المادة 159 من الدستور (الخيانة العظمى). كما أمرت اللجنة بوضع 41 ضابطاً ومسؤولاً عراقياً قيد الإقامة الجبرية والبدء بمحاكمتهم عسكرياً، إلا أن أياً من المتهمين لم يُحل للقضاء، ولم يتم استدعاؤهم بسبب خضوع الجهاز القضائي العراقي لسيطرة الأحزاب الحاكمة.
وفشلت القوات العراقية في إعادة تجميع صفوفها واستعادة المدينة، إذ نفذت عمليتين عسكريتين هذا العام، الأولى في التاسع من يناير/كانون الثاني لم تحقق أية نتائج في الوصول إلى حدود المدينة حتى لو من بعيد، فيما أطلقت العملية الثانية وهي الأكبر تجهيزاً وعدداً في الرابع والعشرين من مارس/آذار الماضي وأطلق عليها "الفتح"، إلا أنها فشلت في تحقيق أي تقدّم باستثناء السيطرة على أربع قرى صغيرة تبعد عن الموصل نحو 50 كيلومتراً، تمكّن "داعش" في ما بعد من استعادة إحداها.
وتواجه عملية استعادة مدينة الموصل مشاكل سياسية، فضلاً عن الضعف العسكري العراقي، فقوات "الحشد الشعبي" وحزب "العمال الكردستاني"، الذين يصرون على المشاركة في المعركة، باتوا مرفوضين بالكامل من قِبل أهالي المدينة وحكومة محافظة نينوى المحلية، في الوقت الذي تعمل فيه تركيا على تدريب ودعم أبناء العشائر السنّية في محافظة نينوى وقوات البشمركة، وهو ما ترفضه حكومة بغداد، التي تعطي في المقابل لإيران أدواراً قيادية في إدارة معارك من المفترض أن تكون عراقية على أرض عراقية.
ونفذت قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن نحو 6 آلاف طلعة جوية فوق الموصل، من بينها 3800 ضربة جوية لأهداف قالت إنها تابعة لتنظيم "داعش". وأنتجت عمليات القصف الجوي والصاروخي التي تطاول المدينة منذ عامين فضلاً عن عمليات الإعدام شبه اليومية، التي ينفذها التنظيم، أرقاماً مخيفة في عدد الضحايا من سكان الموصل بلغت وفقاً لمصادر طبية في الموصل نحو 30 ألف قتيل وجريح، 55 في المائة منهم من الأطفال والنساء.
ومع مرور سنتين على سقوط المدينة، لا يزال الدخان ورائحة الموت يلفانها، في مستقبل يصفه الحاج، خطاب البياتي، أحد سكان المدينة، بأنه "مجهول ونسعى ألا نفكر فيه كثيراً، فلا أحد قادر على معرفة نهاية الحكاية".
أم أحمد، أو فاطمة العمر، تختصر حكاية الموصل، المدينة التي جرّدها رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، من كل سلاح ثم هرب بقواته وجيشه منها وسلّمها لتنظيم "داعش"، الذي أوغل فيها قتلاً وتدميراً. وعاش سكان الموصل أمس، الجمعة، الذكرى الثانية لخروج مدينتهم عن الدولة، مع اكتمال عامين على احتلالها من "داعش"، الذي بدّل معالم المدينة المعروفة بالفرح والغناء والموسيقى، إلى ساحات للإعدام، حتى أن الأرصفة غيّر لونها من الأصفر والأبيض إلى الأسود.
وبدخول السنة الثالثة لسقوط الموصل، ينهي "داعش" سنة ثانية على إطلاق "دولة الخلافة الإسلامية" بزعامة أبو بكر البغدادي. وفي غضون سنتين، شهدت الموصل الكثير من المآسي على يد عناصر التنظيم. فقد هرب من تمكّن من مدينته، مستغنياً عن أملاكه، التي صادرها "داعش" عند هروب أصحابها، فيما يفرض التنظيم شروطاً قاسية على السكان، تصل حد الرجم والقتل بأبشع الوسائل في حال مخالفة الأهالي تعليماته. وعُرف أيضاً عن "داعش" تطبيقه لما يقول إنها "أحكام شرعية"، منفذاً عمليات سبي لنساء من الديانات الأخرى، وقتل الرجال ممن لم "يعلنوا توبتهم" والدخول في الإسلام، فيما قتل عدداً كبيراً منهم، وهو ما أدى إلى هروب عشرات آلاف العوائل المسيحية والأيزيدية إلى خارج المحافظة.
كذلك عمد التنظيم إلى الاعتداء على واحدة من أهم الكنوز الأثرية في العالم، حين حطّم تماثيل وآثار تعود إلى حقب زمنية مختلفة، بالإضافة إلى معالم دينية بحجة أنها مخالفة للشريعة الإسلامية، موجودة بكثرة في الموصل التي تُعتبر مهد الحضارة الآشورية.
وكانت نداءات الاستغاثة تنطلق قبل عامين من وسط الموصل إلى مقر قيادة الجيش في بغداد تطالب بإرسال دعم وتعزيزات للمدينة قبل سقوطها بالكامل. وتشرح إحدى تلك البرقيات، التي اطلعت عليها لجنة التحقيق في حادثة سقوط الموصل، أن الجانب الأيسر من المدينة سقط بيد بضع عشرات من "داعش" وأن قوات الجيش وجهاز مكافحة الإرهاب، الذي يشرف عليه بشكل مباشر أحمد نوري المالكي، نجل رئيس الوزراء حينها، قد هربت من وحداتها.
يستذكر النقيب المقال، حسن الحمداني، وقائع سقوط المدينة بيد "داعش"، قائلاً: "كانوا بضع عشرات، وكان يمكن صدّهم، لكن الموضوع عبارة عن تجربة داخل مختبر حكومة المالكي بدأها ولم يعرف السيطرة عليها في النهاية، وكل ذلك يتعلّق بالانتخابات والسعي لنصر على خصومه الأكراد والسنّة، فضلاً عن معاقبة أهالي الموصل". ويضيف الحمداني، لـ"العربي الجديد"، في أول حديث له مع وسيلة الإعلام، أن "المدينة سقطت مساءً بشكل كامل، بينما اختفى الجيش والشرطة، والشرطة الاتحادية وجهاز مكافحة الإرهاب ووحدة العمليات الخاصة وقوات الطوارئ، ومجموع عناصرهم 60 ألف مقاتل، وتركوا خلفهم معدات وأسلحة عسكرية متطورة تُقدّر بمليارات الدولارات، صارت بيد داعش"، مشدداً على أن "أهالي الموصل لم يخونوا مدينتهم، ومن خانها هو من تولى أمر أمنها وجرّد الناس حتى من بنادق الصيد، ثم هرب".
وهرب مئات آلاف المواطنين من المدينة قاصدين بغداد، حيث عانوا مأساة أخرى، عندما منعت الحكومة دخول سكان الموصل والأنبار إلى العاصمة وطالبتهم بتكفيل في إجراء يشبه تأشيرات الدخول بين الدول لكن بشكل مشدد وبدائي، لتتجه الأنظار الى مناطق أخرى من بينها إقليم كردستان، الذي بات يحوي على نحو أربعة ملايين نازح فروا من مناطق سيطرة تنظيم "داعش".
وخلصت لجنة التحقيق العراقية، التي أنهت أعمالها في أغسطس/آب من العام الماضي، إلى اتهام المالكي بالتسبّب في سقوط الموصل بيد "داعش" وارتكاب جرائم تدخل ضمن المادة 159 من الدستور (الخيانة العظمى). كما أمرت اللجنة بوضع 41 ضابطاً ومسؤولاً عراقياً قيد الإقامة الجبرية والبدء بمحاكمتهم عسكرياً، إلا أن أياً من المتهمين لم يُحل للقضاء، ولم يتم استدعاؤهم بسبب خضوع الجهاز القضائي العراقي لسيطرة الأحزاب الحاكمة.
وفشلت القوات العراقية في إعادة تجميع صفوفها واستعادة المدينة، إذ نفذت عمليتين عسكريتين هذا العام، الأولى في التاسع من يناير/كانون الثاني لم تحقق أية نتائج في الوصول إلى حدود المدينة حتى لو من بعيد، فيما أطلقت العملية الثانية وهي الأكبر تجهيزاً وعدداً في الرابع والعشرين من مارس/آذار الماضي وأطلق عليها "الفتح"، إلا أنها فشلت في تحقيق أي تقدّم باستثناء السيطرة على أربع قرى صغيرة تبعد عن الموصل نحو 50 كيلومتراً، تمكّن "داعش" في ما بعد من استعادة إحداها.
ونفذت قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن نحو 6 آلاف طلعة جوية فوق الموصل، من بينها 3800 ضربة جوية لأهداف قالت إنها تابعة لتنظيم "داعش". وأنتجت عمليات القصف الجوي والصاروخي التي تطاول المدينة منذ عامين فضلاً عن عمليات الإعدام شبه اليومية، التي ينفذها التنظيم، أرقاماً مخيفة في عدد الضحايا من سكان الموصل بلغت وفقاً لمصادر طبية في الموصل نحو 30 ألف قتيل وجريح، 55 في المائة منهم من الأطفال والنساء.
ومع مرور سنتين على سقوط المدينة، لا يزال الدخان ورائحة الموت يلفانها، في مستقبل يصفه الحاج، خطاب البياتي، أحد سكان المدينة، بأنه "مجهول ونسعى ألا نفكر فيه كثيراً، فلا أحد قادر على معرفة نهاية الحكاية".