ظاهرة السرقة في فرنسا... استثمار في العنصرية

22 يوليو 2024
عقب عملية سرقة في باريس، 1 أغسطس 2023 (ستيفانو رولانديني/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **السرقة في فرنسا**: تزايدت السرقات في باريس، من هواتف ومحافظ إلى سيارات ومنازل، رغم الجهود الأمنية، خاصة مع اقتراب الأحداث الكبرى مثل دورة الألعاب الأولمبية.
- **التحيزات الإحصائية**: أجهزة الدولة تُعتبر غير كفؤة في مكافحة السرقة، مع رقابة أكبر على الأجانب من أصول مغاربية، رغم عدم وجود تأثير للهجرة على الانحراف.
- **التلاعب بالرأي العام**: الإعلام والسياسيون استغلوا قضية الهجرة والجنوح، مما أدى إلى صعود العنصرية وزيادة التصويت لـ"التجمع الوطني".

تقول نكتة فرنسية قديمة إن "الفرنسي الذي يصوّت من أجل الجبهة الوطنية هو شيوعي تعرّض للسرقة مرتين". ومعنى ذلك أن الشيوعي يمكن أن يصوّت لليمين المتطرف، على نحو احتجاجي، للتعبير عن عدم رضاه على الحكومة، وما يهمه ليس النتيجة السياسية ولا هوية الحزب الحاكم، بل مكافحة السرقة في فرنسا. وحظيت السرقة في فرنسا أخيراً بنقاش مستفيض في وسائل الإعلام خلال حملة الانتخابات التشريعية المبكرة التي جرت على دورتين في 30 يونيو/حزيران الماضي والسابع من الشهر الحالي، وذلك بوصفها خطراً بات يهدد العاصمة باريس، مركز الدولة والأنشطة الثقافية والسياحية والاقتصادية، والتي تجتذب أكبر قدر من السياح عالمياً. وعلى العموم، فإن هذه الظاهرة ليست جديدة، وهي في حالة مدّ وجزر.

لا تتطابق الأرقام حول السرقة في فرنسا مع الدعاية الإعلامية

لكن يندر أن نتعرف على أحد سكان باريس لم يتعرض للسرقة مرة أو مرتين. تعد أحياء بعينها هدفاً ثميناً للصوص، لكن المدينة كلها أصبحت مستباحة، وكل شيء قابل للسرقة، مثل هواتف محمولة أثناء استعمالها في الشارع، أو في داخل وسائل النقل، محافظ شخصية، حقائب نسائية، سلاسل ذهبية في العنق، ساعات اليد، دراجات، سيارات، بيوت، محال الصرافة وبيع الذهب والمجوهرات، فيما هناك نشالون صغار وعصابات كبيرة متخصصة. يتكرر نداء آلي في محطات المترو لتنبيه المسافرين من وجود نشالين، وذلك يحصل منذ حوالي ثلاثة عقود، بينما زادت التحذيرات قبل دورة الألعاب الأولمبية الصيفية المقررة في الـ26 من الشهر الحالي، والتي تستضيفها باريس وسط استنفار أمني كبير لتأمين الزوار الذين يواكبون هذا الحدث العالمي.

السرقة في فرنسا

هناك شبه إجماع في أوساط الرأي العام على أمرين، الأول هو أن أجهزة الدولة لا تتحلى بالكفاءة التامة للقضاء على ظاهرة السرقة، وهذا يخص الشرطة والقضاء وإدارات السجون والهجرة. أما الثاني فهو أن السرقة في فرنسا تحولت إلى مهنة مربحة لأعداد لا يستهان بها من الجانحين.

قصص كثيرة يسمعها زوار باريس من رجال ونساء عرب وفرنسيين وسياح تعرضوا للسرقة. وتداولت وسائل إعلام فرنسية إحدى القصص، وهي قصة سعيد الفلسطيني الذي يسكن بيتاً بالطابق الأرضي في حي شعبي. تعرّض سعيد للسرقة مرتين خلال ثلاثة أشهر من قبل العصابة نفسها، التي تراقبه حين يجلس في الحديقة مع زوجته، ليدخل أحدهم من نافذة الصالون ويسرق ما يجده من أشياء خفيفة وغالية. في المرة الأولى، سرق مصاغ الزوجة، وفي المرة الثانية محفظة شخصية تحتوي 500 يورو وبطاقة الهوية ورخصة السياقة والبطاقة المصرفية. وعلى الفور، قدّم شكوى للشرطة في المرتين، مرفقة بصور كاميرا الشارع التي تظهر اللص وهو يتسلل إلى داخل البيت ويخرج من النافذة. قالوا له في الشرطة لا نستطيع أن نفعل شيئاً، فحتى لو اعتقلنا اللص فسيُطلق سراحه بعد مدة، إذ إن السجون مليئة، وليست لدى إدارتها موازنات من أجل استضافة نزلاء جدد، عليك أن تحمي نفسك. ونصحوه بتركيب نظام حماية من السرقة.

حكاية أخرى عن موظف فرنسي يسكن الدائرة السابعة القريبة من وزارة الخارجية، هاجمه شابان وهو يخرج من محطة المترو، وقطعا السلسلة الذهبية التي في عنقه، وبعد أيام، استوقفه اثنان آخران ليلاً وهو عائد من حفل عشاء مع زوجته، وأشهرا عليهما سكيناً، وأجبراهما على تسليم ما بحوزتهما من نقود وبطاقات مصرفية. قدم الرجل شكوى للشرطة وحصل على الإجابة نفسها، ولذلك صار يخرج من منزله ويعود بالسيارة ليلاً، حتى لو أراد تناول العشاء على بعد 500 متر.
يكفي أن يقف المرء في بعض محطات المترو القريبة من المعالم السياحية حتى يشاهد لعبة القط والفأر. الشرطة تعمل على حماية السياح من السرقة، واللصوص يبحثون عن أهداف سهلة، امرأة تعلق حقيبة على ظهرها، أو تضع سلسلة ذهب على عنقها أو ساعة ثمينة أو تتحدث بالهاتف، امرأة وحدها مساء في شارع جانبي، رجل عجوز يبدو عليه أنه ميسور الحال، وهكذا. وتنصح الشرطة بعدم مطاردة اللصوص تحاشياً للضرر، ففي الأسبوع الأول من الشهر الحالي، حاول رجل استعادة هاتفه المسروق، لكنه تعرّض لطعنة أردته قتيلاً.

كانت السرقة، قبل ثلاثين عاماً، تحصل في باريس بمعدل واحدة كل عشر دقائق، أصبحت الآن ثلاث سرقات في كل عشر دقائق. والمتهم البديهي هو العربي، رغم أن عربات المترو تعج بالغجر القاصرين القادمين من رومانيا، الذين يمارسونها علانية، لكن لا أحد يكترث لهؤلاء، حتى الشرطة التي تعتقلهم في محطة وتخلي سبيلهم في محطة أخرى. ويجرى التركيز على أصحاب السحنة السمراء، فيما صارت التهمة ملصقة بجنسية عربية أكثر من غيرها. ولا تتحدث وسائل الإعلام وأحزاب اليمين عن سواها.

حصلت عملية تلاعب مدروسة بالرأي العام، تكللت بالنجاح في فرنسا

ليست هناك مواصفات محددة للصوص المترو والشوارع. يمكن أن يكون مراهقاً أو شخصاً تجاوز الأربعين، وفي كافة الأحوال، هندامه مرتب وبنيته تساعده على الركض والهرب بسرعة وصعود الأدراج كي لا يُعتقل. وتتحدث بعض وسائل الإعلام، مثل قناة سي نيوز الفرنسية، عن أن العرب تجاوزوا السرقة في فرنسا إلى الاغتصاب وأعمال أخرى، كأن يقوم طفل عمره 12 عاماً بحرق المدرسة التي يدرس فيها ويصور الجريمة ويبث الفيديو. ومن المعروف أنّ أغلبية الأساتذة الفرنسيين ترفض التدريس في مدارس الضواحي التي تسكنها أغلبية من جاليات عربية وأفريقية. والملاحظ ازدياد حوادث الاعتداءات على المدرسين في العامين الأخيرين.

تحيزات إحصائية

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير الداخلية جيرالد دارمانان وزعيمة حزب التجمع الوطني مارين لوبان يربطون بين الهجرة والجنوح. ورغم الفارق في حدة الخطاب والمقاربة العامة، فإن الأرقام تؤكد أن نصف أعمال الجنوح تُنسب إلى أشخاص من أصول مهاجرة في صدارتها الهجرة المغاربية. مع أن الأجانب في فرنسا يمثلون نحو 7% من إجمالي السكان، ونحو 23% من الأفراد في السجون. هل يمكن أن نستنتج أن الأجانب أكثر انحرافاً من الفرنسيين؟ الجواب هو لا.

وراء هذه الأرقام، هناك عدد معين من التحيزات الإحصائية. علاوة على ذلك، تظهر العديد من الدراسات، بما في ذلك تلك التي أجراها وزير العدل الأسبق والمدافع السابق عن الحقوق جاك توبون، (2019) أن "الأقليات الظاهرة من الهجرة" تخضع لسيطرة أكبر من قبل الشرطة، وبالتالي يجرى اعتقالها. وهذا ليس كل شيء. بمجرد المثول أمام المحكمة، بنفس الصورة ونفس الجريمة، من المرجح أن يُدان الأجانب، وتكون الأحكام التي يتلقونها أطول، لذلك فإن عددهم أكبر في السجون.

وأجرى الباحثان أرنو فيليب وجيروم فاليت، العام الماضي، عدة بحوث حول العلاقة بين الانحراف والهجرة لصالح مركز الدراسات المستقبلية والمعلومات الدولي (CEPII)، وهو هيئة مسؤولة مباشرة أمام رئيس الوزراء، توصلا فيها إلى استنتاج واضح بالقول إن "الدراسات خلصت بالإجماع إلى أنه لا يوجد تأثير للهجرة على الانحراف". وهذا عكس ما يردده "التجمع الوطني" وحلفاؤه من حزب الجمهوريين والحكومة.

ثمة مسألة تستحق لفت النظر وهي أن هناك فئة من الجانحين من بلدان المغرب العربي، بعضهم محكوم، وبلادهم ترفض استردادهم، وبعضهم طليق السراح لأن السجون لم تعد تتسع. لكن الأرقام لا تتطابق مع الدعاية الإعلامية، إذ تفيد إحصائيات رسمية في عام 2023 بانخفاض السرقة في فرنسا ضد الأشخاص عموماً على أساس سنوي بمعدل 8% للسرقة العنيفة من دون أسلحة و3% للسرقة من دون عنف ضد الأشخاص، باستثناء السرقات بالأسلحة التي ارتفعت قليلاً بمعدل 2%. ويعد هذا النوع من السرقة من بين مظاهر الانحراف الملحوظ في وسائل النقل العام. ومع ذلك، تراجع عدد ضحايا السرقة في فرنسا والعنف في وسائل النقل وتزايدت عمليات السطو بنسبة 4% وسرقات المركبات بنسبة 5%، وهو ما يخالف الزيادة القوية جداً في عام 2022 التي بلغت 30%.

ووفقاً للعديد من الاستطلاعات التي نشرت في الأعوام الأخيرة، يعتقد حوالي ثلثي الذين شملتهم أن هناك عدداً كبيراً للغاية من المهاجرين في فرنسا، الأمر الذي طرح سؤالاً حول مصدر هذا التصور. يذكر باحثون في مركز الدراسات المستقبلية والمعلومات الدولي تجربة ألمانية ذات مغزى خاص، إذ في عام 2016، اتخذت صحيفة ساكسشي تسايتونغ الألمانية، وهي صحيفة توزع في منطقة ساكسونيا، قراراً جذرياً، بدأ الصحافيون فيها الإشارة بشكل منهجي إلى أصل الجناة المذكورين في مقالاتهم. ليس فقط عندما يكونون أجانب، ولكن أيضاً عندما يكونون ألماناً. النتيجة: في هذه المنطقة، خلال سنوات قليلة، انخفض القلق بشأن الهجرة بشكل كبير.

هذه النتيجة ليست معزولة، فهناك أبحاث أخرى، في سويسرا على وجه الخصوص، تتقارب في الاتجاه نفسه، وتبيّن أن ما يثير الخوف بين السكان ليس الإفراط في تمثيل الانحراف بين الأجانب، بل هناك قضايا أخرى منها الهوية. وعلى هذا استثمر على نحو مفرط عدد من السياسيين والإعلاميين في هذه المسألة، وحصلت عملية تلاعب مدروسة بالرأي العام، تكللت بالنجاح في فرنسا، على ضوء نسبة التصويت العالية لـ"التجمع الوطني". الصورة الإيجابية التي صنعها الآباء تدمرت. وحلت محل صورة العربي الأمين المتفاني في العمل من أجل تدريس الأبناء وشراء منزل، صورة أخرى سوداء كريهة بشعة، "الإرهابي اللص المغتصب العنيف" الذي يكسر ويحرق، واقترن بذلك تقدم العنصرية على نحو غير مسبوق.

المساهمون