سقوط رهانات بوتين: هكذا تأسست مقاومة لروسيا شرق أوكرانيا

05 مارس 2022
جندي أوكراني في دونباس (ماركوس يام/Getty)
+ الخط -

تحت شعار حماية السكان من أصل روسي في دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين في حوض دونباس، شرقي أوكرانيا، "الذين تعرضوا للتنمر والإبادة الجماعية من قبل نظام كييف لمدة ثماني سنوات"، أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 24 فبراير/شباط الماضي، ما سماها "عملية عسكرية خاصة" في أوكرانيا.

وفي خطابه الذي أعلن فيه الحرب، أضاف بوتين: "لهذا سنسعى جاهدين لنزع السلاح في أوكرانيا، وكذلك تقديم أولئك الذين ارتكبوا جرائم دموية عديدة ضد المدنيين، بمن فيهم مواطنو الاتحاد الروسي، إلى العدالة"، مشدداً في الوقت نفسه على أن خطط روسيا "لا تشمل احتلال الأراضي الأوكرانية".

كما ادّعى بوتين في خطابه أن "الإبادة الجماعية ضد ملايين الأشخاص الذين يعيشون في دونباس"، كانت وراء قرار موسكو الاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين، بغية "إيقاف هذا الكابوس"، على حد وصفه.

وسبق ذلك تقديرات على نطاق واسع تفيد بأن روسيا وفي حال لجوئها للخيار العسكري، ستحصر عملياتها في جبهة دونباس، للعديد من الأسباب، وهذا يصبّ في الاتجاه ذاته الذي حدَّده بوتين في خطاب إعلان الحرب.

لكن لم تمض سوى ساعات قليلة حتى تكشّف أن الحرب اتخذت مسار غزو شامل لأوكرانيا، على عكس كلام بوتين وما ذهبت إليه غالبية التحليلات، بما يملي إعادة النظر في الكثير من الفرضيات التي استند إليها المحللون والمراقبون لتطور مسار الأزمة الأوكرانية، ومنها حيثيات ترجيح فرضية حصر عمليات الجيش على جبهة دونباس.

العامل الديمغرافي والحسابات الخاطئة

 وتفرض المراجعة الأخذ بعين الاعتبار نقطتين هامتين: النقطة الأولى وقائع المعارك في منطقة شرق أوكرانيا. والنقطة الثانية التحول في الخطاب السياسي والإعلامي الرسمي الروسي، بتركيزه بعد انطلاق الأعمال العسكرية على أن جوهر الصراع يتمثل بالحفاظ على أمن ومصالح روسيا أولاً، وأن ذلك يتطلب تقديم ضمانات بأن تكون "أوكرانيا محايدة"، إلى جانب "الأخذ بعين الاعتبار المصالح المشروعة لروسيا في مجال الأمن"، بالإضافة إلى "الاعتراف بسيادة روسيا على شبه جزيرة القرم".

وعلى الرغم من تضمين الشروط أيضاً شرط الاعتراف بما يسمى جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، إلا أن الكثير من التصريحات الروسية لم تقدمه كشرط مسبق، بل أقرب إلى كونه جزئية تفاوضية، يمكن وضعها على طاولة المفاوضات في مرحلة لاحقة، عند البحث في تسوية سياسية شاملة لمسألة دونباس.


فوجئ الروس بالمقاومة ضدهم في الشرق الأوكراني

وتبين النقطة الأولى أسباب تغير الخطاب السياسي والإعلامي الرسمي الروسي، ولماذا لم يصمد طويلاً المبرر الذي قدمه بوتين كسبب لشن الحرب على أوكرانيا، واللجوء إلى خيار غزو واسع لأراضيها.

فمن أهم المفاجآت التي تفجرت في الساعات الأولى من الحرب، المقاومة الشرسة التي واجهتها القوات الروسية في منطقتي شرق وجنوب شرق أوكرانيا.

واتضح لاحقاً أن ذلك لا يعود فقط إلى التحضيرات والاستعدادات التي قامت بها أوكرانيا، إنما إلى واقع مختلف في المنطقتين لم يُرصد سابقاً بشكل دقيق، ما أدى إلى خطأ في الحسابات لدى القيادة السياسية والعسكرية الروسية، وفي تقديرات المحللين والمراقبين.

الحسابات والتقديرات كانت تنطلق من اعتبار منطقة شرق أوكرانيا، وبدرجة أقل منطقة الجنوب الشرقي، الخاصرة الرخوة لكييف في أي مواجهة عسكرية مع روسيا، بناء على كون نسبة كبيرة من السكان المحليين هناك من أصول روسية، والتشكيك في مدى ولائهم للحكومة الأوكرانية، والارتباط الوثيق تاريخياً بين روسيا وهذه المناطق سياسيا واقتصادياً، ووجود نزعة انفصالية وقومية راديكالية قوية تغذيها وتدعمها موسكو.

والخطأ هنا ليس في وجود تلك الظواهر من عدمه، فهي موجودة بالفعل، لكن يبدو أنه تمت المبالغة في حجمها وقوة تأثيرها في أوساط المواطنين الأوكرانيين من أصول روسية، ويعود ذلك إلى عدم رصد وتحليل التغيرات التي طرأت عليها خلال السنوات الماضية.

ويؤكد ما سبق صمود وحدات الجيش الأوكراني ولجان المقاومة الشعبية، وخوضها مواجهات قوية وعنيفة في لوغانسك ودونيتسك ومدينتي خاركيف وماريوبول، وما كان ذلك ليتحقق لولا وجود حاضنة شعبية واسعة داعمة للجيش الأوكراني والمقاومة، ورافضة للحرب الروسية.

وهذا يفسر بدوره لماذا استبعدت موسكو خيار شن حرب هجينة ضد كييف، وإدارة حرب بالوكالة عبر الانفصاليين الموالين لها، وسبب فشل كل المحاولات التي بذلتها خلال السنوات الثماني الماضية لتحويل مشاريع الانسلاخ الثقافي كأداة لإدماج سكان المنطقة سياسياً مع روسيا.

وقبل ذلك لماذا فشلت روسيا عام 2014 في تمكين الانفصاليين من الحفاظ على المناطق التي سيطروا عليها في شرق أوكرانيا، مثل مدن كسلافياسك وكراماتورسك وزديرجينسك وكونستانتينوفكا وغيرها.

تلاعب بالوقائع والأرقام

من أسباب الفشل، محاولة روسيا التعمية على النسب الحقيقية للسكان المحليين من أصل روسي في لوغانسك ودونيتسك، كون اللغة الرئيسية في المنطقتين هي الروسية.

ويبلغ العدد الإجمالي لسكان منطقة لوغانسك 2.2 مليون نسمة، حسب إحصائيات عام 2014، يشكل الأوكرانيون منهم ما يقارب 58 في المائة والروس 39 في المائة. ويبلغ العدد الإجمالي لسكان منطقة دونيتسك 4.3 ملايين نسمة، يشكل الأوكرانيون منهم ما يقارب 57 في المائة والروس 38 في المائة.

ومن الأسباب أيضاً، النتائج السلبية لسياسات روسيا القائمة على عزل المناطق التي يسيطر عليها الانفصاليون عن باقي الأراضي الأوكرانية، بهدف إدماجها سياسياً واقتصادياً وثقافياً مع روسيا، ومنح أكثر من 820 ألف نسمة من سكان المنطقة الجنسية الروسية والسماح لهم بالتصويت في الانتخابات الروسية، والحصول على امتيازات مثل معاشات تقاعدية وضمان اجتماعي وتسهيلات للدخول في سوق العمل الروسي. إلا أن نسبة وازنة من سكان تلك المناطق بقيت تفضل الارتباط بأوكرانيا. 

شخصية وطنية أوكرانية

كما ثبت عدم دقة مقولة وجود ارتباك كبير لدى سكان شرق أوكرانيا، بين جنسيتهم الأوكرانية والتأثير الروسي المكثف، ما يدفعهم للميل إلى جانب من ستكون له الغلبة.

فالمقاومة القوية للغزو الروسي في هذه المنطقة ضد الغزو الروسي، أكدت أن هذه المقولة مبالغ فيها، وأن الغالبية تتمسك بالانتماء إلى أوكرانيا، على الرغم من الإشكالات والتقلبات والتحديات، السياسية والاقتصادية، التي عانت منها البلاد منذ استقلالها.

وأوكرانيا استطاعت أن تُدخل إصلاحات هيكلية واسعة أرست أسس التداول السلمي للسلطة، وهامشاً ديمقراطياً واسعاً، بالمقارنة مع روسيا وغالبية دول الاتحاد السوفييتي السابق.

وخلال ثلاثة عقود من الاستقلال نظّمت كييف سبع عمليات انتخابية رئاسية تداول فيها السلطة ستة رؤساء، بالإضافة إلى ألكساندر تورتشينوف الذي انتخب كرئيس مؤقت من البرلمان عام 2014، بعد فرار الرئيس فيكتور يانوكوفيتش.


نسبة وازنة من سكان دونباس تفضّل الارتباط بأوكرانيا

وبينما تشكّل السياسات التي ينتهجها بوتين عاملاً نابذاً للأوكرانيين ككل، يبدو أن السنوات الماضية شهدت اندماج الناطقين باللغة الروسية داخل مجتمعهم بمعدل تسارع أكبر بكثير مما كان متوقعاً، ويرون أن مستقبلهم سيكون أفضل مع أوكرانيا، التي سيتيح لها انضمامها للاتحاد الأوروبي فرصاً كبيرة لاستنهاض أوضاعها الاقتصادية.

وبالتالي لا تستطيع روسيا ضمان ولاء السكان المحليين في منطقة شرق أوكرانيا ككل، ولم يكن باستطاعتها المراهنة على خوض حرب هجينة ضد أوكرانيا من إقليم دونباس، في وقت ثبت فيه خفوت الدعوات الانفصالية حتى في أوساط المؤيدين للتيارات والأطر المصنفة كمؤيدة لروسيا. وهذا ليس جديداً فقد دلت استطلاعات للرأي عام 2014 على ضعف رغبة سكان شرق أوكرانيا في الانفصال.

شكوك في النجاح بضم دونباس

وبدا واضحاً أيضاً أن قدرة الانفصاليين على تعبئة الأقلية الروسية محدودة جداً. ويؤخذ على موسكو أن دعايتها لم تكن مقنعة في شرق أوكرانيا، وطُرحت العديد من الأسئلة حول مدى تحكمها بتوجهات سكان المنطقة.

ولهذا كان وما زال من المشكوك به أن تنجح موسكو في تأمين غطاء سياسي لضم دونباس من خلال إجراء استفتاء كما فعلت في شبه جزيرة القرم عام 2014.

وتطرح اليوم أسئلة حول إمكانية أن يستتب لروسيا الأمر في هذه المنطقة مستقبلاً بعد السيطرة عليها عسكرياً. ناهيك عن أن الاحتلال سيكون مكلفاً مادياً، لأن على روسيا أن تتحمل المسؤوليات التي ستلقى على عاتقها كدولة محتلة، كإدارة وتشغيل المرافق العامة، وتوفير الاحتياجات الأساسية للسكان من إمدادات الطاقة والتدفئة والمواد الغذائية والأدوية، وهي مهمة صعبة ويزيد من صعوبتها العقوبات الاقتصادية القاسية التي فرضت على روسيا.


أنتجت العقود الثلاثة شخصية وطنية أوكرانية تفضّل التوجه غرباً

ومن الواضح أن المقاومة العنيفة في مناطق جنوب وشرق أوكرانيا وتكاتف جميع الأوكرانيين على اختلاف انتمائهم العرقي لصدّ الهجوم الروسي، كشفت أن العقود الثلاثة الأخيرة أنتجت شخصية وطنية جامعة لمعظم الأوكرانيين تراهن على الخيار الأوروبي والتوجه غرباً.

والأرجح أن الأيديولوجية القومية المتشددة ذات اللبوس الديني التي انتهجها بوتين في السنوات الأخيرة، والتضييق على الحريات والعودة إلى سنوات القمع الستاليني (أيام الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين بين عامي 1922 و1952) في مجال قمع الصحافة الحرة والمعارضين السياسيين، ساهمت في التقليل من جاذبية النموذج البوتيني في الحكم، ومقاومة محاولة فرضه على أوكرانيا التي تنفست نسائم الحرية منذ "الثورة البرتقالية" في 2004.

هذا الوضع يفرض على بوتين، المولع بمحاضرات التاريخ القديم والمعاصر لروسيا، إجراء مراجعة شاملة لأفكاره لا تنطلق من أن التاريخ "جثة هامدة"، فالأسس التي بنى عليها سرديته التاريخية بشأن عدم وجود دولة أوكرانية، عفا عليها الزمن.

ويبدو أن "الأخوّة" التي طالما تحدث عنها بوتين بين الروس والأوكرانيين تلقت ضربة قاتلة نتيجة العملية العسكرية الشرسة التي حوصرت فيها المدن وقصفت بالصواريخ، ولم يتم فتح ممرات إنسانية إلا بعد مفاوضات مع قيادة أوكرانيا الحالية.

ولعل الأخطر أن باقي بلدان الاتحاد السوفييتي السابق، التي تضم أقليات روسية وازنة، باتت تخشى من طموحات "سيد الكرملين" الراغب في إعادة أمجاد الإمبراطورية الروسية، ما قد يتسبب في نظرة أخرى للروس هناك على أنهم "قنابل بوتين الموقوتة" لزعزعة استقرار أي شعب يحلم بالديمقراطية والتوجه نحو الطريق الأفضل من دون إملاءات "الأخ الأكبر".

وفي المعادلة الداخلية فإن تأثيرات الحرب يمكن أن تتسبب في زيادة مخاوف القوميات الصغيرة في روسيا والتي عانت كثيراً في عهد القياصرة، خصوصاً أن روسيا دولة متعددة القوميات بما تضمه من روس وتتار وأوكرانيين وغيرهم من شعوب الاتحاد السوفييتي السابق.