قبل ستة أشهر من موعد الانتخابات الرئاسية، المقررة في الربيع المقبل، يستعر السباق الانتخابي مبكراً، في فرنسا، حيث يترشح الرئيس إيمانويل ماكرون، عن حزب "الجمهورية إلى الأمام"، لولاية ثانية، خصوصاً بعدما بات مسار هذا الاستحقاق ينبئ بإمكانية حصول مفاجآت غير متوقعة. وليس وحده الإعلام الفرنسي من يتحمل مسؤولية تحمية المنافسة الرئاسية في هذا البلد، حتى مع انتظار الترشيحات النهائية. فالمرشحون الرئاسيون، الذين أعلنوا نيتهم خوض السباق رسمياً، أو ممن لا يزالون مرشحين محتملين، لا يغادرون شاشات التلفزة، أو منابر الإذاعات الفرنسية، وسط تراشق في الاتهامات، حول أسباب انحدار السياسة الفرنسية، من دون تقديم رؤى واضحة أو استراتيجيات تعبّر عن توجه حزبي جدّي لإخراج فرنسا من عنق عقد أو أكثر من الزمن، كان حافلاً بأسباب شتى، لبروز أزمة عميقة، جعلت الدولة التي تحتل مقعداً في مجلس الأمن الدولي في حالة تراجع مستمر، يصفها البعض بـ"الأفول". وفيما ينظر الفرنسيون إلى الاستحقاق الرئاسي المقبل، الذي يجري دوره الأول في 10 إبريل/نيسان المقبل، من زوايا عدة، تتصدرها المشاغل المحلية، مع تراجع شعبية ماكرون وحزبه، تغذي وجوه مثيرة للجدل هواجس الألفية الثالثة لدى الفرنسيين، والتي بدأت بالأزمة والانكماش الاقتصادي عام 2008، ثم تعمقت مع الاعتداءات الإرهابية التي ضربت البلاد خلال الأعوام الماضية، إلى موجات اللجوء التي عزّزت مشاعر رهاب المهاجرين، بعدما أعاد ماكرون نفسه جدل الإسلاموفوبيا إلى الواجهة. ويدلّ البروز المحتمل لأكثر من مرشح في اليمين المتطرف، على حدّة الانقسامات في البلاد، فيما كان قد يكون عاملاً مساعداً لعودة الوجوه اليمينية "المعتدلة" إلى الساحة.
ينبئ مسار الانتخابات بإمكانية حصول مفاجآت غير متوقعة
وفيما يركز ماكرون على خطاب فرنسي - أوروبي، ويحاول إبراز نفسه كالزعيم الأوروبي الأكثر حماسة لتمكين الاتحاد الأوروبي من قدراته، والاستقلالية عن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، يسعى التيار "السيادي" داخل فرنسا إلى التموضع كبديل عن الثنائية السياسية المهيمنة حالياً على الساحة، والتي تتجلى في المنافسة بين ماكرون وحزب "الجبهة الوطنية" اليميني المتطرف، بزعامة مارين لوبن. ويضمّ هذا التيار وجوهاً على ضفتي اليمين واليسار، منهم وجوه مرشحة للرئاسة، أدركت أن السياسة الفرنسية بمفهومها التقليدي، كانقسام بين الاشتراكيين واليمينيين، قد استنفدت نفسها، وهي تسعى إلى فرض انقسام ومنافسة جديدة يتمحوران حول قضية السيادة الوطنية، ولكن من دون منح السلطة إلى لوبن، ضمن من أصبحوا يعرفون بالـ"ديغوليين" الجدد. ووسط التذبذب الشعبي، تحمل استطلاعات الرأي الجارية على قدم وساق، معطيات قد تأخذ السيناريو الانتخابي في العام المقبل إلى غير المتوقع له، والمتمثل في أن ينتقل ماكرون ولوبن إلى الدور الثاني من الانتخابات، وهو ما كان مرجحاً قبل عام فقط، على أن يفوز ماكرون بالرئاسة بفضل الحزام الذي توفره في العادة الأحزاب التقليدية، لمنع لوبن و"الجبهة الوطنية" من الوصول إلى الإليزيه.
ولا يزال ماكرون متقدماً في استطلاعات الرأي على جميع المرشحين المعلنين والمفترضين، ولو بفارق ضئيل، حتى مع التراجع في شعبيته، والنكسات المتتالية التي أصابت عهده، من أزمة السترات الصفراء إلى كورونا، وصولاً إلى فشله في تحقيق أي إنجاز يحسب له على الصعيد الدولي.
وتقع في صلب "المفاجآت" المتعلقة بالاستحقاق الرئاسي المقبل، حالة الضمور والتراجع التي تفتك بالاشتراكيين واليسار الفرنسي. إذ يبدو السجال الانتخابي في الجمهورية الفرنسية دائراً في فلك اليمين. فحتى انتخابات البيئيين الخضر التمهيدية، أفرزت يانيك جادو، الوسطي، والنائب الأوروبي المدعوم من التيار اليميني للأوروبيين البيئيين، مرشحاً للرئاسة، على حساب الراديكالية البيئية، الاقتصادية ونائبة الرئيس السابقة لمنطقة أو دو فرانس، ساندرين روسو. وقد كان ربما أمل الاشتراكيين هو فوز روسو بانتخابات الخضر، لكي يواصلوا تموضعهم كـ"وسطيين"، ما قد يعينهم انتخابياً، لا سيما بعد الانشقاقات التي أحدثتها في داخلهم "حالة ماكرون" قبل أعوام. ويرفض جادو، الذي أنهى حملته الانتخابية في عام 2017 باكراً جداً لدعم مرشح الاشتراكيين حينها للرئاسيات بونوا هامون، التراجع هذه المرة، معتبراً أن على جميع الأحزاب التي تحتل المساحة العامة بين جان لوك ميلونشون، زعيم حزب "فرنسا غير الخاضعة"، المصنف في خانة اليسار الراديكالي، وحزب ماكرون، الالتفاف حوله.
وعلى الرغم من الزخم الذي يبديه للدفع قدماً بطموحاته الرئاسية، يترنح جادو في استطلاعات الرأي، وهو تعادل أخيراً في استطلاع رأي أجرته مؤسسة "هاريس إنتر- أكتيف" ونشر في 6 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، خلف عمدة باريس الاشتراكية، آن هيدالغو (6 في المائة من نوايا التصويت لكل منهما)، التي أطلقت حملتها الرئاسية رسمياً في 12 سبتمبر/أيلول الماضي. ويتضمن برنامج هيدالغو الانتخابي، خطوطاً ومحاور عريضة فقط، يتصدرها "التحول الاقتصادي لمواكبة مرحلة الانتقال البيئي". وفي استطلاع سابق لـ"هاريس"، نشر في 2 أكتوبر، حصلت هيدالغو على 7%، وجادو على 6%، فيما حصل المرشح الاشتراكي الآخر، الوزير السابق أرنو مونتبورغ، على اثنين في المائة.
ينتظر حزب "الجمهوريون" اختيار مرشحه في ديسمبر المقبل
من جهته، ينتظر اليمين الفرنسي المتمثل في حزب "الجمهوريون"، اختيار مرشحه للرئاسة، في ديسمبر/كانون الأول المقبل، حيث أصبح من الواضح أن الحزب سيعقد مؤتمراً مغلقاً لهذا الهدف، في 4 ديسمبر، عوضاً عن تمهيديات مفتوحة. وتضم لائحة المتنافسين للرئاسة، والذين أبدوا رغبتهم في دخول السباق على ترشيح الحزب، كلاً من فاليري بيكريس، رئيسة منطقة إيل دو فرانس، وميشال بارنييه، مفاوض الاتحاد الأوروبي بعملية "بريكست"، وإريك سيوتي، النائب عن الجمهوريين في منطقة ألب ماريتيم، بالإضافة إلى فيليب جوفان، عمدة منطقة غارين كولومب. وأعلن المرشح اليميني كزافييه برتران، رئيس منطقة أو دو فرانس، يوم الإثنين الماضي عبر قناة "تي أف 1"، عزمه الانضمام للتنافس من داخل المؤتمر، بعدما كان رفض الدخول في سباق ضمن تمهيديات مفتوحة، مطالباً بـ"مؤتمر للتجمع وليس للمواجهة" ما يعني ضمنياً دعوة المرشحين الآخرين، إلى سحب ترشحهم والالتفاف حوله. وأراح قرار برتران، الذي يتقدم على المرشحين اليمينيين الآخرين في الاستطلاعات، حزب "الجمهوريون"، بعدما أكد الإثنين أنه "إذا أردت توحيد الفرنسيين (وهو شعاره الانتخابي)، عليّ أن أبدأ من داخل عائلتي".
وفيما حظي ماكرون في آخر استطلاع لـ"هاريس إنتر- أكتيف" بما بين 24 و27 في المائة من نوايا التصويت، وكزافييه برتران بـ13 في المائة، نالت بيكريس 11 في المائة، وبارنييه 7 في المائة. ويبقى الرئيس مستقراً بنسبة من يمنحونه الثقة لإدارة الوضع الاقتصادي (46 في المائة) مقابل 42 في المائة لبرتران، و37 في المائة لمارين لوبن، بتراجع 5 نقاط.
ولا يريد "الجمهوريون" استعادة تجربة 2016، حين خسر الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، الجولة الأولى من مؤتمر الحزب لرئاسيات 2017، ليعود المرشح اليميني الرسمي فرانسوا فيون ويعلن انسحابه من السباق الرئاسي، تحت وطأة فضيحة فساد، علماً أن المرشحين المتقدمين في استطلاعات الرأي عن اليمين، أي برتران وبيكريس، لم يعودا منضويين رسمياً داخل الحزب.
لكن الحزب اليميني، ينشغل اليوم بهمّ آخر، اسمه إيريك زيمور، الكاتب والناقد الصحافي الجدلي، واليميني المتطرف، والذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من إعلان ترشحه لرئاسيات 2022. لكن زيمور يقضّ خصوصاً، مضاجع "الجبهة الوطنية"، لا سيما بعد استطلاع "هاريس إنتر- أكتيف" الأخير، الذي منحه تقدماً للمرة الأولى على لوبن، ورشّحه لأن ينافس ماكرون في الدور الثاني. وحصل زيمور على ما بين 17 و18 في المائة، فيما حصلت لوبن على 16 في المائة.
وبعدما كان زيمور، المعادي للإسلام والمهاجرين، والمؤتمن على أطروحات الكاتب الفرنسي ومنظر اليمين المتطرف، والمروج لنظريات المؤامرة والتفوق الأبيض، أرنو كامو، صاحب شعار "الاستبدال الكبير" (اختفاء الشعب الأبيض الأوروبي والكاثوليكي، لصالح المسلمين والسود والعرب)، يقف جنباً إلى جنب في الاستطلاعات مع ميلونشان، الذي دخل معه في مناظرة تلفزيونية في 23 سبتمبر الماضي، احتفظ الأخير في آخر استطلاع بـ11 في المائة من نوايا التصويت.
وكان حزب "الجمهوريون" قد هاجم زيمور، مستغلاً تعليقاته المتطرفة حول المرأة والهجرة والإسلام. وعلى الرغم من أن "أطروحات" زيمور الشعبوية، أصبحت معروفة ومكرّرة، مستفيدة من حالة القلق لدى الفرنسيين، إلا أنه يواصل سياسة الغموض حول ترشحه، ما جعل اليمين الفرنسي يضع نفسه في موقف دفاعي، ويؤكد أن أيديولوجية الكاتب اليميني المتطرف لا تمثله. على الرغم من ذلك، فإن مؤسسة "هاريس" شرحت أن تقدم زيمور، مرده تصويت شريحة كبيرة من مؤيدي المرشح الرئاسي عن اليمين، في 2017، فرنسوا فيون، له، وكذلك بعض ناخبي لوبن التقليديين. وكان المرشح الرئاسي الحالي عن "الجمهوريون"، إريك سيوتي، قد أعلن أنه سيصوت لزيمور، إذا ما وصل الأخير إلى الدور الثاني من الرئاسيات مقابل ماكرون. وقبل يومين، استنفرت مارين لوبن، في وجه خصمها من اليمين المتطرف، إذ دعت قيادات في حزبها زيمور إلى عدم "تقسيم قوى" اليمين المتطرف (عبر ترشحه)، إذ إن "خصمنا الوحيد اسمه إيمانويل ماكرون".
وكان زيمور قد كتب في آخر إصداراته "فرنسا لم تقل كلمتها أخيراً" أنه قال للوبن إن "النظام (الدولة العميقة) هو الذي يريدها أن تصل دائماً للدور الثاني، لجعل مرشحه يفوز". وهناك من ينظر إلى إمكانية ترشحه، وكأنها أحد ألاعيب "الدولة العميقة" وهنا الحديث عن حزب ماكرون، لتشتيت أصوات اليمين، بعدما أصبح اليمين المتطرف يأكل من حصة "الجمهوريون". علماً أن وصول برتران إلى الدور الثاني هو الأخطر بالنسبة لماكرون.