تزداد الأوضاع سوءاً في ميانمار، بعد نحو أسبوعين من المعارك الضارية بين الجيش ومجموعات معارضة له، مما شرّع الأبواب أمام التحذير من احتمال تقسيم البلاد، وفقاً لرئيس ميانمار، المدعوم من المجلس العسكري الحاكم، ميينت سوي.
ويظهر تحذير ميينت سوي أن الجيش، الذي وصل إلى السلطة بانقلاب عسكري في 1 فبراير/ شباط 2021، ضد الزعيمة المدنية، أونغ سان سو تشي، بات في وضع حرج قبل أشهر من إتمام الانقلاب عامه الثالث.
ومع انتشار المعارك على أبواب الصين الغربية (إقليم شينجيانغ)، تحاول بكين، حليفة الحكم العسكري في نايبيداو، إنهاء القتال في أسرع وقت، لتأثيره الجيوبوليتكي والاقتصادي عليها.
ومع أن سوي نبّه من أن "بلاده تواجه خطر التقسيم"، إلا أنه شدّد على أن ذلك سيحصل في حال "لم يتمكن الجيش من سحق الهجوم المشترك لجماعات عرقية مسلحة"، وفق ما نقلت عنه صحيفة "غلوبال لايت أوف ميانمار"، الخميس الماضي.
مجزرة بلدة لايزا
ومع أن جيش ميانمار يخوض منذ الانقلاب حرباً ضد مجموعات مسلحة معارضة له، سواء مكوّنة من مجموعات إثنية أو من تحالفات سياسية، إلا أنه كان مسيطراً على الوضع، حتى ظهر 9 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، حين ارتكب مجزرة في بلدة لايزا، في ولاية كاشين، على الحدود مع الصين.
دفعت المجزرة التي سقط فيها 29 مدنياً وجرح 57 آخرون إلى إعلان 3 مجموعات إثنية، وهي "جيش أراكان" و"جيش التحالف الوطني الديمقراطي في ميانمار" و"جيش تحرير تانغ الوطني"، اتحادها تحت اسم "تحالف الإخوة الثلاثة" ضد الجيش، وذلك في 27 أكتوبر الماضي، مطلقين "عملية 1027".
استنفر جيش ميانمار كل جنوده واستدعى جميع احتياطييه
أعلن التحالف أسباب إطلاقه العملية، قائلاً إنها تتمحور حول "حماية أرواح المدنيين، والتأكيد على حقنا في الدفاع عن النفس، والرد بحزم على الهجمات المدفعية والغارات الجوية المستمرة التي يرتكبها الجيش، والقضاء على الحكم العسكري القمعي، ومكافحة الاحتيال واسع النطاق في مجال المقامرة عبر الإنترنت، لا سيما على طول الحدود بين الصين وميانمار".
وذكر التحالف أنه تمكن من تحشيد 15 ألف مقاتل لهذه الغاية. وهاجم التحالف قواعد الجيش في منطقة كوكانغ في ولاية شان، على الحدود مع الصين، مسيطراً عليها. وواصل هجومه حتى السيطرة على بلدة تشينشويهاو، التي عبر منها أكثر من ربع التجارة بين ميانمار والصين في الفترة الممتدة من إبريل/ نيسان إلى سبتمبر/ أيلول الماضيين، والبالغة قيمتها 1.7 مليار يورو، وفقاً لبيانات رسمية نشرتها صحيفة حكومية صينية في سبتمبر.
وعلى أثر النجاحات الميدانية لمعارضي الجيش، انضمت مجموعات أخرى إلى التحالف الثلاثي، وهي "جيش استقلال كاشين"، و"جيش تحرير بامار الشعبي"، و"قوات ماندالاي للدفاع الشعبي" و"جيش التحرير الشعبي" و"قوات دفاع القوميات الكارينية".
في غضون ذلك، واصل المعارضون زحفهم على معسكرات ومواقع جيش ميانمار، وسيطروا على 206 قواعد عسكرية ومراكز شرطة في ولايات الشمال، فضلاً عن السيطرة على 3 مدن أساسية على الحدود مع الصين، وهي مونغوكو ونامخام وكونلونغ.
ولم يقتصر القتال على الجبهة الشرقية الشمالية لميانمار، بل امتد إلى الغرب على الحدود مع بنغلادش، في توسع لرقعة المعارك، رغم أن الطريق إلى العاصمة نايبيداو لا يزال طويلاً بالنسبة للمعارضين. ودفع ذلك رئيس المجلس العسكري مين أونغ هلاينغ إلى استنفار الجيش، واستدعاء جميع جنود الاحتياط، بالإضافة إلى الأطباء العسكريين الذين لم يتمموا دراساتهم بعد، للقتال في الخطوط الأمامية.
ووفقاً لموقع "ذا ايراوادي"، الذي يديره منفيون من ميانمار في تايلاند، فإن الجيش أعلن في مايو/ أيار الماضي عن سقوط 21 ألف قتيل في صفوفه منذ انقلاب فبراير 2021، مما ترك له 150 ألف جندي في الخدمة، بينهم 70 ألف مقاتل. وهو ما دفعه، بحسب الموقع، إلى استدعاء 30 ألف احتياطي لسدّ الفجوة القتالية في صفوفه، وذلك قبل حصول التطورات الأخيرة.
ويُظهر هذا الواقع أن الجيش يعاني في الأساس من مشكلة داخلية، على الرغم من اتفاقات التطوير العسكري، التي أبرمها مع الصين وروسيا. وآخر تجليات التعاون مع موسكو وبكين مشاركة الأسطول الروسي في المحيط الهادئ في مناورات بحرية مشتركة مع البحرية الميانمارية في بحر أندامان، بين يومي الثلاثاء والخميس الماضيين، وذلك للمرة الأولى في تاريخ البلدين.
ومن شأن هذه التطورات العسكرية أن تُثير القلق في الصين، بسبب التعددية العرقية في ميانمار، وتأثيرها على الجوار الصيني، خصوصاً أن العديد من المدن والبلدات الحدودية متداخلة في الإطار العائلي والاجتماعي والمهني.
وتنبع مخاطر التقسيم التي أشار إليها سوي من وجود 135 إثنية في البلاد، منتشرة في 7 مناطق و7 ولايات ومنطقتين ذات إدارة ذاتية، وإقليم العاصمة نايبيداو.
وتُظهر خريطة الانتشار العرقي أن عرقية بامار، الكبرى، تشكّل 68 في المائة من سكان ميانمار، البالغ عددهم نحو 57.5 مليوناً، ويتمركزون خصوصاً في وسط البلاد باتجاه الساحل الغربي، بالإضافة إلى الجنوب على الحدود مع تايلاند. وتساند هذه العرقية بنسبة كبيرة الحكم العسكري، رغم وجود مجموعات منها، لكنها صغيرة، مؤيدة للمعارضين.
في المقابل، فإن عرقية شان تنتشر في منطقتين منفصلتين، باتجاه جنوب شرقي ميانمار، وغرب شمالي البلاد، وتشكل 9 في المائة من سكان ميانمار. تؤيد هذه العرقية بنسبة كبيرة المعارضين.
أما العرقية الكارينية (المكونة من صينيين ينتمون إلى التيبت المعارضين لبكين)، فتتمركز خصوصاً على الحدود مع تايلاند باتجاه الجنوب، مع جيوب متفرقة في مناطق عرقية بامار. وتشكل هذه العرقية نحو 7 في المائة من السكان، وتؤيّد المعارضين.
أكدت بكين أنها "ستضمن أمن واستقرار الحدود بين الصين وميانمار"
في المقابل، فإن العرقية الصينية، التي تُعدّ 2.5 في المائة من السكان، فتجاور الصين لجهة الشرق، في منطقتين حدوديتين، وتناصر المواقف الصينية. أما باقي العرقيات فإن مجموعها يشكل 13.5 في المائة من سكان ميانمار.
سيناريو تقسيم ميانمار
وفي حال تحقق سيناريو تقسيم ميانمار، فإن شكل الخريطة في الواقع الجغرافي والسياسي والاقتصادي سيتبدل. الصين مثلاً، ستصبح جارة لدولتين مجهولتي المعالم، رغم أن أساسهما سيكون لعرقيتي شان وكاشين، عوضاً عن الدولة الواحدة ـ ميانمار، الحليفة.
وهو ما سيؤثر سلباً على "طريق الحرير" الصيني. ولم تخرج أدبيات بكين عن الإشارة إلى ذلك، منذ تدهور الأوضاع الأمنية في ميانمار، وإيفادها مسؤولين أمنيين، وتأكيدها على تفعيل "اتفاقات التعاون الأمني"، مما قد يفضي إلى تدخلها في دولة مجاورة، للمرة الأولى في التاريخ الحديث.
وفي السياق، أصدرت وزارة الخارجية الصينية بياناً أمس الجمعة، اعتبرت فيه أن "الاشتباكات الحالية لم تؤثر على خط أنابيب النفط والغاز في ميانمار"، مؤكدة أنها "ستضمن أمن واستقرار الحدود بين الصين وميانمار". وحثت الخارجية "جميع الأطراف في ميانمار على وقف القتال فوراً"، بينما "نصحت" المواطنين الصينيين في ميانمار بتجنب الخروج في المناطق التي تشهد صراعات "شرسة".
كذلك يشكل سيناريو "الدويلات" قلقاً لدى بانكوك، على اعتبار أن الحدود التايلاندية مع ميانمار تضمّ أكثرية كارينية. في المقابل، فإنه في حال تحقيق "جيش أراكان" أحلامه، بالسيطرة على الجزء الغربي من ميانمار، أي ولاية راخين، فإنه سيهيمن على جزء كبير من الخط التجاري البحري.
ويُظهر ذلك أن التقسيم بصيغة عرقية لن يؤدي فقط إلى قطع الطريق التجاري على الصين، بل أيضاً فإن أي تقسيم لميانمار على أساس دويلات عرقية سيؤجج المشاعر نفسها في الصين، خصوصاً في شينجيانغ والتيبت.
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز)