شهدت إسرائيل أخيراً صداماً بين التيار الديني الصهيوني والتيار الصهيوني العلماني الليبرالي، مساء 24 سبتمبر/أيلول الماضي، حول إقامة صلاة "يوم الغفران" منفصلة للرجال والنساء في ميدان "ديزنغوف" في مدينة تل أبيب، الذي يعتبر معقل العلمانية والليبرالية الصهيونية.
وتحول هذا الصدام إلى نقاش عام حول مكانة الدين في الحيز العام في إسرائيل عامة، وفي المدن الكبيرة ذات الطابع غير الديني. ويحمل هذا الصدام طاقات للتوسع والتصاعد، ويعكس عمق التصدعات الحالية في المجتمع الإسرائيلي، والتداخل البنيوي بين التصدعات السياسية والدينية والإثنية، وعلاقتهم بالخطة الحكومية لتقييد القضاء.
وهذا الصدام استمرار لمحاولة التيارات الدينية تغيير طابع وهوية المجتمع والدولة في إسرائيل، وتصاعد قدراتها وأدواتها للعمل داخل المجتمع الإسرائيلي، بعد أن تركزت في الماضي في المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967، وكانت جزءا من أدوات المشروع الصهيوني العام.
يسعى التيار الديني للسيطرة على إدارة الحيز العام وجعله متدينا وخاضعا لقواعد الديانة اليهودية المتشددة
وحاولت حركة "روش يهودي" (الرأس اليهودي، وهي مجموعة يمينية متدينة نشطة في المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967، نقلت جزءاً من نشاطها إلى المدن الإسرائيلية، بغية تهويد الحيز العام منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي) في ليلة "يوم الغفران" اليهودي، إقامة صلاة في ميدان "ديزنغوف" في تل أبيب من خلال إقامة مسرح بدون تصريح، واستخدام وسائل مادية للفصل بين الجنسين، بما يتعارض مع سياسة البلدية وقرارها منع الطقوس الدينية المنفصلة، وبخلاف قرار المحكمة العليا الذي دعم موقف البلدية قبل عدة أيام من الحدث.
"روش يهودي" تمسكت بالفصل بين الرجال والنساء
حركة "روش يهودي" أصرّت على خرق القرار، وإقامة صلاة، مع فصل بين الرجال والنساء. فقامت على أثر ذلك مجموعة علمانية بالتصدي لها، ومنعها من إقامة طقوس الصلاة، واستعملت خلال ذلك العنف، ولو بشكل محدود. وادعت هذه المجموعة أنها لن تسمح بتغيير طابع تل أبيب العلماني.
كما أن منع إقامة طقوس صلاة والفصل بين الرجال والنساء، حصل في عدة مواقع أخرى في تل أبيب وعدد من المدن الإسرائيلية التي تعتبر علمانية. لكن الحدث الأبرز والعنيف كان في ميدان "ديزنغوف" في تل أبيب.
هجوم على المجموعات الليبرالية العلمانية
تعطيل الصلاة المخططة والتهجم على المصلين، أثار ردود فعل واسعة في الحلبة السياسية، ووضح أبعاد الحدث وتداعياته. واعتبرت أطراف التحالف الحكومي أنها عملية قمع من قبل المجموعات الليبرالية العلمانية، لمنع "اليهود" من أداء الصلاة، وأن ذلك منافٍ للقيم اليهودية، بل والديمقراطية.
وأبرز الردود جاءت من قبل رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الذي قال بعد الحدث، إن "المتظاهرين اليساريين قاموا بأعمال شغب ضد اليهود". ووفقاً لنتنياهو "يبدو أنه لا توجد حدود ولا أعراف ولا تحفظات على الكراهية من جانب المتطرفين في اليسار". وأضاف: "أنا، مثل غالبية المواطنين الإسرائيليين، أرفض ذلك. مثل هذا السلوك العنيف ليس له مكان بيننا".
وبذلك يعود نتنياهو إلى ذات الخطاب الذي روّج له منذ وصوله لرئاسة الحكومة عام 1996، بأن التصدع في المجتمع الإسرائيلي هو بين اليسار و"اليهودية". وبذلك يحاول نزع الهوية اليهودية عن تيارات اليسار الصهيوني.
كذلك انتقد وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير التظاهرات ضد صلاة الفصل بين الجنسين. وكتب أنه "في يوم الغفران هذا رأينا كارهين يحاولون طرد اليهودية من المجال العام".
رئيس لجنة القضاء والقانون في الكنيست، سيمحا روطمان، اعتبر أن ما حصل يوضح الفرق بين "أولئك الذين يريدون إسرائيل يهودية وديمقراطية، نعيش فيها جميعاً في تسامح وأخوة، وبين أولئك الذين يريدون إسرائيل غير يهودية وغير ديمقراطية تحكمها مجموعة متطرفة تدعي التقدمية". رئيس حزب "يهدوت هتوراة" (المتشدد دينياً - حريدي)، موشيه غافني كان الأوضح حين صرح بأن ما يحدث هو حرب دينية.
في المقابل، اعتبر رئيس المعارضة يئير لبيد أن ما جرى هو محاولة من "مجموعة مسيانية متطرفة وعنصرية جاءت من خارج تل أبيب لتحاول فرض نسختها من اليهودية علينا، وتريد نقل الصراع إلى داخل تل أبيب. إنهم يصرون على الفصل بين الجنسين في الخارج، ويطالبون باسم التسامح أن يقرروا لنا ما هو مسموح وما هو غير مسموح".
ردود الفعل هذه توضح أن تيار اليمين المتطرف يرى أنه يحافظ على الدين والتقاليد اليهودية، بل إنها جزء بنيوي من هويته، بينما "اليسار الصهيوني" يتنازل عن هويته اليهودية وعن الدين والتقاليد، ويريد فرض ذلك على كل المجتمع.
تمدد التصدع إلى غالبية محاور الحياة اليومية
يوضح هذا الحدث أن التصدع السياسي الحالي في إسرائيل بدأ بالتوسع والتمدد إلى غالبية محاور الحياة اليومية، ولم يعد يقتصر على طبيعة ومكانة السلطة القضائية، ولا على حدود تدخلها باتخاذ القرارات في إسرائيل.
ويسعى التيار الديني لتغيير طابع إسرائيل في كافة المناحي، والسيطرة على إدارة الحيز العام وجعله متدينا وخاضعا لقواعد الديانة اليهودية المتشددة. وهو يمتلك الأدوات والتنظيم لذلك، إذ أقام التيار الديني الصهيوني منذ تسعينيات القرن الماضي، خاصة بعد اتفاقيات أوسلو، ما يسمى بـ"نواة التوراتية" في العديد من البلدات الإسرائيلية، أولاً بهدف التأثير على المجتمع الإسرائيلي "واحتلال القلوب" لمنع أي انسحاب إسرائيلي من المناطق المحتلة، وثانياً لخلق حالة وبيئة اجتماعية ثقافية داعمة لوجود عائلات متدينة، ولو كانت أقلية، في البلدات الإسرائيلية غير المتدينة، بغية توسيع انتشارها الجغرافي والقيام بفعاليات تثقيف ديني قومي.
تدور معارك حول نوايا التيار الديني كسر التوازن السائد، حتى في معقل الليبرالية اليهودية في تل أبيب
وقد اعتبرت "النواة التوراتية" في العديد من الحالات كرد صهيوني على تزايد نسبة السكان الفلسطينيين في المدن الساحلية التاريخية، مثل يافا واللد وعكا، وجزء من سياسات التهويد، وهي لقيت دعم المؤسسات الحكومية في ذلك.
هذه المؤسسات بدأت الآن في إضافة مهام لأهدافها السابقة، بصيغة تهويد الحيز العام في المدن الإسرائيلية غير الدينية، ومنع هيمنة التيارات العلمانية الليبرالية في تلك المدن، خاصة في ضوء التصدع السياسي الحالي في المجتمع.
وما دامت هذه المؤسسات تعمل تحت سقف الأهداف الصهيونية الجماعية المتعلقة بمواجهة الفلسطينيين في الداخل، خاصة في المدن الساحلية، وعلى تعزيز وتوسيع الاستيطان في مناطق الـ 67، لم تكن محل انتقاد من قبل التيارات العلمانية الصهيونية، بل تعاملوا معها كجزء من الأدوات الشرعية. الآن ومع توسع أهدافها، وفي ظل خطة اليمين الديني للسيطرة على كافة مفاصل صنع القرار في إسرائيل، باتت موضع اتهام وهجوم من قبل التيارات العلمانية الصهيونية.
التيار العلماني استبطن حقيقة أهداف التيار الديني
التيار الليبرالي العلماني استبطن حقيقة أهداف التيار الديني، وفهم أن الصراع الآن لا يقتصر فقط على إدارة الدولة، بل أيضاً على أسلوب الحياة والحريات الشخصية، حتى في معقل الليبرالية الصهيونية تل أبيب، وغيرها من مدن تعتبر علمانية لغاية الآن، وأن الصراع على الخطة الحكومية لتقييد القضاء يعني أيضاً صراعاً على طبيعة وهوية الدولة، بل والمدن الرئيسية، وأسلوب الحياة.
ما يشهده المجتمع الإسرائيلي في العام الأخير من توسع التصدع السياسي والأزمة السياسية نتيجة الخطة الحكومية لتقييد القضاء، ومن تصعيد في معركة التيار الديني المتشدد مع التيار العلماني الليبرالي الصهيوني، لم يكن له سابقة بهذه الحدة والوتيرة والعناوين. وقد ذهب الرئيس إسحاق هرتسوغ لوصف أحداث تل أبيب بأنها تشكل خطراً وجودياً على إسرائيل، وأن أخطر ما يمكن أن تواجهه إسرائيل هو الانقسام الداخلي.
في السابق دار صراع ناعم بين التيار العلماني الصهيوني والتيارات الدينية والمتشددة دينيا (الحريديم)، حول إدارة الفضاء العام الكلي في الدولة، وحول أمور تتعلق بالحفاظ على يوم السبت عطلة والأحوال الشخصية.
الصراع يدور حول نوايا التيار الديني كسر التوازن
أما حالياً فالصراع، وأحياناً المعارك، تدور حول نوايا التيار الديني تعميق تهويد الحيز العام والسياسات العامة، وكسر التوازن السائد، حتى في معقل الليبرالية اليهودية في تل أبيب.
قد يكون هذا التحول بسبب الثقة الفائضة لدى التيارات الدينية والشعور بالقوة، بسبب هيمنتهم السياسية وزيادة نسبتهم العددية في المجتمع الإسرائيلي، وتغلغلهم في مؤسسات الإعلام والمؤسسة الأمنية، وكذلك نتيجة لشعورهم أن الأجواء الراهنة توفر فرصة للحسم، أو على الأقل لتغيير التوازن السائد لغاية الآن لصالحهم.
وقد يكون هذا بسبب الشعور بأن "التهديدات الخارجية" قد تراجعت وأن لا خطر وجوديا جديا على إسرائيل، التي نجحت بفرض وجودها على المنطقة وانتصرت، وحسمت أمر المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967، وحان الوقت لحسم الجبهة الداخلية، لكونها شرطا ضروريا لعدم حصول أي تغيير في ملف المناطق الفلسطينية المحتلة 1967.
ولا يقل أهمية أن التيار الديني يعي مدى ارتباط مصير ومستقبل نتنياهو بالتحالف القائم، ومدى حاجته للتيارات الدينية المتطرفة للحفاظ على حكومته، ومسعاه للتهرب من المحاكمة، ويستغل هذا الواقع قدر الإمكان لابتزازه للحصول على مواقف داعمة لأهدافه. كل هذا أدى إلى تغيير طبيعة وحدة الصراع. فبعد أن كان الصراع في السابق ناعماً وبوتيرة منخفضة، تحول الآن إلى صدام ديني سياسي حام بوتيرة عالية.