لم تتأخر روسيا كثيراً في إبراز انحيازها، وإن بطريقة غير مباشرة، للعسكر في السودان الذين قادوا انقلاباً الإثنين الماضي، وأعلنوا حالة الطوارئ في البلاد وحل مجلسي السيادة والوزراء، فضلاً عن اعتقال رئيس الحكومة عبد الله حمدوك، وعدد آخر من الوزراء والمسؤولين. وتجلى وقوفها في الصف المقابل للحكم المدني بوضوح من خلال رفض اعتبار ما حصل في السودان انقلاباً من الأساس، إن كان في التصريحات الواردة على لسان مسؤولي الكرملين أو في مجلس الأمن الدولي، الذي عقد اجتماعاً مغلقاً حول السودان أول من أمس الثلاثاء، وفشل في إصدار موقف موحّد بسبب تباين وجهات نظر أعضائه حول الأحداث، وبشكل أدق تباين وجهة نظر روسيا عن معظم الأعضاء الآخرين، الذين دانوا ما اعتبروه انقلاباً عسكرياً. لا بل إن موسكو ذهبت أبعد من ذلك، بالدعوة إلى "وقف العنف من جميع الأطراف على الأرض"، علماً بأن العنف مصدره القوات الأمنية التي عمدت للتصدي بعنف لرافضي الانقلاب وحتى باستخدام الرصاص الحي ضدهم، ما أوقع عدداً من الضحايا، وفق ما رصدت مختلف التقارير. واستثمار روسيا في الانقلابات العسكرية والبيئة الدكتاتورية ليس أمراً مستجداً، وفي الحالة السودانية، يبدو أنها تراهن على مكاسب قد تحصدها بعد رحيل عبد الله حمدوك الذي تعتبره رجل الغرب في السودان، ومن بين هذه المكاسب إعادة تحريك ملف إنشاء قاعدة روسية على البحر الأحمر، فضلاً عن اغتنام الضغوط الأميركية على قائد الانقلاب عبد الفتاح البرهان، في حال لم يستجب الأخير للمطالب بالعودة لمسار الانتقال الديمقراطي وبدأ يبحث عن بدائل لدعم نظام حكمه، لتقدم نفسها.
تعتبر موسكو عبد الله حمدوك رجل الغرب في السودان
وتبنت روسيا منذ البداية موقفاً مغايراً عن القوى الدولية بشأن الأحداث في السودان، لكن موقفها الأكثر وضوحاً وصراحة برز على لسان نائب السفير الروسي لدى الأمم المتحدة، ديمتري بوليانسكي، الذي قال في حديث مع "العربي الجديد" في نيويورك، قبل جلسة مغلقة لمجلس الأمن حول السودان أول من أمس، إنه "من الصعب وصف ما حدث في السودان بالانقلاب العسكري، فهناك تعريف معيّن للانقلاب العسكري، وهناك أوضاع مشابهة في الكثير من المناطق في العالم ولا تسمى انقلاباً عسكرياً... البعض يسميها تغيير حكم. علينا أن نرى، ولكن يجب أن يقرر الشعب السوداني بنفسه ما إذا كان هذا انقلاباً عسكرياً أم لا". وتعليقاً على تصريحات للأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، حول "وباء الانقلابات"، وصف بوليانسكي ما يجري بأنه عنف من أطراف مختلفة، وأضاف "هذه ليست مهمتنا (كمجلس الأمن) أن نطلق مسميات معينة على تلك الأحداث"، مشيراً إلى أنه "يجب أن تناشد الأمم المتحدة (جميع الأطراف) بوقف العنف والعودة إلى الحوار".
ولفت إلى أن "العنف من جميع الأطراف غير مقبول ويجب أن يتوقف وهذه رسالتنا". وحول ما إذا كان لديه تعليق على حقيقة أن الجيش يهاجم المتظاهرين السلميين قال "بحسب علمي، فإن الهجمات تشن كذلك من قبل المتظاهرين، وليس من قبل الجيش فقط. وبحسب ما يمكنني رؤيته، فإنّ هناك كذلك تظاهرات غير سلمية. ولذلك يجب أن يتوقف العنف من قبل جميع الأطراف".
وقبل ذلك بساعات، قال المتحدث باسم الكرملين، ديميتري بيسكوف، أول من أمس الثلاثاء، إن "مواطني السودان أنفسهم يتعين عليهم التعامل مع الوضع القائم في بلدهم"، مؤكداً في الوقت نفسه أن "روسيا تتمنى عودة الأطراف السودانية إلى المجرى الدستوري في أسرع وقت، وندعو بالطبع جميع الأطراف إلى ضبط النفس".
أما التعليق الأول للخارجية الروسية، الإثنين الماضي، فاكتفى بتوصيف الأوضاع وسرد الأحداث من وجهة نظر "محايدة"، ورأى أن ما حصل دليل "على أزمة حادة وشاملة، ونتيجة طبيعية لسياسة فاشلة تم اتباعها خلال العامين الماضيين، تجاهلت فيها السلطات الانتقالية ورعاتها ومستشاروها الأجانب حالة اليأس والبؤس التي عانت منها الغالبية العظمى من السكان". ونددت الخارجية بـ"التدخل الأجنبي الكبير الذي أدى إلى فقدان ثقة مواطني السودان بالسلطات الانتقالية، ما تسبب باندلاع احتجاجات متكررة، وأثار حالة من عدم الاستقرار العام في البلاد".
تبقي روسيا تصريحاتها حمالة أوجه، للحفاظ على العلاقات مع الطرف المنتصر لاحقاً
ومن الملاحظ أن الموقف الروسي يواصل، في العلن، الإمساك بالعصا من المنتصف، ولا يريد تحميل أي طرف مسؤولية الأحداث بشكل مباشر، مع الابقاء على هامش للتواصل مع الطرف الرابح ضماناً للمصالح الاستراتيجية. وتنطلق روسيا من أن أي طرف ستميل له الكفة في الصراع الداخلي، سيكون بحاجة إلى علاقات خارجية، ولذلك تبقي تصريحاتها متوازنة وحمّالة أوجه، للحفاظ على العلاقات مع الطرف المنتصر لاحقاً، خصوصاً أن لها تجربة تعاون لعشرات السنوات مع السودان.
ولكن يمكن رصد أن الموقف الروسي أكثر ميلاً إلى الجيش وانتصاره، خصوصاً أن موسكو تعتبر عبد الله حمدوك مقرباً من الغرب، وتعاملها أفضل مع العسكريين، مع ملاحظة أنها أيضاً تتوجس من أن عبد قائد الانقلاب الفتاح البرهان ذو ميول إسلامية.
وتسعى روسيا وسط كل ذلك، للمحافظة بالدرجة الأولى على مصالحها في السودان، وعلى رأسها بناء القاعدة العسكرية في بورتسودان شمال شرقي البلاد على البحر الأحمر، وضمان عقود التسليح والتدريب والاستثمارات في الذهب واليورانيوم، والتنقيب عن الذهب. كما أن العلاقة مع السودان مهمة جداً بالنسبة لموسكو، وتحديداً في ظلّ الجهود الروسية في السنوات الأخيرة للعودة بقوة إلى القارة الأفريقية.
وتعود النقاشات حول مشروع إنشاء قاعدة بحرية روسية في السودان إلى نهاية العام الماضي، حين تم الإعلان عن توقيع موسكو والخرطوم على اتفاقية لإنشاء نقطة الدعم المادي - الفني للأسطول البحري الحربي الروسي في السودان، على ألا يزيد عدد الأفراد الروس فيها عن 300. إلا أن مشروع القاعدة واجه مصيراً مجهولاً بعد إعلان الجانب السوداني مطلع الصيف الماضي، عزمه إعادة النظر في الاتفاقية، كما تزيد الاضطرابات السياسية الحالية من الغموض حول تحقيقه على أرض الواقع.
في السياق، اعتبر الخبير في "المجلس الروسي للشؤون الدولية" (منظمة غير ربحية معنية بدعم اتخاذ القرار في مهام السياسة الخارجية)، سيرغي بالماسوف، في حديث مع "العربي الجديد" أن "روسيا لا تعبر عن انحيازها لطرف على حساب آخر، بل تترقب نتائج الأزمة، استعداداً للعمل مع أي قوة أو سلطة في هذا البلد". وأضاف "تدرك موسكو أن سقوط الأنظمة الاستبدادية يؤدي إلى سنوات طويلة من حالة عدم الاستقرار، مثلما حدث في العراق وليبيا واليمن، وهذا ما يجري حالياً في السودان في أعقاب سقوط الرئيس عمر البشير بعد ثلاثة عقود من حكمه. كما أن هناك إدراكاً في روسيا أن انفصال جنوب السودان في عام 2011، قد لا يكون آخر محطة في تفكك هذا البلد الذي أنشئ اصطناعياً على أطلال الإمبراطوريات الاستعمارية".
وحول أهمية مشروع إنشاء قاعدة بحرية في السودان بالنسبة إلى روسيا، أوضح بالماسوف أن "هذه القاعدة هي مشروع سياسي أكثر منه عسكري، إذ إنها مجتمعة مع القواعد الروسية في سورية، تعني قدرة روسيا على السيطرة على مداخل قناة السويس إذا اقتضى الأمر، وهذه رسالة إنذار واضحة إلى أوروبا".
ولا يستبعد بالماسوف احتمال انخراط روسيا في الأحداث السياسية بواسطة الشركات العسكرية الخاصة، قائلاً: "يؤدي ضعف السلطة إلى ظهور قوى أجنبية، ويمكن لشركات عسكرية خاصة روسية، أن تؤدي دوراً في السودان، مثلما استعانت السلطات الجديدة في مالي المشكلة بعد الانقلاب الأخير هناك، بشركة فاغنر العسكرية الخاصة. ولكن المشاركة الرسمية الروسية في التطورات في السودان أمر مستبعد في ظل انعدام الرؤية حول الطرف الذي يمكن إجراء الحوار معه. ولذلك لا مجال لمقارنة السودان مع سورية التي توجد بها حكومة واحدة معترف بها أممياً"، بحسب قوله.
ولفت بالماسوف إلى "تشابك مصالح العديد من القوى الإقليمية في السودان"، مشيراً مثلاً إلى "تخوّف إسرائيل من استخدام إيراني للسودان كمنصة لتزويد حركة حماس في قطاع غزة بالسلاح".
تسعى روسيا للمحافظة بالدرجة الأولى على مصالحها في السودان
من جهته، رأى الباحث في "مركز بحوث أميركا الشمالية" في معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية التابع لأكاديمية العلوم الروسية، والخبير في المجلس الروسي للشؤون الدولية، إيليا كرامنيك، أن "أي مشاريع عسكرية واقتصادية كبرى في البلدان الأفريقية، يجب أن تكون لها قاعدة متمثلة بالعلاقات مع النخب، مما سيتيح مواصلتها بصرف النظر عمن سيصل إلى السلطة نتيجة لانقلاب جديد"، مضيفاً في حديث مع صحيفة "لينتا رو" الإلكترونية الروسية أول من أمس الثلاثاء: "ببساطة لأنه في حال عدم توفر هذه القاعدة للتجذر أو القدرة على حماية المصالح في البلاد، فيمكن خسارة أي استثمارات وعلى وجه السرعة. روسيا لها مصالح عسكرية واقتصادية كبرى في السودان، وهناك مجال للأمل في أنّ لاعبينا الاقتصاديين الكبار، وبالطبع الجهات العسكرية، تعلم ماذا تفعل ومع من تتعامل ومستعدة لمثل هذا التطور للأحداث".
وشدد كرامنيك على أنه "بصرف النظر عما يجري في السودان، فإن موسكو لديها اهتمام طويل الأجل بأفريقيا ومياه البحر الأحمر التي تطل بعض الدول الأفريقية عليها"، معتبراً أنه "حتى إذا لم يتم إنشاء قاعدة روسية في السودان، فهذا ليس سبباً للتخلي عن فكرة إنشاء قاعدة في بلد أفريقي ما، مما سيتيح لنا ضمان مصالحنا الاقتصادية".