بمرور عشر سنوات على هروب الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي من البلاد في 14 يناير/كانون الثاني 2011، بعد نحو شهر من اندلاع الاحتجاجات الشعبية وتصاعدها التدريجي عقب إحراق الشاب محمد البوعزيزي نفسه في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010، تدخل الثورة التونسية عامها العاشر بالعديد من المنجزات وأيضاً الكثير من التحديات والأزمات التي تراكمت على مدى السنوات. صحيح أن أسباب هذه الأزمات متعددة، وتتحمّل مسؤوليتها الكثير من الأطراف، إلا أن جذورها تعود إلى عقود من الخيارات السياسية والاقتصادية والمجتمعية الخاطئة. وبقدر الارتياح إلى تحقيق الثورة أهدافها السياسية بعد التقدّم في مجال الحريات والديمقراطية وعدم قدرة أنصار الثورة المضادة على إسقاط هذا المنجز، إلا أن التونسيين ينتظرون تحقيق مطلبها الأهم، أي ما صدحت به حناجر الشباب الغاضب في ديسمبر/كانون الأول 2010 "شغل، حرية، كرامة وطنية".
وإذا كان من شاهد على الثورة منذ اليوم الأول لاندلاعها وحتى هروب بن علي، فإنه شارع بورقيبة، الشارع الرئيس في قلب العاصمة تونس، والذي يحمل كل رموز التحولات السياسية والاجتماعية التي عرفتها البلاد على مدى عقود من الزمن، وهو الشارع الذي يفتح المدينة الإفرنجية في موازاة المدينة العتيقة التي تنتهي في "باب بْحَرْ"، كما ينطقها التونسيون.
يحمل الشارع كل رموز التحولات السياسية والاجتماعية التي عرفتها البلاد على مدى عقود من الزمن
هذا الشارع كان شاهداً على أيام لن ينساها التونسيون، ما عُرف بالخميس الأسود في 26 يناير/كانون الثاني 1978 (الذي شهد مواجهات بين العمال ونظام الحبيب بورقيبة) ثم ثورة الخبز في 3 يناير 1984 (التي شهدت احتجاجات على رفع أسعار الخبز)، وصولاً إلى 14 يناير 2011 عندما سقط نظام بن علي بعد سلسلة احتجاجات عمت البلاد التونسية منذ 17 ديسمبر 2010، عندما أقدم محمد البوعزيزي على إحراق نفسه أمام مقر محافظة سيدي بوزيد احتجاجاً على الظلم والفقر. وبينما يحفظ العالم تاريخ 17 ديسمبر، فإن وفاة البوعزيزي كانت في 5 يناير 2011، وهو التاريخ الذي ألهب الاحتجاجات في جميع أرجاء البلاد لتصل تدريجياً إلى العاصمة في 11 يناير، بينما كان الضحايا يتساقطون في أكثر من مدينة.
في 12 يناير 2011 تم اعتقال المتحدث باسم حزب العمال الشيوعي المحظور، حمة الهمامي، بتهمة التآمر على أمن الدولة، وبقي في دهاليز وزارة الداخلية في شارع بورقيبة يومين. يذكر التونسيون كيف اتجهت زوجته، المناضلة الحقوقية راضية النصراوي، صباح 14 يناير إلى أمام مقر وزارة الداخلية للمطالبة بإطلاق سراحه، قبل سقوط النظام بساعات، وهي صورة بقيت راسخة في أذهان التونسيين. يذكر الهمامي في تصريحات كثيرة عن هاتين الليلتين كيف كان مقيداً إلى سرير في قبو الداخلية، عندما وصلت إليه صباح 14 يناير أصوات الجماهير خارجاً تنادي بالحرية، بينما كان الارتباك والخوف قد عمّا صفوف أعوان الوزارة وهم يتحدثون عن محاولة اقتحامها من الجماهير الغاضبة التي غطّت كل شبر في الشارع الطويل وكانت تنادي "ديقاج/ إرحل" و"الشعب يريد إسقاط النظام".
قبل ذلك بليلة، مساء 13 يناير، أعلن الاتحاد العام التونسي للشغل أنّ ما يحدث في تونس ثورة شعبية، وأن مبادرات النظام جاءت متأخرة، ليعلن في 14 يناير عن إضراب عام في تونس، ليتوافد الآلاف أمام مقر الاتحاد، غير بعيد عن شارع بورقيبة، في تحدٍّ صارخ للحواجز الأمنية التي وضعها نظام بن علي، لتلتحم بعدها جموع المتظاهرين أمام وزارة الداخلية.
يقول القيادي النقابي في جامعة البنوك، المعارض في الحزب الديمقراطي التقدمي، الشاذلي فارح، إنه في صباح 14 يناير كان من أول الواصلين إلى شارع الحبيب بورقيبة حيث ضرب موعداً مع موظفين ونقابيين من القطاع المصرفي لتأطير مشاركتهم في الإضراب العام الذي دعت إليه المركزية النقابية حينها. ويضيف فارح لـ"العربي الجديد": "كانت الساعة تشير إلى حوالي السابعة وخمس عشرة دقيقة عندما وصلتُ إلى شارع بورقيبة، حيث كانت خيوط سقوط النظام تُنسج من دون تخطيط، بل بإرادة شعبية".
ويتابع أن الشارع كان في الساعات الأولى من صباح 14 يناير قليل الحركة ما عدا بعض المارة، قبل أن تبدأ وفود الموظفين من القطاع الذي ينتسب إليه في التوافد عند مدخل أحد الفروع المصرفية التي يعمل فيها على الضفة المقابلة لوزارة الداخلية. عند الرصيف التقت جموع الموظفين، وفي حدود الثامنة والنصف توجهت إلى مقر الاتحاد العام التونسي للشغل في "بطحاء محمد علي"، وفق رواية فارح، الذي يقول إنه كان آخر الوافدين إلى هناك بعدما فرغ من تنظيم صفوف موظفي القطاع المصرفي المشاركين في مسيرة الإضراب العام.
ويضيف فارح أنه في حدود الساعة التاسعة والنصف صباحاً، وعند وصوله إلى "بطحاء محمد علي"، كانت الأحياء المتفرعة عن المكان مزدحمة بالناس، قبل أن تنطلق المسيرة الشعبية نحو وزارة الداخلية عبر شارع بورقيبة، واستغرق قطع الأمتار الفاصلة بين أول الشارع ونهايته ساعة من الزمن حتى تصل الجموع إلى مقصدها بعدما اصطدمت بأول حاجز للشرطة وتمكنت من كسره. في الأثناء كانت مسيرة المحامين التي انطلقت من شارع باب بنات تتقدّم أيضاً نحو شارع الحبيب بورقيبة ليكون المحامون أول الملتحمين بالنقابيين أمام وزارة الداخلية، تلتها مسيرات أخرى للمواطنين وشخصيات سياسية توافدت على المكان الذي كان محاصراً بعناصر الأمن بالزيين النظامي والمدني.
ويعتبر القيادي النقابي أن شارع بورقيبة رحلة عمر، إذ يختزل سنوات من النضال من أجل لحظة الحرية، دارت أغلب فصولها في محيط لا يتجاوز الكيلومتر الواحد بين مقر الاتحاد العام التونسي للشغل ومقر الحزب الديمقراطي التقدمي وكل زوايا شارع بورقيبة في كل المحطات.
من جهتهم، كان المحامون بزيّهم الرسمي في قلب الاحتجاجات منذ انطلاق الثورة في سيدي بوزيد والقصرين، ففي 22 ديسمبر 2010، تجمّعوا في شارع باب بنات الذي يضم المحاكم وهيئة المحامين، منددين بالنظام وممارساته، ونظّموا وقفة احتجاجية في كامل محاكم الجمهورية في 31 ديسمبر، للتعبير عن تضامنهم مع المطالب الشعبية، وقامت قوات النظام آنذاك بالاعتداء عليهم.
ولا يزال المحامي ضياء الدين مورو، بعد عشر سنوات من الثورة، يعتبر أن شارع بورقيبة هو الشارع الأكثر رمزية في تونس وأن ذلك المكان الذي التحمت فيه مسيرة المحامين بعباءاتهم السوداء في 14 يناير 2011 بجماهير الغاضبين هو الإطار الطبيعي لكل التعبيرات والتظاهرات مهما كان نوعها أو لونها السياسي. ويقول مورو لـ"العربي الجديد"، إنه بعد عقد من الثورة لا يزال شارع بورقيبة يحتوي الجميع ويوفر المظلة الآمنة للتعبير عن الغضب والفرح والرفض والتوق إلى التغيير.
بعد عقد من الثورة لا يزال الشارع يحتوي الجميع ويوفر المظلة الآمنة للتعبير عن الغضب والفرح والرفض والتوق إلى التغيير
وعلى الرغم من أن هواجس كثيرة كانت تختلج صدور المحامين عند انطلاق مسيرتهم من مقر قصر العدالة في باب بنات نحو شارع بورقيبة، إلا أن وقع خطى المحامين، بحسب مورو، كان يكسر حواجز الخوف كلما تقدمت المسيرة من مصير مجهول ينتظرهم وينتظر البلاد في تلك اللحظة. ويضيف أن اقتراب المحامين من بوابة وزارة الداخلية مع قيادات سياسية كان كافياً لإنهاء عقود من الخوف من البناية الرمادية التي طالما تجنّب التونسيون حتى المرور بجانب أسوارها.
هذا الشارع الرمز، يعرفه التونسيون بشارع بورقيبة، وهو الاسم الذي أُطلق على كل الشوارع الرئيسية في كل المدن أثناء حكم الرئيس الحبيب بورقيبة، وفي بعضها تماثيل تجسد بعض حركاته، أزال أغلبها نظام بن علي بعد سنة 1987، بما فيها تمثاله في العاصمة.
يقول الباحث التونسي عدنان منصر، مدير ديوان الرئيس الأسبق منصف المرزوقي، في كتاب نُشر منذ أيام بعنوان "سنوات الرمل"، إن للشارع الرئيس في العاصمة مع التماثيل والنصب التذكارية قصة ضاربة في القدم، فقد كان اسمه الأول هو "شارع جول فيري"، رئيس الحكومة الفرنسية التي احتُلت في عهدها تونس. ومنذ 1899 انتصب التمثال المذكور في قلب الشارع مؤكداً رمزية الغزو والسيادة الجديدة في البلاد، وكان على التونسيين طيلة ستين عاماً تحمّل وجود ذلك النصب، ليتم تفكيكه في الأيام الأولى للاستقلال (1956). وبقي الشارع من دون تماثيل إلى حدود عهد بورقيبة. وحده ابن خلدون كان في مكانه الصحيح (تمثاله ماسكاً بكتابه في الجهة الأخرى من الشارع)، منزوياً ومراقباً ومتفرجاً في ذهاب الزعيم (بورقيبة) وعودته، وقدوم كل الآخرين ثم ذهابهم.
ولطالما كان هذا الشارع نبض الحياة في تونس، أكان للناس المتوجهين نحو المقاهي الكثيرة المترامية هنا وهناك، أو قاعات السينما، أم لأهل الثقافة والفن، وكان شاهداً على ولادة صحف وعروض ثقافية ومبارزات شعرية وندوات أدبية، فيما المسرح البلدي فيه يستضيف لقرن من الزمن مسرحيات ومهرجانات موسيقية وسينمائية تونسية ودولية (أيام قرطاج المسرحية والسينمائية والموسيقية)، ما جعل من تونس ومن الشارع قبلة المبدعين العرب والأفارقة بالخصوص.