بإعلان رئيس السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات في الجزائر محمد شرفي اعتماد الدستور الجديد، بعد حصوله على موافقة 66.8 في المائة من الناخبين الذين صوتوا في استفتاء الأحد، بات "دستور نوفمبر 2020" في حكم الأمر الواقع، في انتظار ترتيبات إجرائية قبل أن يصبح ساري المفعول، لكنه لم يشذ عن صفة ظلت لصيقة بالدساتير الجزائرية وهي "دستور الأزمة".
وعرفت الجزائر منذ الاستقلال أربعة دساتير، خامسهم هذا الدستور الذي جرى الاستفتاء عليه أمس الأحد، ولكلّ دستور قصة وظروف سياسية واجتماعية حكمت بوجوده، وحدّدت مضمونه وتوجهاته، ومع كل دستور يعيد هيكلة التنظيم السياسي للبلاد والبناء المؤسساتي للدولة، ظلّت مشكلات النظام قائمة وأزماته السياسية مستمرة.
وحصلت الجزائر على أول دستور لها في سبتمبر/أيلول 1963، بعد استفتاء شعبي سبقته أزمة سياسية حادة بين المجلس التأسيسي والحكومة التي كان يرأسها الرئيس أحمد بن بلة، والذي كان يمسك بقبضة الحزب الوحيد، "جبهة التحرير الوطني"، حول أحقية الجهة التي تتولى صياغة الدستور. وكرّس هذا الدستور التوجهات الاشتراكية للدولة الجزائرية، وأقرّ وضع الحزب الواحد، "جبهة التحرير الوطني"، إطارا سياسيا طلائعيا وحيدا في البلاد.
في الخامس من يونيو/حزيران 1965، قاد الرئيس الراحل هواري بومدين انقلاباً على الرئيس أحمد بن بلة، وأعلن تعطيل العمل بالدستور وحلّ المجلس التأسيسي، وحكم بومدين البلاد عبر مجلس الثورة وبالمراسيم الرئاسية، لغاية طرح مشروع ميثاق وطني جرى بشأنه نقاش شعبي ومجتمعي واسع، تمخضت عنه صياغة دستور جديد للبلاد في نوفمبر/تشرين الثاني 1976، تضمن تجديد الخيارات الاشتراكية والاجتماعية للدولة، وإعادة تنظيم مؤسسات الدولة، كما أبقى على نظام الحزب الواحد.
وبعد انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 1988، اضطر الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد إلى الإعلان عن إصلاحات سياسية بدأت بطرح دستور جديد في 23 فبراير/شباط 1989، أنهت عهد الحزب الواحد الذي حكم البلاد بعد الاستقلال، وسمح للمرة الأولى بالتعددية السياسية وحق إنشاء الأحزاب والنقابات والجمعيات والصحف المستقلة، ومثّل هذا الدستور ثورة حقيقية في الجزائر، التي طوت بفضله مرحلة أولى من عمرها السياسي كدولة ناشئة.
في عام 1994، اعتلى الرئيس ليامين زروال سدة الحكم رئيسا للدولة، ثم انتُخب عام 1995 رئيساً للجمهورية، وطرح عاماً بعد ذلك دستوراً جديداً للاستفتاء الشعبي، في نوفمبر/تشرين الثاني 1996، كان بمثابة دستور أزمة، في ظل فتنة دامية كانت تشهدها الجزائر، تضمّن خصوصاً إنشاء مجلس الأمة كغرفة ثانية للبرلمان، يعيّن ثلثي أعضائه الرئيس، لتعطيل أية قوانين لا تروق للسلطة، على خلفية تجربة سيطرة الإسلاميين على البرلمان في انتخابات 1991، كما حظر إنشاء الأحزاب على أساس ديني أو عرقي.
وعلى الرغم من وعود أطلقها خلال حملته الانتخابية الأولى عام 1999 بطرح دستور جديد، فإن الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة لم يصدر دستوره، لكنه حوّل الدستور إلى "كراس محاولات"، إذ أقدم على سلسلة تعديلات فرضتها ظروف سياسية، مرّرها كلها على غرفتي البرلمان من دون عرضها على الاستفتاء الشعبي، كان أولها تعديل عام 2005، الذي أدخل فيه اللغة الأمازيغية لغةً وطنيةً في الدستور، بعد تفاهمات سياسية مع ممثلي سكان منطقة القبائل وكتسوية سياسية للأزمة العنيفة التي شهدتها منطقة القبائل عام 2001. وبعدها بثلاث سنوات، أعاد بوتفليقة تعديل الدستور بإلغاء مادة كانت تحدّ من إمكانية ترشحه لانتخابات الرئاسة التي جرت عام 2009، قبل أن يقدم على تعديل دستوري ثالث عام 2016، أعاد فيه حصر العهدات الرئاسية في عهدتين، وصنّف الأمازيغية لغةً وطنيةً ورسميةً.
وتشترك الدساتير الجزائرية الخمسة والتعديلات التي أدخلت عليها، إضافة إلى طرحها من جانب واحد من قبل السلطة من دون توفر أية توافقات سياسية مسبقة، في كونها "دساتير أزمة"، إذ كان كلّ دستور ينتهي بالبلاد إلى حالة أزمة سياسية، ليُطرح دستور بديل يفك الأزمة الدستورية. فإذا كان دستور 1963 وليد فجر الاستقلال وأزمة حادة بين الحكومة والمجلس التأسيسي في دولة خرجت لتوها من حرب التحرير، فإن دستور 1976 جاء في خضم محاولة إصلاح سياسي أعقبت الانقلاب الذي أطاح بالرئيس الأول أحمد بن بلة، وجاء دستور عام 1989 في أعقاب انتفاضة أكتوبر 1988 التي نشبت بسبب أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة، وتلاه دستور عام 1996 الذي طُرح في خضم أزمة سياسية دامية وتفجر مسلسل الإرهاب، فيما يُطرَح دستور نوفمبر 2020 بعد حراك شعبي وثورة شعبية ضد النظام السياسي.